تطوير الثقافة.. من الأفكار إلى المشروعات
د. ياسر ثابت
- التغيير الثقافي مهم لإيجاد ثقافة حاضنة للمواطنة، وهو ما يتطلب تغييرًا بنائيًا على مستوى التأسيس القانوني، وتطبيق النص في الواقع، والممارسة التفاعلية بين المواطنين
- كثير من المثقفين أصيبوا في العقود الأخيرة بخيبة أمل كبيرة، وبإحباط شديد، لاعتباراتٍ كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مسّت وظيفة المثقف وصورته في المجتمعات العربية
- من المقترحات التى قد تمثّل حلولًا لإنعاش هيئة الثقافة في المرحلة المقبلة، إلغاء النشر الحكومي، ودعم الورق وتسهيل عملية الطباعة للنشر الخاص، واعتبار هيئة الكتاب جهة نشر استراتيجية
على عتبة التغيير والرغبة في التطوير، تحتاج الثقافة في مصر إلى مراجعاتٍ هادئة ومصارحاتٍ كاشفة.
ربما تكون نقطة البداية من تحرير الثقافة من التكوين النخبوي، وذلك بأن تصبح عملية مفتوحة وحُرة للمثقفين الحقيقيين على اختلاف توجهاتهم، يدافعون عنها ليس لصالح طبقة أو فئة بعينها.
إن تحقيق التنمية الثقافية المرجوة يحتاج بالأساس إلى وضوح الرؤية وإلى استراتيجية محددة وخطط وبرامج عملية تستهدف التنمية الثقافية بشكل عام، وفي الريف بشكل خاص. ولا شك أن نجاح التنمية الثقافية وإقرار ديمقراطية الثقافة رهن بتوافر مقومات ومراعاة اعتبارات واستخدام عناصر وأدوات تُعين على تحقيق هذه التنمية. ومن هنا تتأكد الحاجة إلى وجود سياسة ثقافية وتحديد مقومات لاستراتيجية العمل الثقافي.
في تقديرنا أن السياسة الثقافية الناجحة هي التي تستطيع أن تتأسس على أهم القضايا والإشكاليات الملحة التي يفرضها الواقع ويراها الفاعلون والخبراء ذات أولوية.
بل إن التغيير الثقافي مهم لإيجاد ثقافة حاضنة للمواطنة، وهو ما يتطلب تغييرًا بنائيًا على مستوى التأسيس القانوني، وتطبيق النص في الواقع، والممارسة التفاعلية بين المواطنين.
في هذا الصدد، سبق أن قدَّم وزير الثقافة الأسبق د.عماد أبو غازي رؤية من أجل إصلاح مؤسسات وزارة الثقافة، نراها مهمة وثرية؛ إذ اعتمدت على ثلاثة مرتكزات أساسية، وهي أن تتبنى هذه الرؤية فهمًا يستند إلى أن الوظيفة الأساسية للدولة في مجال الثقافة تتلخص في حماية التراث الثقافي المادي واللامادي، وحماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتوفير الخدمات الثقافية للمواطنين. إضافة إلى أن تحكمها الرؤية التي تتصدر محور الثقافة في استراتيجية التنمية المستدامة «رؤية 2030» وهو بناء منظومة قيم ثقافية إيجابية في المجتمع المصري تحترم التنوع والاختلاف وعدم التمييز، وتمكين الإنسان المصري من الوصول إلى وسائل اكتساب المعرفة. علاوة على أن تلك الرؤية تنطلق من إدراك أن هناك مشكلات واضحة في أداء مؤسسات الدولة الثقافية، يجعلها عاجزة عن القيام بالدور المناسب لاحتياجات المجتمع الثقافية، وقاصرة عن مواكبة التطورات المجتمعية والعالمية في مجال الثقافة والفنون والتراث.
ولعله من الضرورة إيلاء التقدم التكنولوجي مزيدًا من الاهتمام. لا يجادل أحدٌ بشأن الدور الذي لعبته وسائط المعرفة التقليدية من كتب وصحف وإذاعة وتليفزيون في نشر أفكار النخب المثقفة.
يتعيّن أيضًا دعم المكون الثقافي للعمل الأهلي وذلك عبر إعادة تنظيم المنظمات الأهلية من حيث الفلسفة والقيم والأدوار وبالقدر الذي يسهم في دعم الإسهام التنموي المستند إلى الحقوق كركيزة وفلسفة تحكمها، هذا التحول من شأنه أن يسهم في بناء مجتمع مدني قوي قادر على المشاركة في دعم عملية الحداثة، وبناء مجتمع عصري.
