د . سيد حافظ عبد الحميد
إن أول ما تحتاجه الجمهورية الجديدة تحديد رؤية ثقافية ومشروع ثقافي جديد يكون بمثابة دستور كلي، يتأسس على المصلحة العامة وتأكيد الهوية والثوابت والمشخصات القومية المصرية مثل التاريخ والدين واللغة، ومنظومة القيم.
وفق ما تمتلكه هذه الهُوية من طابع ثقافي يتسمُ أفرادها بحب الحياة والحق والسلام في جميع مناشط حياتهم والإيمان بالذات الذي هو الحصن الأول للحفاظ على هويتها الثقافية ووحدتها السياسية وهذا ما عبر عنه طه حسين حيث رأى أن أي أمة مهما تكن لا تستطيع أن تمحو الشخصية المصرية أو تعرِّضها للخطر فكما ثبتت مصر في القديم أمام أمم مختلفة ثبتت في العصر الحديث لأقوى أمة في الأرض (المملكة المتحدة) وخرجت من الجهاد ظافرة، ولم يكن لها سلاح إلا إيمانها بنفسها وثقتها بحقها.
وأطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى استراتيجية مصر 2030 وكان محور بناء إنسان مصري مثقف وقادر على مجابهة التحديات المستقبلية أهم محاورها في مفهوم الثقافة ودور الدولة.
يذكر تيري إيجلتون في كتابه فكرة الثقافة،أن الثقافة من حيث أصل ومعنى وتاريخ الكلمات هي مفهوم مشتق من الطبيعة، فأحد معانيها الأصلية قديمًا الزراعة أو العناية بالنماء الطبيعي، فكلمة coulter (سكين المحراث)، وهي الكلمة القرينة لكلمة "ثقافة culture تعنى شفرة المحراث وفي لغتنا العربية ثِقَافُ الرِّمَاحِ : أَدَاةٌ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ تُقَوَّمُ بِهَا الرِّمَاحُ وَتُسَوَّى, وثقِف الشَّيءَ: ظفِر به أو وجده وتمكّن منه.
وثقَّف الشيءَ: أقام المُعوَجَّ منه وسوّاه, وثقَّف الإنسان: أدّبه وهذبه وعَلَّمه وثقَّف المعوجَّ : سوّاه وقوَّمه وثقَّف الأخلاق: أصلح السلوك والآداب وهكذا فإن الثقافة تنقلنا من الطبيعي إلى الإنساني, وهي في ذلك تعزز علاقة الارتباط والتناغم بينهما، فإذا كنا كائنات ثقافية، فنحن أيضا جزء من الطبيعة التي علينا أن نتحكم فيها ونعمل في إطارها. وعملية التهذيب قد يقوم بها الأفراد بأنفسهم وقد تقوم بها الدولة إذ أن الدولة لكي تزدهر يتعين عليها أن تغرس في أذهان مواطنيها الأنواع الصحيحة من الاستعدادات الروحية ، وهذا هو ما تعنيه وتدل عليه فكرة الثقافة أو التربية.
فالأفراد داخل المجتمع يعيشون وفق قانون المزاحمة الطبيعي - بحسب تعبير الشيخ حسين المرصفي (1810-1890م) - والذي تنشأ بسببه حالة العداوة من أجل الحصول على الاحتياجات الفردية ويأتي دور الدولة من خلال فعاليتها النشطة والمطّردة داخل المجتمع، فتنتقل به من حالة العداوة التي تهدد بانهيار الدولة والمجتمع إلى حالة التعاون والمساعدة.
