يزخر أرشيف «الهلال» منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتاب بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.
نشرت مجلة الهلال في عددها الصادر لعام 1983، قصة قصيرة للكاتب الروسي الشهير أنطوان تشيخوف، بعنوان «امرأة لا حول لها ولا قوة» ترجمها إلى اللغة العربية محمد عبد المنعم جلال، تتناول قصة سيدة تسعى للحصول على حق زوجها المريض من مكان عمله ولكنها تذهب إلى المكان الخطأ فتقع في مواقف محرجة وتتوالى الأحداث.
نص القصة:
على الرغم من أن كستونوف أصيب في أثناء الليل بنوبة حادة من النقرس فقد ذهب إلى مكتبه في الصباح وفي الموعد المعتاد وأخذ يستقبل العملاء والزوار الذين قصدوه للاستعلام، وكان يبدو متعبا مكدرا لا يتكلم إلا بشق النفس فتخرج الكلمات من بين شفتيه منقطعة كما لو كان مريضا في دور الاحتضار.
وقال يسأل امرأة متقدمة في السن ترتدي معطفا باليا: أية خدمة استطيع أن أؤديها لك؟
فأجابته المرأة بسرعة وطلاقة: أرجو معذرة یا صاحب العظمة.. إن زوجي ويدعى شوكين، موظف بالحكومة ومريض منذ خمسة شهور، وفي أثناء اعتكافه وبينما كان الطبيب لا يزال یعني به رفدوه من غير ما سبب، ولما ذهبت لاستلام مرتبه خصموا منه أربعة وعشرين روبلا وستة وثلاثين كابكا، وقد سألتهم عن السبب في ذلك يا صاحب العظمة فقيل لي إنه اقترض هذا المبلغ من الخزانة فما معنى هذا؟.. لا أدري كيف استطاع أن يفعل مثل هذا العمل من غير أن يستشيرني، ويقينا أنه لم يفعل يا صاحب العظمة، فلماذا خصموا هذا المبلغ إذن.
إنني امرأة مسكينة أجاهد في الحياة حتى أصل ما بين أيامي، وفي سبيل ذلك أؤجر بعض غرف مسکني.. إنني امرأة ضعيفة لا حول لي ولا قوة، أتحمل التوبيخ والتعنيف كل يوم ولا أسمع كلمة رقيقة أبدا، ورمشت بعينيها وراحت تبحث في معطفها عن منديل، وتناول كستونوف الشكوى من يدها وقرأها ثم قال وهو يهز كتفيه:
ما هذا؟ إنني لا أفهم شيئا، أنتِ مخطئة يا سيدتي.. هذه الشكوى لا شأن لنا بها أبدا، ويتبقى أن تقدميها حيث كان زوجك يشتغل .
- رحماك يا الله.. لقد انتقلت إلى الخمسة مكاتب قبل أن أنتهى إلى هذا المكتب، ورفضوا كلهم الاهتمام بشكواي هذه ولم أعد أدري ماذا أفعل، عندما نصحني زوج ابنتي موريس ماتنيتش أن أتقدم إليك، وقد عملت بنصيحته يا صاحب العظمة، فقد قال لي: اذهبي إلى السيد كستونوف، فهو رجل واسع النفوذ، وسوف يذلل لك كل شيء، وأنا أرجو يا صاحب العظمة أن تحقق قوله فتمد لي يد المساعدة .
- ولكنني لا استطيع أن أفعل شيئا لاجلك يا سيدتي العزيزة، دعيني أشرح لك.. كان زوجك يشتغل في مصلحة الطب التابعة للحكومة، أما هذا المصرف لمؤسسة تجارية خاصة، وما من شك في أنك تفهمين ما أقول .
وهز كستونوف كتفيه وتحول إلى عميل آخر يشكو ألما في أسنانه، ولكنها أسرعت تقول: معذرة يا صاحب العظمة، أن معي شهادة من الطبيب تثبت أن زوجي كان مريضا، ويمكنك أن تراها بنفسك.
فقال كستونوف وقد تملكه الحنق: نعم، نعم.. إنني أصدقك.. ولكن لا شأن لنا بذلك كما سبق أن قلت لك، الحق أنك تثيرين عجبي، ولا شك في أن زوجك يعرف أين يقدم هذه الشكوى.
