روائع معمارية.. قبة مدرسة الناصر محمد بالمعز
تعتبر القباب المملوكية، مصدرا نموذجا بارزا، للهندسة المثالية والروحانية، التي تبناها معماريو القرون الوسطى، إلى جانب فلاسفتها، في تلك الفترة، ومع ازدهار التبادل الثقافي وتوافد المهاجرين من أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، مثل آسيا الوسطى وبلاد فارس، اندمجت العديد من الأفكار المعمارية والزخارف التي جاءت من تلك المناطق، مما أثرى أسلوب البناء المملوكي بتنوعه.
وتحظى قبة مدرسة الناصر محمد بن قلاوون، في شارع المعز بمكانة خاصة، فهي تجاور مجموعة قلاوون، وتعتبر ذات أهمية كبيرة ليس فقط في المجتمع الأثري، ولكن أيضا بين المعماريين، ويعود ذلك إلى أنها نشأت في فترة كانت تشهد ثورة في العمارة الإسلامية، كما أنها حافظت على العديد من مكوناتها الأصلية، مما يجعلها دليلا حيويا على النسب الجمالية والمهارات الهندسية، وكيفية استخدام أشكال هندسية متنوعة في البناء في نفس الوقت.
قام الناصر محمد بن قلاوون ببناء القبة في مدرسة الناصر محمد بن قلاوون، رغم أنه لم يكن صاحب فكرة تأسيس المدرسة من البداية، بدأ بناء المدرسة، السلطان العادل زين الدين كتبغا، عام 695 ميلادية، وأكملها الناصر بعد ذلك.
تقع القبة الضريحية، على اليمين، بعد الدخول مباشرة من المدخل الرئيسي والوحيد للبوابة، ويمكن الوصول إليها من خلال باب خشبي على اليمين، بعد المدخل الرئيسي، تتكون القبة الضريحية من ثلاثة أقسام: الأول هو المكعب السفلي، والذي قسم إلى جزأين: السفلي، الذي يزدان بعدة دخلات زخرفية، مع وجود المحراب في الجهة الغربية، والجزء العلوي الذي تزينه نوافذ معقودة، في أعلى المكعب، توجد منطقة الانتقال، التي كانت مزينة بالعديد من الأشكال المقرنصة التي تشبه خلايا النحل، وعددها 60 مقرنص، تتخلل هذه المنطقة نوافذ ثلاثية تعطي انطباعا بالروحانية.
فوق هذا القسم السفلي، يوجد غطاء مثمن مصنوع من الخشب، يظهر من الخارج على شكل بدن مضلع من 8 أضلاع، وتخلو القبة من أي زخارف هندسية أو نباتية باستثناء الباب الخشبي عند المدخل، تم تزيين منطقة الانتقال باللون الأبيض، مما يضفي مظهرا بسيطا ولكن أنيقا.
الدلالات الثقافية والروحية بالقبة
تعبر العناصر الهندسية في هذه القبة، عن مفهوم التجريد في العمارة الإسلامية، حيث برع المسلمون في هذا المفهوم وأصبحوا أساتذته، إذ ينبع هذا التميز من فكرة أن التجريد يحفز الخيال والإبداع في العقل البشري، ويتأثر بالعقيدة الإسلامية وبعض الأفكار الروحية مثل رحلة الإسراء والمعراج والجنة وغيرها من المفاهيم.
يتجلى هذا الفكر التجريدي في الرموز المعمارية في منطقة الانتقال، وكذلك في المعنى الشامل عند قراءة هذه القبة كأنها كلمة أو عبارة واحدة، فقام المعماري بدمج ثلاثة أشكال هندسية رئيسية في التصميم، وهي المكعب، والمثمن، والأشكال المدببة التي تقع في منطقة الإنتقال، حيث يفترض أن تُقرأ هذه العناصر كوحدة واحدة، وليس كأجزاء منفصلة، هذا النهج يبرز فلسفة العمارة الإسلامية التي تعزز الترابط والتكامل بين الأشكال المختلفة، مما يعكس رؤية موحدة تعبر عن القيم الجمالية والروحية في آن واحد.
تشير النوافذ في العمارة الإسلامية، وخاصة تلك الموجودة في هذه القبة، إلى فكرة النظر إلى الحياة والكون من منظور البصيرة الروحية، حيث تسعى إلى خلق علاقة رمزية مع الروحانية والعالم غير المادي، في هذا السياق، تحمل النوافذ هنا دلالة خاصة على فهم الأشياء ليس فقط من خلال الحواس المادية، ولكن أيضًا من خلال البصيرة والعمق الروحي، أما اللون الأبيض الذي يزين فقط منطقة الانتقال، فهو يعبر عن النقاء والإشراق، ويضيف لمسة من السكون لأجل أتمام عملية التأمل الروحي بداخل القبة، هذا الاستخدام للون الأبيض في منطقة الانتقال المثمنة، فوق الأشكال المدببة، يمكن تفسيره على أنه رمز للإلهام والنور الذي يتدفق من السماوات إلى الأرض، مما يدل على أن المعرفة والعقل لا يأتيان إلا من خلال الاتزان الروحي والإلهام من الله، وليس من العوالم المادية.
بمجرد دمج هذه العناصر معا، يصبح المعنى المجمل للعمارة الإسلامية مفهوما على نطاق أوسع، حيث يظهر التوازن بين العقل والروح، والتواصل بين العوالم الروحية والمادية، هذا يعكس فلسفة أن الوصول إلى المعرفة الحقيقية والإلهام الروحي يتحقق من خلال التوجيه الرباني، وليس فقط من خلال التفسيرات المادية.