وهذه العملية ما يسمى باسم الثقافة وتعني فيما يذكر إيجلتون نوعا من التربية الأخلاقية تصوغنا لكي نتلام مع المواطنة السياسية، من خلال إطلاق وتحرير الذات المثالية أو الجمعية الكامنة في باطن كل منا، وهنا فالدولة تُجسد الثقافة التي بدورها تجد إنسانيتنا المشتركة وهنا فإن ما تفعله الثقافة أن تستقطر إنسانيتنا المشتركة من نفوسنا، وأن تخلص الروح من الحواس وتنتزع الأبدى من الزائل وتستخلص الوحدة من التنوع لنكون، فيما يرى كوليردݘ (1772-1834)، أناسا لكي نكون مواطنين.
نافذة على مشروعات مصر الثقافية في العصر الحديث: - رفاعة الطهطاوي( 1801-1873م) منذ مطلع القرن التاسع عشر ومع تأسيس الدولة المصرية الحديثة بقيادة محمد علي(1769-1849م) والمشروع الثقافي أحد أهم أركان هذه الدولة وقد أشرف على هندسة هذا المشروع حسن العطار (1766-1835م)شيخ الجامع الأزهر الذي استعان بتلميذه رفاعة الطهطاوي والذي أصبح رائد النهضة الثقافية والعلمية في مصر والعالم العربي ففي كتابه مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية بين معالم هذا المشروع الثقافي الذي ابتدأ بإثبات الأنا في التاريخ فتحدث عن مصر الوطن وتقدمها ودورها ومكانتها في التاريخ.
وراح يؤرخ للحاضر ويؤكد على ثقافة الأمل والإنجاز ويؤسس لأركان التمدن والتخطيط للمستقبل فقد ذهب الطهطاوي إلى القول بقانون الدورات الحضارية وأن لكل حضارة دورًا يتحقق إذا ما تأصلت فيهم الوطنية واعتصموا بالأصول الدينية وتحققوا بالفضائل الإنسانية وأسسوا للعلوم الحديثة وآمن أنّ مصر بما لها من موقع جغرافي وعمق حضاري يمكن أن تأخذ دورها الحضاري إذا ماحصَّلت تلك الشروط.
تابع الطهطاوي بيان هذا المشروع من خلال كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين الذي ظهر سنة(1872م, 1289هــ), فقد كان هذا المشروع يهدف إلى المواءمة بين الموروث الثقافي والوافد الغربي من أجل انتاج نموذجًا عصريًّا جديدًا.وقد نهض هذا المشروح بحركة الترجمة وتطوير التعليم وتأسيس الصحافة, و إحياء اللغة العربية وتجديد أسلوبها ونشر الثقافة التاريخية والمعارف والعلوم والفنون الحديثة, وكان له الفضل في تكوين الطبقة المستنيرة التي قامت بحركة النهضة والتحديث في مصر.
ويرجع الفضل لمحمد علي في تبني هذا المشروع الذي نتج عن وعيه الحضاري, إذ كان من فضائله اهتمامه بالتاريخ ومطالعته ولاسيما تاريخ الأبطال مثل الإسكندر المقدوني ونابليون الأول, كما اطلع على مقدمة ابن خلدون وتاريخ ايطاليا, ويصف لنا رفاعة الطهطاوي (محمد علي) بأنه كان يؤثر الفعل على القول, ويستشير العقلاء والعلماء في كل أموره, وكان مولعًا ببناء العمائر وإنشاء الأغراس وتمهيد الطرق, وإصلاح الزراعة, وتنمية الصناعة, وتوسيع دائرة التجارة, ومحاولة غرس ذلك في عموم الشعب. - حسين المرصفي: (1810-1890م). وفي عام 1881م-1298هــ) ظهرت رسالة الكلم الثمان لحسين المرصفي تحدث فيها عن (الأمّة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسة والحرية والتربية) كانت رسالة الكلم الثمان تحمل ملامح مشروع ثقافي لدولة وطنية جديدة بقيادة أحمد عرابي باشا (1841-1911م)وقادة الجيش الوطني المصري, تنطلق من الهوية الوطنية المصرية المستقلة, ومن الإيمان بأن مصر إذا ما تسلّح أبناؤها بالوعي والوطنيِة وترجموا ذلك إلى برامج عملٍ في أرضِ الواقعِ, تستطيع أن تلحقَ بركاب أعظم البلاد المتمدنة إن لم تفُقها.
