المسرح المحلي.. هوية مصر المسرحية
د. سيد علي إسماعيل
● بعد صدور دستور 1923 بدأ المسرح يتغير ويتخلى عن الهيمنة الأجنبية وسلطة النص الأجنبي من أجل إيجاد «المسرح المحلي» الذي يُمثل هويتنا المسرحية والثقافية
● ظل التسابق بين الفرق المسرحية متواصلاً من أجل إيجاد المسرح المحلي عندما خصص الملك فؤاد مبلغ ألف وخمسمائة جنيه من أجل التأليف المسرحي
● المسرح المحلي في رأى النقاد هو عنوان مجد كل أمة ومقياس حضارتها، وهو المرآة التي يرى فيها الأجنبي أخلاق تلك الأمة وعاداتها وما بلغته من مدنية في الحياة
● تم إنشاء «لجنة ترقية المسرح المحلي» عام 1936، فأدخلت تعديلات على نظام العمل بالفرقة القومية، وافتتحت معهد التمثيل، وأوفدت البعثات المسرحية إلى خارج مصر
المسرح فن غربي وافد إلينا، وأغلب عروض المسرح في مصر كانت أجنبية منذ بناء المسارح الحديثة مثل: تياترو «زيزينيا» في الإسكندرية عام 1864، ومسرح «الكوميدي الفرنسي» عام 1868 – ومكانه الآن مبنى بريد العتبة – ودار الأوبرا الخديوية عام 1869 – ومكانها الآن جراج سيارات متعدد الطوابق – وعندما جاءت أول فرقة مسرحية عربية إلى مصر – وهي فرقة سليم خليل النقاش عام 1876 – عرضت مسرحيات باللغة العربية مترجمة ومعربة من مسرحيات أجنبية!! وظلت أغلب الفرق المسرحية الشامية والمصرية ملتزمة في عروضها بالنصوص الأجنبية ترجمة وتعريباً واقتباساً حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولكن الأمر اختلف مع اندلاع ثورة 1919، وصدور تصريح 28 فبراير الذي اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وإنهاء الحماية البريطانية على مصر، مما أدى إلى وضع دستور 1923 والذي ينص في مادته الأولى أن "مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة".
بعد أيام من صدور هذا الدستور بدأت مصر تبحث في ماضيها وتراثها وتاريخها وعاداتها وتقاليدها من أجل تأصيل كافة المجالات لتكون مصرية في منابعها وهويتها، ومنها مجال المسرح الذي بدأ يتغير ويتخلى عن الهيمنة الأجنبية وسلطة النص الأجنبي من أجل إيجاد «المسرح المحلي» الذي يُمثل هويتنا المسرحية والثقافية، وبدأ مصطلح «المسرح المحلي» يلقى اهتماماً كبيراً لسنوات كثيرة، وتنافس حول تحقيقه أغلب المسرحيين، ومنهم «نجيب الريحاني» و«علي الكسار» وغيرهما ممن التزموا بالمسرح الهزلي – أي الكوميدي – كونه يُعد أساساً للمسرح المصري وأحد أركان المسرح المحلي. وفي حوار للريحاني منشور في مجلة «المصور»، قال: "كانت خطتي منذ اليوم الذي كونت فيه أول فرقة حملت اسمي أن أقوم بتأسيس «المسرح المحلي»، وأجعل من الروايات المصرية المؤلفة دعامة يرتكز عليها لاعتقادي أنها أكبر خدمة تؤدى للتمثيل وللشعب".
أما فرقة أولاد عكاشة – أو شركة ترقية التمثيل العربي – فقد مثلت عام 1925 أوبرا «ليلة كليوباترا»، التي عدّها النقاد أول أوبرا مصرية صميمة في موضوعها وتأليفها وألحانها بعيدة عن أي أثر غربي! وعدّها الناقد «محمد عبد المجيد حلمي» أساس المسرح المحلي.
ظل التسابق بين الفرق المسرحية متواصلاً من أجل إيجاد المسرح المحلي حتى عام 1928، عندما خصص الملك فؤاد مبلغ ألف وخمسمائة جنيه من أجل التأليف المسرحي لإيجاد المسرح المحلي، ونشرت جريدة «المقطم» هذا الأمر قائلة: أعلنت وزارة المعارف أن جلالة الملك أمر بمبلغ 1500 جنيه توزع على ثلاث سنوات تمنح جوائز في مباراة الروايات المسرحية.