وهنا تجدر الإشارة، للدور التاريخي الذي لعبته بصفة خاصة الجمعيات الأهلية وبعض مكونات المجتمع المدني باعتبارها مؤسسات مارست عملية التنشئة السياسية وأسهمت في بلورة الثقافة السياسية والمناخ العام الذي ساد مصر منذ القرن التاسع عشر بالإضافة لكونها إحدى المقومات التي لا غنى عنها عند الحديث عن مشروع نهضوي لمصر. فقد نشأت أول جمعية أهلية في مصر عام 1821 مع قيام الجمعية الخيرية اليونانية بالإسكندرية، وقد شكَّل هذا التاريخ شهادة ميلاد لحركة الجمعيات الأهلية، كمؤسسات اجتماعية تقود المجتمع إلى دعم عمليتي المشاركة والتوزيع، ولاسيما بعد الحرب العالمية الأولى وقيام ثورة 1919، التي أدخلت العمل الأهلي مرحلة القيادة الجماعية والمؤسسية، واجتذبت النخبة الثقافية والفكرية في ذلك الوقت.
وهنا أيضًا يجب التشديد على حيوية البيئة السياسية ومحوريتها، حيث ساعدت في توجيه العمل الاجتماعي الطوعي في مصر، الذي بدأت إرهاصاته مع خضوعها للحُكم الأجنبي وللظروف الاجتماعية غير المواتية كحافز على تكاتف أفراد الشعب والتنظيمات الشعبية الدنيا، فكان شروع الكثير من الجمعيات الأهلية مثل: الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية الدعوة والإرشاد في إقامة المدارس الوطنية ورفع شعار التعليم كأداة لمواجهة النفوذ الأجنبي جنبًا إلى جنب مع مرحلة تحديد الهوية والتنوير التي بدأت في جمعيات مثل «جمعية معهد مصر» للبحث في تاريخ الحضارة المصرية (تأسست عام 1859) والجمعية الجغرافية وجمعية المعارف، وكانت للمعارك التي خاضتها شخصيات وطنية كالشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين والسيد رشيد رضا وغيرهم، أثرها الواضح في بلورة هدفين أساسين، أولهما: السعي نحو إيقاظ الوعي القومي والاجتماعي، وثانيهما: تحريك وتغيير مجموعة القيم والأفكار التقليدية المنافية للعمل الاجتماعي الطوعي.
ارتباطًا بذلك، يجب الاهتمام بصناعة النشر في مصر التي تشهد مشكلات كثيرة، أغلبها نتاج سياسات تراكمية.
إن التحديات التي تواجهها صناعة الكتاب أدت إلى تراجع كبير في المبيعات، علمًا بأن السوق الإلكترونية ومعها المنصات الصوتية ما زالت في طور النمو، كما أن عمليات التزوير الواسعة تواصل النزيف، وليست هناك نيات جادة للعمل على وقفه في القريب العاجل.
وأكثر من ذلك أن الناشر المصري تحديدًا يعمل في سوق غامضة، فهو لا يتمكن من بناء توقعات؛ حيث لا تتوافر لديه البيانات الرسمية التي تُمكِّنه من التعرف على طبيعة السوق واتجاهات القراءة وتصنيفها بحسب الشرائح العمرية أو المناطق الجغرافية ليعرف ما الذي يحتاج الناس لقراءته، فقد توقف الإعلان عن نشرات الإيداع داخل دار الكتب القومية وكانت تُقدِّم مادة مفيدة لكل الراغبين في معرفة سوق النشر وهي سوقٌ لا بدَّ من التدخل لحمايتها من الضياع.
يبقى القول إن الثقافة عصفورٌ مغرد، فلا تحبسوه في قفص، ولو كان اسم هذا القفص: وزارة الثقافة.
إن نظرة على أداء وزارة الثقافة في الألفية الثالثة، تكشف عن استمرار غياب الرؤية الثقافية، فضلًا عن أن أداء وزراء الثقافة المتعاقبين اتسم بالبيروقراطية والبطء وغياب الخيال الثقافي الخلاق، والاعتماد على الأداء النمطي لهيئات الوزارة الختلفة، التي عانت من الاحتجاجات الفئوية وتضخم العمالة، حيث تُشكِّل بنود الأجور والمكافآت أكثر من 84% من ميزانية الوزارة، ومن ثم يبدو الجزء المخصص للأنشطة الثقافية محدودًا.