ومن أهم ما يميّز المرصفي أنه في طرحه لم يكتف بمجرد الوصف والنقد, بل قدّم أمثلة تطبيقية من الواقع لكل قضية طرحها, وكان ذلك لوعيه أنه إنما يقدم رسالته وفلسفته لشباب مصر, فقد آمن أنهم دعائم الوطن ومستقبله, وعلى غير عادة إهداءات الكتب والرسائل في القرن التاسع عشر, أهدى كتابه (رسالة الكلم الثمان) إلى أذكياء الشبان وفتيان الأمة. وقد أسس المرصفي مشروعه الثقافي على :
1- أن الدولة أمر يُفرَض فرضًا للخروج من المرحلة الاجتماعية الطبيعية وتجاوز حالة العداوة التي تسود هذه المرحلة,إلى تحرير الإنسان من الخوف وإقرار الحقوق والانتفاع بها,والوصول إلى تاصيل حالة المساعدة والتعاون التي بها تتحقق إنسانية الإنسان وتُبنى الدولة ويتحقق التمدن, ومن ثم ذهب إلى ضرورة الاجتهاد في تقوية هذا المعني وتفهيمه لأكبر عدد من المواطنين, وأن في غير ذلك معارضة للحكمة, وتمكين للمفاسد من رقاب المصالح.
2- العلاقة مع الآخر داخل المجتمع تُبنى على فكرة المواطنة ومصلحة الوطن؛ فمن يسعى في إصلاح الوطن ولا يشكل خطرًا عليه, فهو جزء من الوطن, وبذلك فإنّ حالة الشدة تكون على من يُقاتل أو يُدبر المكائد أو يُخرّب أو يُفسد حالة التعاون والمساعدة.
3- مفهوم المنفعة العامة أساس علاقة الدولة بغيرها, فهو يؤمن أنه وإن كان التعاون بين أهل اللسان ليس فيه مشقة بسبب المُشْترك اللغوي والثقافي, إلّا أنّه لابد أن يحدث - أيضًا- بين المختلفين من خلال مبدأ المنفعة, فالارتباط بين الأمم هو ارتباط ضروري, وخواص الأمم من أهل الفكر والعقل والحكمة هم الملزمون إلزمًا دينيًا أو خلقيًا أو طبيعيًا بالنظر في ذلك الارتباط وإبراز مقتضياته على الوجه المحبوبِ للكافة،بمعنى تحقيق العدالة في انتفاع الأمم بعضها ببعض, وإعلاء قيمة الإنسانيّة التي هي القيمة العليا لديه.
4- ضرورة بناء المفاهيم وفق المصلحة العامة, وتهذيب أفكار الناشئة وفقًا لذلك, وليس مسايرة لمفاهيم مستوردة من ثقافة مغايرة تكون نتيجتها غياب الوعي وضياع الهوية الوطنية يقول: "وما يجري على ألسنة الناشئين في هذه الأوقات الحاضرة ... فحقه التنقيح والتهذيب, وإنّ أبوا وجب أن تتناولهم سياط التأديب, فإنّه ليس سهلاً تشويش أفكار الصغار بهذه الكلمات الباردة العائقة عن حسن التربية, فإنّ الصبي متى تعوّد في صغره أن يتكلم كلمات الجهل...لا يفرق بين ما يضره وما ينفعه, لم يكن عند كبره إلّا بعض السباع الكاسرة, أو البهائم الراتعة, وإذن يعم الفساد, ولا يؤمل صلاح العباد وعمارة البلاد".
