الشعر بين التقليد والتجديد.. حوار نادر لـ"صلاح عبد الصبور" في «مجلة الهلال»
يعد الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور واحدًا من أبرز شعراء القصيدة الجديدة في الأدب المصري والعالم العربي، ورمزًا من رموز الحداثة الأدبية العربية، لُقب بفارس الشعر الحديث وبطله المعاصر، وهو صاحب مكانة مرموقة بين أعلام المسرح الشعري، لقلمه قدرة عجيبة على التعبير للدفاع عن القضايا التي يؤمن بها بشغف، واثقا أن الكلمة قد تؤتي ثمارها سواء كان اليوم أو غدا أو بعد غد، في الحاضر أو المستقبل.
في عام 1980 أجرت مجلة الهلال حوارًا ثريا ونادرًا مع الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، أجراه معه الكاتب الصحفي عاطف فرج، تناول من خلاله مجموعة متنوعة من القضايا والمعارك الأدبية التي خاضها الشاعر مع زملائه في ميدان الشعر الحديث، والتي نشأت بين أنصار الشعر التقليدي ومحبي الشعر المتجدد، ولمن حسمت هذه المعركة؟
كما تحدث الشاعر صلاح عبد الصبور في حواره أيضًا عن أسباب انتقاله إلى الكتابة في الشعر الحر مفضلا إياه على الشعر التقليدي، كما تطرق إلى تأثره ببعض الشعراء وتأملاته في المسرح وتطوره، وأبدى رأيه في شكسبير ومسرحه والحديث عن بعض أعماله ودواوينه الشعرية.
إلى نص الحوار:
فهات ما عندك يا صلاح حول معركة كانت بين أنصار الشعر التقليدي وبين المجددين من أصحاب الشعر الحديث؟
ابحار في الذاكرة ثم قول في هدوء: هذه المعركة كانت ظاهرة غريبة على الحياة الأدبية، لأن الحياة الادبية عادة ترحب بالتجديد، ويستطيع كل إنسان أن يبدع فيما يراه، وقد عرف تاريخ أدبنا العربي ألوانا مختلفة من التجديد.
ففی تاریخ شعرنا العربي مثلا نجد الخلاف بين أبي تمام ومعاصريه حين قالوا إنه خرج على عمود الشعر، فقد اعتمد على منهج مختلف في تكوين الصورة الشعرية وهو تشبيه المحسوس بالمعنوي لا العكس، كما عهد في الشعر العربي، كما كانت له بعض الاستعارات والتركيبات الغريبة.. كانت هذه المعركة في تراث الشعر العربي.
كذلك عندما نشأت الموشحات مثلا ظن كثير من النقاد في ذلك العصر أنها خروج على التيار الرئيسي في الشعر العربي لكنها أيضا ما لبثت أن أصبحت جزءا من تاريخ الشعر العربي.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظهرت ألوان جديدة من الأدب العربي مثل الرواية والقصة والمسرحية وهي ألوان مستحدثة مستنبتة. . ورغم ذلك لم تثر هذه الثائرة الكبيرة..
لكن عندما ولدت موجة الشعر الجديد ثارت معركة بالغة الغرابة لأن وجود نوع من ألوان التعبير الشعري لا ينفي ولا يلغي نوعا آخر، خاصة أو أدركنا مثلا أن الشعر العربي في أواسط القرن العشرين من تغيرات كثيرة اختلفت به عن صورة الشعر في عهد شوقي وحافظ.. فشعر علي محمود طه ومدرسته كان كله أو معظمه شعرا ثنائيا ورباعيا وخماسيا ولم تكن القصيدة الموحدة القافية هي النمط الشائع .
أيضا شعر المهجريين فيه الكثير من التجديد الشكلي وهو تيار مستمر وممتد في الشعر العربي، وقد بلغ غايته في خمسينات هذا القرن.. وفوجئ الرأي الأدبي المحافظ بهذا التجديد ووجود صدى له عند الكثير من القراء، ومن هنا كانت المعركة على القارئ لأن أصحاب الشعر التقليدي قد وجدوا فجأة أن قارئهم انصرف إلى الخط الجديد من الشعر ومن هنا كانت حدة المعركة.
هل حسمت هذه المعركة ولصالح من يا ترى..؟
يقول فارس الشعر الجديد:
لا يمكنني الإجابة عن ذلك، ولكن يمكنني القول أن التيار الجديد في الشعر قد ثبت ورسخت جذوره وأصبح نمطا معروفا من أنماط التفنن والإبداع الشعري في عصرنا الحديث بحيث لا يمكن الرجوع منه إلى الأشكال التقلدية.
ويمكن لكل الأنواع الأدبية أن تتعايش وأن يكون لكل منها جمهوره الذي يحبه، فالشعر ليس مباراة كروية تدعو للتعصب.. الشعر مقدرة على التذوق بالنسبة للقارئ الجيد، وأنا كأحد شعراء الاتجاه الحديث أحب أحيانا أن اقرأ مجموعة من الشعر الجاهلي واستمتع بها أيما استمتاع.