وأصدرت الوزارة قراراً بلجنة الحكم من: صاحب العزة الأستاذ «ويصا واصف» بك رئيس مجلس النواب، وعضوية حضرة أصحاب المعالي «جعفر ولي باشا» وزير الحربية، وصاحب العزة «محمد لبيب عطية بك» المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، والشيخ «علي الجارم» المفتش بوزارة المعارف، والشيخ «مصطفى عبد الرازق» الأستاذ المساعد بالجامعة المصرية، ووضعوا شروطاً للمسابقة، منها: أن تكون الروايات مسرحية فلا تقبل روايات سينمائية.
وأن تكون الرواية من وضع مقدمها [أي مؤلفة] فلا تقبل رواية مترجمة أو مقتبسة. وأن تكون الرواية مصوغة في قالب عربي سهل فصيح فلا تقبل رواية بلغة عامية أو بغير اللغة العربية".
واستقبلت الوزارة ثمانين مسرحية مؤلفة، وفازت مسرحية «الذكرى» لمؤلفها «محمد عبد العزيز الخانجي» بالجائزة الأولى، ومثلتها فرقة «فاطمة رشدي» على الأوبرا الملكية في نوفمبر 1929.
وفي عام 1930 نشرت مجلة «روز اليوسف» خبراً بعنوان «إلى المؤلفين المسرحيين»، قالت فيه: صرح لنا الأستاذ أمين بك يوسف السكرتير العام المساعد لمجلس الشيوخ أن نعلن باسمه أنه يمنح من ماله الخاص مكافأة قدرها 100 جنيه مصري لمن يؤلف خير رواية مسرحية مصرية، والمهلة المعطاة هي ستة شهور تبدأ من شهر أبريل وتنتهي في آخر سبتمبر سنة 1930.
وسوف يعلن في الوقت المناسب عن اللجنة التي يوكل لها الحكم بين المتبارين. وموضوع الرواية يجب أن يدور حول حالة مصر بعد خمسين عاماً سواء من الوجهة الاجتماعية أو العمرانية أو السياسية.
نجاح هذه المحاولات كان محدوداً، وظلت النصوص المسرحية الغربية هي المهيمنة على المسارح المصرية سواء بالترجمة أو التعريب أو الاقتباس، وأمام هذه الإشكالية قامت الوزارة بتشكيل «لجنة لترقية التمثيل العربي» من: «أحمد شوقي بك» عضو مجلس الشيوخ رئيساً، والمسيو «كاريه» والمستر «سترلنج»، الأستاذين بكلية الآداب بالجامعة المصرية، و«عباس العقاد» أفندي، و«محمد توفيق دياب» أفندي عضوي مجلس النواب، و«خليل مطران بك» و«جورج أبيض» أفندي و«زكي طليمات» أفندي. وتكون مهمة اللجنة "وضع بيان بأسماء الروايات الأجنبية التي يُحسن تعريبها أو اقتباسها للتمثيل في المسارح المصرية، وبحث الروايات التي تُقدم للوزارة لغرض تمثيلها في المسارح سواء أكانت معربة أم مقتبسة أو موضوعةـ وتفصيل البحث في الطرق المقترحة لتشجيع التمثيل المصري سواء بإعانة التمثيل أو بإعداد الممثلين أو بترقية الإخراج الفني". هكذا نشرت جريدة «كوكب الشرق» عام 1930.
نتج عن هذه اللجنة ظهور أول معهد مسرحي في مصر – والعالم العربي – وهو «معهد فن التمثيل العربي»، الذي اختار في أول أعوامه الدراسية عشر مسرحيات مصرية مؤلفة كي يدرسها طلاب المعهد. كما قررت اللجنة حتمية أن تقوم كل فرقة مسرحية مصرية بتمثيل أربع مسرحيات مصرية مؤلفة كل موسم مسرحي، إذا أرادت أن تدعمها الوزارة بالمال. وبررت جريدة «الثغر» ذلك بقولها: "حتى يكون لنا مسرح مستقل وأدب محلي وطابع خاص، فلا نستمر في تغذية مسرحنا بمنتجات المؤلفين الغربيين سواء بالصالح من بضاعتهم أو بالطالح، ونركن إلى نقل آدابهم الغريبة عنّا نقلاً ميكانيكياً لا جهد لنا فيه ولا فضل".