5- ضرورة اليقظة الدائمة لخطر تزييف وعي الرأي العام خاصة من خلال التجارة بالدين وتثبيت حالة التعصب الذي هو العامل الأول في البعد عن الواقع وإصلاحه وُفْقَ المنفعة وتحقيق مقاصد الشرع من حفظ للدين والنفس والعقل والعرض والمال, فالتعصّب وتقديس الرأي وجمود الفكر وادِّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة والوصاية على فهم الشرع الشريف لهو أخطر ما يُكبِّل العقل ويهدم الدولة وينحرف بها عن مسار التطوّر والتقدّم, مؤكدًا أنّ اختلاف المذاهب وتعددها هو ضرورة اختلاف الأفهام, وتفاوت الآراء.
فالتعدُّدية هي الأساس الذي تقام على أساسه الدولة, ولا تؤدي إلى خراب الأمّة إلا إذا فعل التعصب فعله والجمود أثره فيؤثر على الحياة والأمن والاستقرار والسلام, الذي هو غاية الخطاب ومقصد الشرع.
وبين المرصفي أن من أخطر الأمور أثرًا في تزييف وعي الرأي العام هو فساد الجهاز الإداري للدولة لأنه المعبِّر عن النظام الحاكم في الممارسة اليومية مع المواطنين, وبفساده يتشوه كل إنجاز ويتعطل كل مسار للنهوض والتقدم, و يشيع في الرأي العام التابع اليأس من كل إصلاح وإنّ ما نزِل بهم من الضُرّ لا كاشف له, وإنّه لا يمرّ يوم إلّا والثاني شر منه.
- طه حسين(1889-1973): في عام ١٩٣٨صدر كتاب مستقبل الثقافة في مصر لعميد الأدب العربي طه حسين الذي أهداه إلى الشباب الجامعيين, بعد أن شعر بأن مصر تبدأ عهدًا جديدًا من حياتها بعد إمضاء معاهدة 1936م في لندن, واتفاق منترو 1937م، عهدًا رأى فيه إن الواجب الوطني الصحيح بعد تحقيق الاستقلال وإقرار الديمقراطية في مصر إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال لنُشعِر المصريين أفرادًا وجماعات أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا للضعف، وللسيادة لا للاستكانة، وللنباهة لا للخمول، وأن نمحو من قلوب المصريين أفرادًا وجماعات هذا الوهم الذي يصور لهم أنهم خُلقوا من طينةٍ غير طينة الأوروبي، وفُطِروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية، ومُنِحوا عقولًا غير العقول الأوروبية.
مؤكدًا على قوة الشخصية المصرية, وعدم الخوف عليها من الفناء في الآخر, وأن مستقبل الثقافة بمصر مرتبط بماضيها البعيد, وحاضرها القريب. لكن المسألة المهمة والخطيره عند طه حسين والتي رأى ضرورة توضيحها وتجليتها قبل أن نفكر في الأسس التي ينبغي أن نقيم عليها ما ينبغي لنا من الثقافة والتعليم. هي أن نعرف: أمصر من الشرق أم من الغرب؟! وهو لم يقصد الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما قصد الشرق الثقافي والغرب الثقافي, فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟! أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟! وكان رأيه ضرورة الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية وأن نسير سيرتهم ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة , و وسبيل ذلك عنده واحدة لا ثانية لها، وهي بناء التعليم على أساسٍ متينٍ.
وفي إجابته عن سؤال أتوجد ثقافة مصرية وما عسى أن تكون؟ أجاب بأن الثقافة المصرية مهما تكن محتاجة إلى التقوية والتنمية والإصلاح، فهي موجودة متميزة بخصالها وأوصافها التي تنفرد بها من غيرها من الثقافات.وأول هذه الصفات المميزة للثقافة المصرية أنها تقوم على وحدتنا الوطنية وتتصل بوجودنا المصري في حاضره وماضيه، ومن حيث إنها تصور آمالنا ومُثلنا العليا في الحياة فهي تتصل بمستقبلنا أيضًا .
