هوية مصر الفريدة.. «نظرية في درس الهوية»
ـ تنفرد مصر من بين أمم العالم منذ القدم بهوية عبقرية خالدة خلقت من تفاعل وفوران سرمدي لجغرافيا عجيبة بتاريخ إنساني ذي بريق لا يغيب سناه مدى الدهر
ـ هوية مصر تتميز بأنها حصاد تاريخها المتراكم، وحيويتها الكامنة، وشخصيتها المدنية المتميزة بين أمم العالم أبد الدهر
ـ سبق هيرودوت علماء العصور التالية في ذكر أثر الطبيعة المصرية "الجغرافيا" في تميز المصريين عن سائر شعوب العالم في عاداتهم وسننهم
تعد المحاولة لتقصي ملامح الهوية المصرية من أكثر مسائل دراسة مصر عمقًا ودقة، حيث إن عنصريها الرئيسيين هما جغرافية مصر التي تتميز من بين أمم العالم بعبقرية المكان Genius Loci. وحيث أتاحت الخصائص الطبيعة Physical Characteristics للإنسان المصري، عنصرها الثاني، لإبداع هذه الحضارة الشامخة، وتميز مصر بطابعها الحضري Urban Character ليكتسب في نفس الوقت سمة الاستجابة للتحدي الذي تميزت به هذه الجغرافيا الفريدة وطبقًا لنظرية أرنولد توينبي.
ومما تبين فتنفرد مصر من بين أمم العالم منذ القدم بهوية عبقرية خالدة خلقت من تفاعل وفوران سرمدي لجغرافيا عجيبة بتاريخ إنساني ذي بريق لا يغيب سناه مدى الدهر خُطّ بنسق تشكيلي علوي ملامح هذه الهوية التي لم تحظَ بها أمة أخرى في العالم.
فتتميز جغرافية مصر بسمة تحديد مصير العالم، وفي تضاريسها تكمن أقداره:
ففي العصور القديمة: اليهودية- المسيحية- الإسلام.
وفي العصور الوسطى: التتار والصليبيون.
وفي التاريخ الحديث: معركة النيل بخليج أبي قير.
وفي التاريخ المعاصر: معركة العلمين- القضية الفلسطينية- ثورة 30 يونيو.
كما تتميز بسمة أسطورية في استيعاب الأجناس والحضارات، والانتقائية، ثم بصيرورتها بوتقة صهر melting pot لكل عناصر الحياة المادية والمعنوية.
وتتميز الهوية المصرية بانفرادها من بين أمم العالم قديمه وحديثه، وتتكون هذه الهوية من عنصري: الجغرافيا (أي الموقع والموضع والتضاريس)، وإنسان فريد في تكوينه السلالي.
ولعل أن أقدم من تحدث عن هوية مصر وأوضح ملامحها الأولى هو المؤرخ الإغريقي "هيرودوت".
وذلك حين ذكر في ثاني كتبه التسعة والذي اختص به مصر، وفي الفقرة رقم 35 من هذا الكتاب التالي:
«والآن سأبدأ الكلام عن مصر بإسهاب، لأنها –دون غيرها من بلاد العالم أجمع– تحوي عجائب أكثر وآثار تجل عن الوصف ومن أجل ذلك، سأطيل الحديث عنها؛ نظرًا لأن مناخ مصر منقطع النظير، ولأن نهر النيل له طبيعة خاصة مغايرة لطبيعة باقي الأنهار ولذلك اختلف المصريون كل الاختلاف عن سائر الشعوب في عاداتهم وسننهم».
ومن العبارات السابقة الموجزة يتبين أن هيرودوت قد ذكر عنصري الهوية الرئيسيين، وهما: الجغرافيا والإنسان، وتحديدًا جغرافية مصر والمصريين، ويلاحظ أنه قد سبق علماء العصور التالية في ذكر أثر الطبيعة المصرية (الجغرافيا) في تميز المصريين عن سائر شعوب العالم في عاداتهم وسننهم.
والجغرافيا في مكون الهوية المصرية هي موقع وموضع وتضاريس، فمصر هي واسطة العقد بين إفريقيا وآسيا في نسق جغرافي فريد، كذلك هي حافة إفريقيا على البحر الأبيض المتوسط حيث يصب النيل، وحيث ترتبط بأوروبا بالماء الزاخر العباب، فضلاً عن أنها الدولة الإفريقية الوحيدة التي تتصل بكل من البحر الأحمر بحر التاريخ والأساطير في الأعماق شرقًا، والأبيض بحر الصفاء شمالًا.