ومن أوائل الفرق المسرحية المصرية التي طبقت ذلك، فرقة «فاطمة رشدي» التي افتتحت موسمها لعام 1930-1931 بمسرحية «667 زيتون» تأليف «سليمان نجيب»، وقالت فاطمة في كلمتها المنشورة في برنامج المسرحية، تحت عنوان «كلمتي إلى مواطني الأعزاء أصدقاء المسرح وأنصاره»: "في هذه الأزمة العامة التي نال كل عمل أو مشروع نصيبه منها. أتقدم في مفتتح هذا الموسم التمثيلي الرابع رافعة راية المسرح المحلي، والتمثيل الراقي في مصر، بعد أن ألقى غيري بتلك الراية المقدسة فراراً من ذلك الميدان الذي اتفقت كل العناصر المدمرة، وتضافرت أعاصير الفشل على نسف بنائه وتقويض أركانه.
أتقدم بعد أن وطنت النفس على التضحية بكل غالٍ من مال وصحة وراحة في سبيل الأمنية المنشودة، تلك الأمنية التي انطوت على حبها ورعايتها جوانحنا لنقوم بواجبنا المقدس في خدمة الوطن من هذا الطريق .. طريق التمثيل الراقي الذي ينهض بنفسية الأمم إلى المثل الأعلى وينمي ثقافتها ويشعرها بتقديس حريتها، وينبهها إلى أخذ مكانتها بين الأمم الراقية المتمدينة".
مرت أربعة أعوام على هذه التجربة، ولم تسفر عن نتيجة إيجابية تتناسب مع الجهد المبذول لإيجاد المسرح المحلي المفقود!! وناقش هذه المعضلة ناقد مجلة «المصور» في ديسمبر 1934، عندما طرح سؤالاً يقول: «مسرحنا المحلي .. هل له من وجود؟» .. وحاول الناقد الإجابة على سؤاله في مقالته المنشورة، قائلاً: المسرح المحلي في كل أمة هو عنوان مجدها ومقياس حضارتها، وهو المرآة التي يرى فيها الأجنبي أخلاق تلك الأمة وعاداتها وما بلغته من مدنية في الحياة.
ولئن قصدت مصراً من الأمصار وارتدت أحد مسارحها وشاهدت ما يُمثل فيها من روايات محلية، فإنك لن تجهد نفسك كثيراً في الوقوف على مدنية ذلك القطر، وعلى أخلاق أهله وعادات قاطنيه.
وإذا كان هذا شأن المسرح المحلي من الأهمية فإنه من أوجب الواجبات على كل أمة أن تراعي هذا المسرح وتوليه من عنايتها ما يستحقه. وليس من أمة متحضرة في هذا العالم أهملت مسرحها المحلي كالأمة المصرية. لأنك إذا وجهت نظرك هنا وهناك رأيت المسرح المصري عالة على المسارح الأجنبية، يأكل فتات موائدها دون أن يعتمد على نفسه وأن يقف مستقلاً بمجهوده ومجهود آله.
هناك فرقة جورج أبيض قد بدأت موسماً يستغرق شهر رمضان المبارك ونشرت على الملأ أسماء ما ستخرجه من روايات فكم رواية مصرية بين هذه المجموعة؟ إنها رواية واحدة هي «عاصفة في بيت» للمرحوم أنطون يزبك وإلى جانبها من الروايات الأفرنجية المعربة: الممثل كين، مضحك الملك، الشرف الياباني، جاكلين، نابليون، عطيل، لويس الحادي عشر، وغيرها. فأي شعور يشعر به الأجنبي حين يرى الفرقة الجدية الوحيدة الآن في البلاد تعمد إلى اختيار كهذا؟ وماذا يكون رأيه في مسرحنا المحلي؟ نحن لا نقول بمقاطعة الروايات الأفرنجية على الإطلاق بل نحبذ إخراجها من وقت وآخر ولا سيما ما كان منها عظيم القيمة كبير المغزى كتلك التي يقدم أبيض تمثيلها في رمضان. هذا على أن تقوم إلى جانبها روايات مصرية جمة تكون هذه الأفرنجية إلى جانبها أقلية صغيرة ولا أكثرية تشبه الإجماع.