وتتسم بالذوق المصري الذي ليس هو ابتسامًا خالصًا ولا عبوسًا خالصًا ولكنه شيء بين ذلك فيه كثير من الابتهاج وفيه قليل من الابتئاس, وبالاعتدال المصري, واتخاذاللغة العربية المصرية لها أداة مرنة أنيقة رشيقة وهي وإن كانت مشتركة بين مصر وغيرها من البلاد العربية, ولكن لمصر فيما يرى طه حسين مذهبها الخاص في التعبير كما أن لها مذهبها الخاص في التفكير.
إن الثقافة المصرية عند طه حسين هي هذه العناصر المختلفة والمتناقضة فيما بينها من التراث المصري الفني القديم، والتراث العربي الإسلامي، وما كسبته مصر وتكسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوروبية الحديثة، تلتقي في مصر فيصفي بعضها بعضًا، ويهذب بعضها بعضًا وينفي بعضها من بعض ما لا بد من نفيه من الشوائب التي لا تلائم النفس المصرية. فينتج عن ذلك ثقافة مصرية إنسانية قادرة على أن تغذو قلوب الناس وعقولهم وتخرجهم من الظلمة إلى النور.
- محمود أمين العالم (1922-2009م)وعبد العظيم أنيس(1923-2009م): وفي عام 1955 صدر كتاب في الثقافة المصرية لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس, وذهبا إلى أن الثقافة لا تقوم على أساس ثابت محدد مثل الدين,كما ذهب ت.س.اليوت(1888-1865م) أو عامل الجنس أو العامل الجغرافي أو الاقتصادي، وإنما هي محصلة لعملية متعددة العوامل، يقوم بها المجتمع بكافة فئاته ومختلف وسائله. والثقافة ترتبط بهذه العملية المتفاعلة لا ارتباط معلول محدد بعلة محددة، وإنما ارتباط تفاعل كذلك، مما يجعل من الثقافة نفسها عاملا موجهًا فعالًأ, كذلك, في العملية الاجتماعية نفسها . فإذا كانت الثقافة انعكاسًا لعملية الواقع الاجتماعي, كان علينا أن نحدد مدلول الثقافة المصرية من داخل اطار هذا الواقع المصري بكل مشكلاته الصغيرة والكبيرة كالبطالة والحب والتدين والانحلال والحرية والمرض والصحة, وعلى ضوء هذا , نستطيع أن نصوغ لثقافتنا مدلولها الحقيقي, وأن نتعرف على قوانينها, وأن نتكشف اتجاهاتها, وقد حاولا ذلك من خلال تحليل مختلف التعابير الفنية والأدبية والفكرية في تفاعلها مع الواقع الحي, للكشف عما لها من وحدة وتماسك وما تتضمنه من اتجاهات وقيم. ملاحظات حول الملف الثقافي في الجمهورية الجديدة إن الحديث عن رؤية ثقافية لجمهورية جديدة لا ينفصل عن واقع التحديات والمعوقات التي لا بد أن تُوخذ بعين الاعتبار خاصة في ظل منطقة ملتهبة كمنطقتنا وخاصة حينما تكون هذه الجمهورية هي مصر باعتبار دورها القيادي ودورها الريادي في المنطقة عبر التاريخ. إن أهم التحديات التي تصدت لها ونجحت فيها الجمهورية الجديدة الحفاظ على الوحدة الوطنية للدولة المصرية, وهو أمر ليس باليسير عند من يدرك حجمه وخطره, فهو أمر وجودي ومصيري قياسًا بحجم مشكلات اقتصادية أو اجتماعية رغم تأثيرها وخطرها, ونجاح هذه التحدي يرجع أولاً إلى طبيعة الشخصية المصرية ووعيها الكامن والمتراكم عبر آلاف السنين والمتواري خلف حالة الضعف والهوان التي تعيشها في الواقع, ويرجع ثانيًا إلى العقيدة والثوابت الوطنية للجيش الوطني المصري ووعي وحكمة قيادته.