- معذرة يا صاحب العظمة، إنه لا يعرف شيئا على الاطلاق، لقد قال لي: هذا شأنك أنت فاذهبي ودیري أمرك، وهكذا ترى أن الشأن شاني.
وتحول كستونوف مرة أخرى إلى مدام شوكين وحاول أن يشرح لها الفرق بين مصلحة حكومية وبين مؤسسة تجارية.. وأصغت إليه في اهتمام ثم هزت رأسها شأن من فهم وقالت: نعم، نعم، هذا صحيح، إننى أفهم جيدا يا صاحب المظلمة.. وهذا واضح كالشمس، وإني أرجوك أن تقنعهم لكي يدفعوا لي.. لنقل 10 روبلا، فإنني أعرف أنه لا أمل لي في استعادة المبلغ كله.
قال كستونوف في إعياء: أوف.. متى تفهميني؟ ألا تدركين أن شأنك معي كشأن من يتقدم طالبا وثيقة طلاق من صيدلي؟ لا جدال في أنك تستحقين هذا المبلغ، ولكن لا شأن لنا بذلك.
قالت مدام شوكين باكية: معذرة يا صاحب العظمة.. رفقا بي، سوف أذكرك في صلواتي حتى آخر أيامي.. إنني يتيمة مسكينة ضعيفة لا حول لي ولا قوة.. لم أعد أملك شيئا من المال وقد رفعت قضية على النزلاء الذين يؤجرون غرفتي، وإني شديدة الانزعاج على زوجي، ثم هناك شئون البيت، ولم أذق أي شيء اليوم، وزوج ابنتي عاطل، ولم أعد استطيع الوقوف على قدمي.. أنا لم يغمض لي جفن طوال الليل.
أحس كستونوف بأنه مقبل على إحدى نوباته، وازداد اعياؤه وحاول أن يشرح لمدام شوكين مرة أخرى ولكن الكلمات خرجت من حلقة ضعيفة خافتة مبحوحة، فقال :
- كلا.. إنني آسف.. لا أستطيع أن أفعل شيئا.. أن رأسي تدور.. أنك امرأة لا تطاق، تضيعين علينا وقتنا.. أوه.. وتحول إلى أحد الموظفين وخاطبه قائلا: اسمع يا ألیکس نیكولایتش.. أرجوك أن تشرح لمدام شوكين..
وتركهما وذهب إلى مكتبه الخاص هربا منها وأخذ يوقع على عشرات الأوراق في الوقت الذي راح أليكس نيكولايتش يحاول فيه التخلص من مدام شوكين .
وقالت هذه الأخيرة: إنني امرأة ضعيفة، لا حول لي ولا قوة.. لعلني ابدو أمامك قوية ولكنك لو فحصتني جيدا فسوف ترى أنني في حالة يرثى لها.. لا أكاد أستطيع الوقوف على قدمي، ولم أذق شيئا طوال اليوم غير قدح من القهوة .
وذكر لها أليكس نيكولايتش الفرق الشاسع بين المصالح الحكومية وبين المؤسسات التجارية.. ولما أخذه الاعياء تحول إلى زميل له وراح يشكوها إليه.. وتمتم كستونوف وهو في مكتبه يقول: يالها من شمطاء متعبة.. إنها معتوهة، مجنونة.. عليها اللعنة إن قلبي يدق .
وبعد نصف ساعة دق الجرس، وأسرع إليه أليكس نيكولايتش فسأله في اعياء: ما الخبر؟
- أنني تعبت معها.. إنها لا تريد أن تفهم.. لقد أعيتنا جمیعا.. لا.. لا أستطيع أن أطيق نبرات صوتها أشعر كأنني سأختنق.. لعل من الأوفق أن تستدعى البواب لكي يطردها.
صاح كستونوف في فزع: كلا.. سوف تصيح وتملأ الدنيا صراخا.. وفي هذه العمارة سكان كثيرون، ولا أريد أن يظن الناس بنا الظنون.. حاول أن تشرح لها الأمر مرة أخرى.
وبعد دقيقة سمع صوت أليكس نيكولايتش يتحدث معها في خفوت وهو يحاول أن يشرح لها الأمر، وبعد ربع ساعة احتد صوته، فتمتم كستوتوف يقول:
- يالهذه المرأة البغيضة.. إنها مجنونة.. أشعر أن النقرس يعود.. سيبدأ عذابي من جديد.