وتضاريس مصر ذات نسق جيولوجي فذ؛ فهي نهر النيل الدافق بالحياة والكبرياء يتخلل الوادي منحدرًا من الجنوب للشمال وإحدى عشر بحيرة (إحداها بحيرة السد الصناعية)، وبحران تاريخيان تقدم ذكرهما.
ويرى جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" [سلسلة "كتاب الهلال"- الصادر في يونيه 1967]، أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان، وأن طريق الجغرافيا أكثر ثراءً في المناهج؛ لأنها تجمع ما بين الزمان والمكان، ابتداءً من الجيولوجيا حتى الأركيولوجيا ومن الفلك حتى الأنثروبولوجيا.
والإنسان في مصر هو المكون الرئيسي الثاني للهوية، وهو المصريون القدماء ومن انحدر من أصلابهم ويحمل جيناتهم في الأعصر التالية، وهم الذين أبدعوا هذه الحضارة، وهم في تكوينهم الأول السحيق بمثابة سبيكة محكمة العناصر من كل من الأجناس السامية (الآتية من الشرق) والإفريقية (الآتية من الجنوب) والشمال إفريقية (الآتية من الغرب). تلك العناصر التي تلاقت بتدرج تاريخي في عصور سحيقة وانصهرت خلال آماد طويلة، لتكون في النهاية الشعب المصري الفريد الذي بدأت ملامحه من خلال آثار عصر البليوسين Pliocene تقريبًا، وفي صحف التاريخ المكتوب وبصورة جلية خلال عصر الأسرة الأولى [2950 - 2780 ق.م].
وخلال عصور الأسرات الملكية القومية تكونت عقائد وعادات وتقاليد المصريين التي ترسخت وترسبت في الأعماق السحيقة للضمير الجمعي المصري، ومهما تعاقبت وما صادف الروح القومي المصري من عثرات خلال عصور القهر، ومهما لحق بمصر من محن كأداء.
ويرى المفكر الكبير الأستاذ سمير مرقص، بصفحة "قضايا وآراء" بعدد الأهرام رقم 46369 بتاريخ الثلاثاء 19 نوفمبر 2013 في مقال بعنوان: «الهوية المصرية بين "التديين" و "التسييس"»، أن الهوية نسق مفتوح يؤثر ويتأثر يتفاعل وفي الأصل يتكون ويتبلور ويصقل عبر الزمان.. وعليه فإن الهوية لا تعبر عن حالة سكونية مستقرة وراسخة، بل هي حالة ديناميكية.
وأجتزئ من مقال آخر له بعنوان: «الهوية المصرية وركائزها ومسارها!»، بصفحة قضايا وآراء بعدد الأهرام رقم 46362 الصادر بتاريخ الثلاثاء 12 نوفمبر 2013، التالي:
أنه من بين الركائز التي تقوم عليها الهوية المصرية من خلال السياق الحضاري المصري:
أولًا: أن هوية مصر هي نتاج حركة حضارية دؤوب من قبل المصريين عبر العصور؛ لذا يعتبرها محمد شفيق غربال "حصيلة تفاعل بين الاستمرارية والتغيير"، فمصر مر عليها أشكال وألوان من الثقافات والأديان والأجناس من المنتجين للحضارات المختلفة بعضها استقر بها وبعضها الآخر عبر أرضها... إلخ. وكانت مصر في الأحوال تستوعب وتهضم وتتمثل وتعيد الإنتاج، سواء على المستوى المادي أو المعنوي: فنون وعمارة، وفقه ولاهوت ، وأدب شعبي… إلخ.