بل إن سياسات وزارة الثقافة باتت ترعى أنشطة ترفيهية وليس إنتاجًا ثقافيًا عميقًا ورصينًا، في ظل غياب المعايير اللازمة لانتقاء الثقافة الجادة ودعمها. كما أنه لا يمكن الحديث عن الثقافة في ظل انعدام برامج التكوين والتأهيل المتخصصة في الإبداعات الفنية والأدبية المختلفة وعدم الاهتمام الاستراتيجي بالثقافة. إن الجدران والمباني لا يمكن أن تنتج ثقافة إذا غابت السياسات الملائمة.
وليس خافيًا أن مثقفين كثيرين أصيبوا في العقود الأخيرة بخيبة أمل كبيرة، وبإحباط شديد، لاعتباراتٍ كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مسّت وظيفة المثقف وصورته في المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المصري، بحيث لم يعد يتمتع بالقيمة الاعتبارية نفسها، وبالرمزية التي كانت له في فترةٍ مضت.
إعادة الاعتبار للمثقف وأهميته ودوره خطوة ضرورية من أجل التطور الثقافي المنشود.
مع حدوث تشوش واضطراب في أدوار الهيئات الثقافية، تحوّلت أغلب أنشطة بعضها إلى النشر، كما حدث في هيئة قصور الثقافة التي تراجع دورها في الأقاليم، وتدهورت بنيتها الأساسية، وتجمدت أدوارها واكتظت بعمالة غير مؤهلة في الغالب الأعم. هكذا ماتت هيئة قصور الثقافة المعنية بالجماهير. ونحن أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في دور قصور الثقافة، وتقعيل هذا الدور بمنظور يواكب العصر ومتطلباته.
ينبغي العودة إلى دور الهيئة الأساسي كوزارة ثقافة متنقلة عبر قصور وبيوت الثقافة التي تتعدى الخمسمائة على مستوى الجمهورية، تتواصل مباشرة عبر كل الفنون والأفكار التنويرية الطليعية في كل ربوع مصر وقراها ونجوعها.
إن الدور الرئيسي لهيئة قصور الثقافة يتلخّص في اسمها القديم (الثقافة الجماهيرية) والاسم الأقدم (الجامعة الشعبية) وكل اسم يعبر عن مضمون رسالة هذه الهيئة، وهو القضاء على الأميّة الثقافية وربط وجدان الطبقات الشعبية بالفنون الحديثة.
إن جهاز الثقافة الجماهيرية منذ عام 1965 بما أصابه من بيروقراطية وترهل وما واجهه من عراقيل، عجز عن إقامة رؤوس جسور ثقافية مستقرة في القرى، وحوصر في أنشطة شبه روتينية مكتبية في القاهرة وعواصم المحافظات.
ولذا فإننا في مسيس الحاجة الآن إلى تفكير خلاق من أجل التفاعل الثقافي مع القرى والمناطق العشوائية. وربما تأتي في هذا السياق أفكار مثل إقامة شقق ثقافية تضم كل منها مكتبة للكتب والوسائط الإلكترونية والبصرية والسمعية. على أن يقوم على إدارة وتشغيل هذه الشقق الثقافية بالأساس مثقفون متطوعون أو يعملون بأجر رمزي من أبناء هذه المناطق نفسها. ويمكن تمويل هذا النشاط عبر صندوق أهلي يتلقى التبرعات من المواطنين، فضلًا عن حصة من ميزانية وزارة الثقافة.
ثمة مقترحات قد تمثّل حلولًا لإنعاش هيئة الثقافة في المرحلة المقبلة، وهي: إلغاء النشر الحكومي، ودعم الورق وتسهيل عملية الطباعة للنشر الخاص، واعتبار هيئة الكتاب جهة نشر استراتيجية، بمعنى نشر ما يفيد الثقافة المصرية والأعمال التي لا تقوى دور النشر الخاصة على نشرها، فضلًا عن اعتبار الهيئة هيئة مهمتها تقديم الثقافة للشعب عن طريق القوافل الثقافية التي يجب أن تطوف القرى والنجوع في مصر، وإلغاء ما يسمى مؤتمر أدباء مصر، وإعادة تأهيل قصور الثقافة لتقدّم خدمات ثقافية للشعب والتنسيق مع وزارات الشباب والتضامن الاجتماعي، وتحويل أعمال وزارة الثقافة لتكون مهمتها الأولى تثقيف الشعب، وإعادة الاهتمام بالفولكلور والثقافة الشعبية المصرية واكتشاف وتشكيل فرق موهوبين في الموسيقى والمسرح والسينما.
الخطط والمقترحات كثيرة، وهي تنتظر من يُخرجها من حيز الأفكار إلى التطبيقات والمشروعات التي تحقق التغيير الثقافي المنشود في مصر في الفترة المقبلة.