وفي الغرفة المجاورة هوى ألیکس نیکولایتش بيده فوق المكتب ثم غرب جبينه قائلا: كل ما أستطيع قوله هو أنك امرأة مجنونة، لا عقل لك.. ولكن اخرجي من هنا.
فصاحت مدام شوكين في حدة: أتريد أن تضحك عليّ؟ إنني امرأة ضعيفة. لا حول لى ولا قوة ولكنني لن أحتمل منك هذا.. إن زوجي موظف بالدرجة الثانية أيها الصعلوك.. سأذهب إلى المحامي ديمتري کارلیش وسوف أريك.. لقد نصرني القانون على ثلاثة من نزلائي، وسوف يأتي اليوم الذى تجثو فيه على ركبتيك وتعتذر لي لمعاملتك هذه لي، ساشكوك للجنرال نفسه.. یا صاحب العظمة.. يا صاحب العظمة..
وصاح أليكس نيكولايتش: اخرجي من هنا أيتها الشمطاء، وظهر كستولوف في هذه اللحظة وتقدم وهو يسأل في خوف: ما الخبر؟ وكانت مدام شوكين واقفة في وسط الغرفة محتقنة الوجه تلوح بيديها بينما وقف موظفو المصرف ينظرون إليها في استغراب وخشية، وأسرعت لملاقاة كستونوف وهي تصيح: معذرة يا صاحب العظمة.. أرايت إلى هذا الرجل؟ وأشارت إلى أليكس نيكولايتش، لقد هوى بقبضته على المكتب.. أنك أمرته أن يهتم بي ولكنه يريد أن يضحك عليّ، إنني امرأة ضعيفة لا حول لي ولا قوة، وزوجي موظف بالدرجة الثانية وأبي ضابط متقاعد..
قاطعها كستونوف قائلا: هذا حسن.. سوف أهتم بذلك، سأفعل اللازم.. ولكن أرجو أن تذهبي الآن.. فيما بعد ..
- ولكن متى أحصل على النقود يا صاحب العظمة، إنني في حاجة قصوى إليها الآن فورا..
مر کستونوف بأصابعه المرتعشة فوق جبينه وتتهد في يأس وقال وقد بدأ يفقد أعصابه: قلت لك يا سيدتي أنك في مصرف.. مؤسسة تجارية غير حكومية، فماذا تريدين منا؟ ألا تفهمين أنك تعطلين أعمالنا؟ وأصغت مدام شوكين إليه ثم زفرت قائلة: نعم يا صاحب العظمة.. أنني أعرف، ولكن أرجوك أن تؤدي لي هذه الخدمة وسوف أشكرك في صلواتي حتى أواخر أیامي.. ابسط لي يد المعونة، وإذا كانت شهادة الطبيب لا تكفي ففي مقدوري أن أحصل على غيرها من الجيش.. ولكن أرجو أن تعطيني نقودي.
بدأت الدنيا تدور أمام عيني كستونوف، وتنهد وتهالك فوق مقعد وهو يترنح، وسألها في اعیاء: کم تریدین؟
-24 روبلا و36 كوبيكا.
أخرج كستونوف محفظته وأخذ منها ورقة مالية قيمتها خمسة وعشرين روبلا اعطاها لمدام شوكين قائلا: إليك ما تريدين.. اخرجي الآن.
وضعت مدام شوكين الورقة في منديلها وأطبقت يدها عليه ثم قالت وقد انبسطت اساريرها وهي تحاول أن تتدلل: معذرة يا صاحب العظمة، ولكن هل يستطيع زوجي أن يعود إلى عمله.
- تمتم كستونوف في اعياء: يتبقى أن أعود إلى البيت.. أشعر بأنني مریض، إن رأسي تدور.
وعندما عاد أليكس نيكولايتش إلى بيته أمر خادمته أن تشتري له دواء منعشا، وأضطر جميع موظفي المصرف إلى تناول المرطبات لكي يستأنفوا عملهم، أما مدام شوكين فقد بقيت ساعتين طويلتين مع البواب تتحدث إليه وهي تنتظر عودة كستونوف..وفي صباح اليوم التالي عادت إلى المصرف من جديد وهي أشد ما تكون قوة وحيوية.