اختار صلاح عبد الصبور طريق الشعر الحر ورفض أن يكون من أبناء الشعر التقليدي، فما هي أسباب هذا الاختيار عنده؟
يقول صلاح عبد الصبور: أنا بدأت كشاعر يكتب كما يتصور الشاعر، فقد كانت كل قراءاتي تتجه إلى الشعر العربي الكلاسيكي وأنا أفضل استعمال هذا اللفظ من لفظ التقليدي. . فانا دارس بحكم الدراسة وبحكم المحبة للشعر العربي الكلاسيكي ولا أعتقد أن دیوانا مما طبع وحقق قد فاتني أن أقرأه كله أو بعضا منه وأعد نفسي تلميذا لكبار الشعراء العرب ابتداء من امرؤ القيس وانتهاء بشوقي ..
وبدأت متأثرًا بهذا الذي قرأته ولي قصائد تنهج هذا النهج.. لكن الحساسية الأدبية تتغير بشكل ما عند الفنان.. وعندما بدأ هذا الشكل الجديد وجدت نفسي فيه وأقدر على التعبير عما يجيش بخاطري وخاصة في مجال القصيدة الدرامية والشعر المسرحي، فآثرت هذا الشكل للتعبير، ولو أنني في بعض الأحيان أحس بالحاجة إلى أن أعود إلى النغم القديم في الشعر الكلاسيكي وأستوحيه لأكتب من خلاله.
من الشعراء الذين تأثر بهم الشاعر صلاح عبد الصبور: ناجي، وعلي محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل.. إلا أنه هجر طريقتهم في الكتابة فهل يعني ذلك أن تأثيرهم عليه كان ضعيفا.. أم أن المسألة لها وجه آخر في تكوين الحساسية الفنية عند الشاعر...
يقول صلاح عبد الصبور: ليس علي محمود طه وناجي ومحمود حسن اسماعيل - إلا في البداية الأولى من التأثر، فقد كانوا هم المشهورين في أواسط وأواخر الأربعينات عندما كنا طلابا في المرحلة الثانوية.. لكن بعد ذلك عكفت على قراءة التراث العربي جملة واحدة.. كما قرأت شعر المدرسة الرومانسية الإنجليزية وخاصة شعر "شيللي" و"بایرون" وشعر المدرسة الإنجليزية الحديثة وخاصة شعر "ت . س . اليوت". . وقرأت كل ما يترجم إلى الإنجليزية من أشعار سواء عن الألمانية أو الهندية أو الفرنسية أو غيرهما .
لذلك تكونت عندي حساسية تختلف عن التي عرفتها من على محمود طه، وناجي، ومحمود حسن اسماعيل، وكل ما يقرؤه الشاعر ينضم إلى ذاكرته الشعرية.. فأساتذتي يبلغون الآلاف، منهم الفلاسفة والمؤرخون والموسيقيون والفنانون التشكيليون، فأنا أدين مثلا بالكثير لفيسلوف مثل أفلاطون كما أدين لمؤرخ مثل توينبي.
ولأن الإنسان حساسية متصلة ومتجددة والمتجدد باستمرار هو الذي يواصل عطاءه ولا يقف عند عطاء معين أو شكل معين، فقراءة شاعر جديد حدث عقلي يضيف إلى حساسية الشاعر ومزاجه وقدرته العقلانية والوجدانية.
إذا كان مسرح صلاح عبد الصبور مسرحا شعريا ابتداء من مسرحية مأساة الحلاج، وانتهاء بمسرحية بعد أن يموت الملك.. ومرورا بمسرحية الأميرة تنتظر ومسافر ليل.. وهو قد تأثر بعملاق المسرح العالمي شيكسبير فكان من الضروري أن أستوضح أوجه الاتفاق وأوجه الخلاف بينهما..
في تواضع شديد يقول صلاح: هذا أكبر مما أستحق لأنني أعتقد أنه في مجال الشعر المسرحي بشكل خاص والشعر بوجه عام، فإن "شيكسبير" عظيم عظمة لا تطاول وهذا لا ينفي وجود مشاهد عنده سخيفة بمفهوم مصرنا. وهو كشاعر عبقري استفدت منه قدرته على مخاطبة المجردات - واحيائها مثل قوله أيتها الطبيعة، أيتها الفضلة.. كذلك محاولتي أن يكون التعبير شاعريا وشعريا وفي بعض الأحيان ماديا وساذجا لأنه موقف يحتاج ذلك، ثم لا يلبث أن يرتفع إلى النقمة الشعرية العالية، كذلك منهجه في البدء بحبكة المسرحية من أولها .
فمثلا عندما تقرأ الصفحتين الأوليين في مسرحية "هاملت" نجد أن الحوار المتقطع بين الحراس ينبئ بكل ما يدور في المسرحية من أحداث بعد ذلك، وهذا ما يفتنني في شكسبير فهو رجل مسرح فضلا عن كونه شاعرا، فقد نشأ شیکسبير ممثلا، أيضا وما يفتنني فيه أيضًا ما نسميه بالترويح الفكاهي من خلال مدة الموقف العاطفي، ففي "مأساة الحلاج" عندي مشهد السجينين فيه قدر كبير من الترويح الفكاهي، كذلك في مسرحية "بعد أن يموت الملك" عندي مشهد الخياط مع الملك وهو مشهد مضحك رغم شدة طغيان الملك.