وهنا تأتي الملاحظة الأولى: إن أي رؤية أو مشروع ثقافي لابد أن يتأسس على الإيمان بالوحدة الوطنية للدولة وعدم المساس بهوية وثوابت الشخصية المصرية, فعبر العقود الخمس الأخيرة بُذلت جهود حثيثة وأموال طائلة لتمزيق هذه الوحدة, وطرح رؤى ومشروعات ثقافية دينية ولا دينية غريبة على طبيعة الشخصية المصرية وتكوينها الحضاري والنفسي والديني. الملاحظة الثانية: ضرورة اتاحة الحرية لمختلف الرؤى الثقافية بحيث تكون حرية تنتج لا تستنزف, تبني لا تهدم, تتحاور لا تتصارع , بحيث يكون التنوع مصدرًا للسعة والرحابة, وليس مجلبًا للتعصب والعنف.
الملاحظة الثالثة: كما تهتم الجمهورية الجديدة ببناء المدن والمراكز الثقافية الكبيرة كما فى العاصمة الإدارية والعلمين والمدن الجديدة, وكما تبني المدارس والجامعات الأهلية وهو إنجاز مهم وعظيم, لابد أن تهتم ببناء المثقف الجديد ودعمه-أيضًا-, وفي الحقيقة فإن ما نراه من فوضى وهشاشة ثقافية هو أحد آثار غياب المثقف الوطني الحقيقي الفاعل على المستوى الديني والفني والأدبي...ألخ.
وظهور مثقف (الفرقعة- والترند) وإثارة الجدل, وكان نتيجة ذلك أن اختلطت الأدوار فأصبح الإعلامي مثقفًا وخبيرًا نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا وفنيًا وحتى مطبخيًا . الملاحظة الرابعة: إعادة النظر في العلاقة بين المثقف والدولة بحيث تكون علاقة مشاركة فاعلة ومنتجة كما حدث مع رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك (1823-1893م) في القرن التاسع عشرحيث تحولت الرؤى والبرامج إلى كيانات واقعية قادها أهل الثقافة والفكر مثل المدارس والمجلات والمراكز والمؤسسات.
الملاحظة الخامسة: تحرير جديد للمرأة المصرية,لبناء علاقة تكاملية تليق بها وبدورها العظيم علاقة تقوم على التعاون من أجل التقدم وبناء مجتمع ومستقبل أفضل, وليس التنافس المقيت القائم على مجرد فكرة التمكين وإذكاء الصراع بين الرجل والمراة . الملاحظة السادسة: ضرورة النظر بشكل جاد في ملف وضع برامج للهوية الوطنية والقيم الأخلاقية والثقافة الأدبية والجمالية في الكليات العملية وهذا الملف فشلت فيه كل المشروعات التحديثية منذ محمد علي بحجة ربط التعليم بسوق العمل, وكأن تربية متعلم مستنير مسئول, مخلص لوطنه, حر الإرادة والفكر, متخلق بالتسامح وقبول الآخر والأمانة العلمية في البحث, والإخلاص في العمل لا علاقة له بالواقع وبسوق العمل!. الملاحظة السابعة: أن الكيفي لا الكمي هو العامل المؤثر في النشاط الثقافي وأميز هنا بين النشاط الثقافي والتعليم, فكيف تكون الثقافة متعة وأمر اختياري محبب؟ هذا هو السؤال الذي لا بد أن نبحث له عن إجابة.
فلم نعلم أن جورج أبيض أونجيب الريحاني أو حافظ إبراهيم أجبر الجمهور لمشاهدة عرضه ومنتجه الثقافي, وكذلك فإنه شيء رائع أن تنفذ وزارة الثقافة آلاف الأنشاطة الثقافية, لكن يكون الأمر أروع إذا أدت هذه الأنشطة غايتها وساهمت بشكل فعلي في تحقيق بناء إنسان مصري مثقف وقادر على مجابهة التحديات المستقبلية.