ثانياً: وفي هذه الركيزة يعرض المفكر الكبير للسمة الجوهرية للهوية المصرية، وهي التمصير لكل ما هو وافد لمصر أياً كانت طبيعته، والانتقائية لما ينفع مصر وتجنب ما لا يتفق مع روح مصر، حيث يقول: «أصبحت الهوية المصرية هي "حاصل ضرب مختلف الحضارات والثقافات والأديان" لا حاصل جمع، وهناك فرق بين الاثنين. وعليه انفتحت مصر على كل ما هو جديد، تأخذ ما يفيدها وتلفظ ما يضر نواتها الصلبة الثقافية الأولى. هكذا تعامل المصريون مع المسيحية الوافدة وبات هناك مسيحية مصرية نفخر بها. مركز لها اجتهادنا اللاهوتي وتراثها الثقافي. كما تعاطى المصريون مع الإسلام القادم، وأصبح هناك إسلام الخبرة المصرية الذي يجعل الإمام الشافعي يغير الكثير من فقهه بعد أن التقى بالليث بن سعد، ويجعل مصر تقبل حكم الفاطميين (من عام 969 – 1171م) وتأخذ الكثير من العادات والسلوكيات الحياتية دون التفريط في مذهبها الرئيس. وأثناء ذلك نجد تواصلًا حضاريًا مستمرًا في الكثير من المجالات من وقت الفراعنة.
ثالثا: في ضوء ما سبق تكونت الشخصية الحضارية المصرية من حصيلة كل ما مر بها واختبرته على أرض الواقع».
ولعلنا نجد التجسيد المادي لما ورد في بعض الركائز الثلاث السالفة للمفكر الكبير في أثر عجيب ادّخرته الأقدار، ليصبح بمثابة تذكار لأجيال مصر بطبيعة الهوية المصرية، وهو أثر قومي نفيس تذخر جدرانه بذخائر من المعرفة، وهو الأثر المعروف بقبر الكاهن المصري بتوزيريس بمنطقة تونا الجبل بصحراء المنيا.
ويؤرخ هذا الأثر (وذلك من عناصر عبقريته) بالفترة ما بين انتهاء الاحتلال الفارسي وقدوم الإسكندر الأكبر لمصر في غمار انحسار واختفاء العاهلية المصرية المركزية القومية، حيث إن مصر بعد اختفاء فرعونها قد أصبحت في مفترق الطرق، حيث خلفها ماضيها المجيد وأمامها حاضرها القلق تناوشها الرياح الحضارية الإغريقية التي هبت من الشمال من وراء البحر، وانحسار النفوذ الفارسي الثقيل، حيث تجلت هوية مصر على جدران المقبرة في ظهور ملابس إغريقية لأول مرة على قبر مصري صميم، وكذا عادة إغريقية تتمثل الضحية بثور خلال جنازة المتوفي، وكذا استخدام أواني إغريقية بحتة لملئها نبيذًا، وظهور تمثال لإله الحب إيروس أعلى آنية معدنية بين رسوم هذا القبر المصري المهيب. وفي نفس الوقت ظهر تصوير لطائر الديك الداجن على جدار المقبرة، وهو من آثار العهد الفارسي، وإذا بمتون الأهرام السحيقة تظهر على جدران القبر بعد آلاف السنين من عصر بناة الأهرام؛ تعبيرًا عن إصرار وتمسك المصريين بتراثهم التليد في مواجهة عوامل الغزو القاهرة، مع انتقاء صاحب المقبرة في نفس الوقت لما راق له من عناصر هاتين الحضارتين. كما أنه قد ظهرت لأول مرة عبارات بمدخل المقبرة توضح تطور الهوية المصرية لتلبية لمقتضيات العصر، حيث ظهر المتوفي متكلمًا وواعظًا لزوار المقبرة.
حيث يخاطب صاحب القبر زواره من الأحياء عبر الأزمان الآتية قائلًا في لهجة عجيبة جديدة على المقابر المصرية:
«سأرشدكم إلى طرق الحياة؛ ومن ثم سوف ترسون في العالم الآخر تحدوكم ريح رخاء»
وعلى جدران قبر مجاور غير أنه يرجع للعصر الروماني، يظهر للمرة الأولى أيضًا حيوان الجمل القادم من الصحراء الغربية منحدرًا لأعالي وادي النيل.
ونصل في النهاية إلى عصر الإسكندرية، لتكتسب الهوية سمة الكوزموبوليتانية، ولتعبر عنه مصر باعتبارها بوتقة انصهار نتيجة ما تعاقب عليها من حضارات في أزمان الغزو، وانحسار المركزية وبالتالي تعطل الروح القومي.
ويمكن القول بأن هوية مصر تتميز بأنها حصاد تاريخها المتراكم، وحيويتها الكامنة، وشخصيتها المدنية المتميزة Identity Civic بين أمم العالم أبد الدهر.