يقول الكثيرون - وهم على شيء من الحق فيما يقولون - إن المسرح المحلي معدوم في مصر ولا وجود له. هذا رأى له قيمته إلا أننا لا نذهب بعيداً إلى هذا الحد، فقد جاهد كتاب وممثلون في سبيل إيجاد هذا المسرح ورفع شأنه وكان في مقدمة أؤلئك المجاهدين «يوسف وهبي» سواء من جهة التأليف أو التمثيل. ثم جاءت الظروف التي حالت بين يوسف وبين السير في طريقه فأضحى المسرح المحلي قائماً على جهود فرقتين لا ثالث لهما هما فرقتا الريحاني والكسار. وأهم ما يعتمد عليه المسرح المحلي هو نوع الكوميدي، إذ يستطيع المؤلف أن يدرس فيه كثيراً من العادات درساً دقيقاً يمشي فيه الجد في قالب الفكاهة فتستسيغه النفس ويستريح له الفؤاد.
نتج عن هذه الصراحة - التي نقلت لنا الواقع - ظهور «لجنة ترقية المسرح المحلي» عام 1936 برئاسة «حافظ عفيفي باشا»، التي أدخلت بعض التعديلات على أنظمة العمل بالفرقة القومية، حيث أجرت امتحانات على أفرادها، واستغنت عن بعض الرموز من كبار الممثلين، وخفضت أجور البعض الآخر، وأحدثت تغييرات في نظام المسرحيات .. إلخ ما رأته في صالح «المسرح المحلي» .. ونتج عن هذا قيام رئيس اللجنة بدعوة أعضاء مجلسي النواب والشيوخ إلى حفلة مسرحية خاصة بحضراتهم تقيمها الفرقة القومية بتياترو الأزبكية وتمثل فيها الفرقة مسرحية «تاجر البندقية»، حيث إن هذه الدعوة ستتيح الفرصة لأعضاء المجلسين للوقوف على مجهود الفرقة القومية وما وصلت إليه من نجاح.
كما قامت لجنة ترقية المسرح المحلي بالاستعداد لافتتاح معهد التمثيل، كما أخبرتنا بذلك مجلة «المصور» أواخر عام 1936، قائله: أصبح من المقرر أن تصدر لجنة ترقية المسرح المحلي في جلستها المقبلة التي ستعقدها خلال هذا الأسبوع قرارها الأخير في شروط الالتحاق وفي نظام الدراسة بمعهد التمثيل الذي سيعاد افتتاحه في القريب العاجل. والمعروف أن اللجنة ستشترط في بادئ الأمر حصول المتقدمين للالتحاق على البكالوريا، على أنها سترحب بقبول عدد محدود من الطلبة من ذوي المواهب الطبيعية الممتازة بغض النظر عن الشهادات الدراسية.
وكانت لجنة ترقية المسرح المحلي سباقة إلى إيفاد البعثات المسرحية إلى خارج مصر، هكذا قالت مجلة «المصور» أوائل عام 1937 تحت عنوان «سفر البعثة المسرحية»: غادرنا في هذا الأسبوع إلى خارج القطر، أعضاء بعثة التمثيل والإخراج المسرحي الذين قررت لجنة ترقية المسرح المحلي إيفادهم إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا لدراسة أحدث وسائل الإخراج والتمثيل المسرحي في معاهدها الفنية ومسارحها الكبرى لمدة ثلاثة أعوام. والبعثة مكونة من أربعة أفراد هم الأساتذة: فتوح نشاطي، وسراج منير، وصالح الشيتي، ومتولي. وسيذهب الأول إلى فرنسا، والثاني والثالث إلى ألمانيا، والرابع إلى إنجلترا.
ولسنا بحاجة في هذه المناسبة إلى تقديم فتوح وسراج من جديد إلى قراء هذه الصحيفة، فتفوقهما وإجادتهما في عملهما المسرحي خلال العشر سنوات الماضية إلى جانب مكانتهما في أسرة الفن، وثقافتهما الخاصة، ومؤهلاتهما الدراسية، يغنيهما عن التعريف، وتجعلنا نعلق من الآن الآمال الواسعة عليهما مما يبعث في نفوسنا الاطمئنان على مستقبلهما بما سيقدمانه من خدمات إلى الفن المحلي بعد عودتهما. أما الأستاذان الشيتي ومتولي، فيكفي أن نسجل لهما ما تبينته فيهما لجنة ترقية المسرح المحلي من المواهب والاستعداد الطبيعي إلى جانب المؤهلات الدراسية التي رجحت كفتهما كثيراً على غيرهما من الذين تقدموا إلى هذه البعثة.
وأخيراً، لا نشك في أن أعضاء هذه البعثة يقدرون تمام التقدير أعباء المهمة التي ألقيت على عاتقهم، ويدركون مدى ما تعقده البلاد عليهم من الآمال. وها هي الفرصة سانحة. فإلى الأمام ونحن في الانتظار.