شكسبير معلم من معلمي المسرح الشعري بوجه خاص والمسرح بوجه عام، إلا أن هناك مسافة كبيرة تفصلنا عنه فمسرحه رومانتيكي والمشاهد فيه قصيرة، ومساحة المسرحية الزمنية واسعة، وأشخاصه كثيرون، والحبكة فيه منتاثرة، فقد كان يعتمد على ثلاث أو أربع حبكات جانبية ثم الحبكة الرئيسية، وربما كنا الآن أميل إلى جعل الحبكة موحدة.. شكسبير معلم كبير ومن لم يقرؤه فاته الكثير من أسرار الصنعة المسرحية.
لصلاح عبد الصبور اعتقاد بأن لغة المسرح يجب أن تكون شعرا مرسلا.. فسألته كيف يمكن أن تصل بهذه القضية إلى ذهن المشاهد الذي يفضل العامية أساسًا!!.
قال الشاعر الكبير: نشأ المسرح في ظل الشعر لأن المسرح الإفريقي القديم كان مكتوبا بالشعر، وكانت المشاكل التي يتناولها هذا المسرح مشاكل لا يصلح لها سوى الشعر، فهي صراع بين الإنسان وقدره، العواطف فيها كبيرة والأحاسيس جياشة.. وظل كذلك حتى نبت المسرح الواقعي في أواخر القرن الثامن عشر وهو ما يسمى بمسرح الأسرة أو الاجتماعي.. فأصبحت لغته النثر.. وكانت حجة هؤلاء الكتاب أن المسرح أصبح يعبر عن مشاكل الرجل الصغير أو الرجل العادي وهو لا يملك أن يتكلم شعرا .
الآن في عصرنا الحديث أصبحت السينما أكثر قدرة على تحقيق هذه المشاكل من المسرح، وأضطر المسرح أن يعود إلى ما يعرف بالمشاكل الكبرى أو المشاكل المصيرية .
ولا يعني ذلك أن تكون اللغة شعرا مقفى وموزونا بل أن يكون فيها قدر كبير من الشاعرية.. والشعر ليس وقفا على النبلاء والأمراء، ففي لحظة تكثف نفسي أو حب شدید أو غضب شديد يمكن لمن يعيش هذه اللحظة أن ينطق شعرا، فعندما يصل الإنسان إلى لحظة جيشان عاطفي ينطق شعرًا منغما.
فالحزن العميق أو الفرح العميق أو الانفعال العميق يصل بالإنسان إلى مرحلة من الشفافية تضفي على كلماته الشاعرية.. وإذا كانت السينما قادرة على التحقيق الدقيق لمشاكل الإنسان فلا يبقي المسرح سوى المشاكل الكبرى.. المشاكل المصيرية مثل مشكلة الاختبار بين مواقف مختلفة لإنسان ما.. انفعالاته.. مشكلة وقوعه تحت ضغوط قدرية أكبر من قدرته كإنسان، کل هذا لا يعبر عنه إلا بالشعر.. وأنا لا أقول بأنه يجب أن يكتب المسرح شعرا بل أتنبأ بأن المسرح سيعود على الشعر والشاعرية .
أشعار صلاح عبد الصبور تغلب عليها نغمة الحزن، وهي نغمة مميزة في كل أشعاره بدءًا من ديوانه الأول، "الناس في بلادي" ثم "أقول لكم" ديوانه الثاني ثم "أحلام الفارس القديم" ديوانه الثالث: "حزن تمدد في المدينة.. كاللص في جوف السيكنة.. كالأفعوان بلا فحيح.. الحزن قد قهر القلاع جميعها.. وسبى الكنوز".
سألته عن سبب حزنه؟! ضحك الشاعر من أعماقه وقال: وما هو سبب سعادتك حتى أسعد معك؟!..
ولأني ليس عندي أسباب لذلك فقد شاركته ضحكه وقرأت بكائياته.. وإذا كان لكل فنان قضية من ثلاث شعاب هي الحرية والصدق والعدالة، حرية الإنسان في القول والتعبير عن فكره، وهي ليست حرية عذرية كما يقول، والصدق مع النفس بمعنى ألا يفعل الإنسان إلا ما يؤمن به، والعدالة بمعنى أنه عدل كما يقولون في اللغة العربية بمعنى أن كل إنسان معادل للإنسان الآخر في قدرته على التعبير عن نفسه .
وإذا كان الليل قد اقترب من منتصفه ولا يزال بيننا حوار تخللته نسمات بدات تداعب العيون بعد انتهاء يوم حار مرهق فلقد ودعت الشاعر الكبير قبل أن: يستيقظ الشيء الحزين في أواخر المساء، يمور في الأطراف والأعضاء، وينقل العينين والنبرة والايماء، فلا أجني من الحديث إلا "قبض الرياح" .