إبداعات الهلال.. «يترنّح داخل زجاجة» قصة قصيرة لـ مراد ناجح عزيز
تنشر بوابة دار الهلال، ضمن باب "إبداعات" قصة قصيرة بعنوان "يترنّح داخل زجاجة" للكاتب مراد ناجح عزيز، وذلك إيمانا من مؤسسة الهلال العريقة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.
نص القصة
استنفذ ..
ضوء النهار كل طاقته، كعجوز استسلمت لصفعات يد ثقيلة، كي تترك مكانها لفتاة في عمر الزهور، هدأت الشّوارع ليلًا، إلا من نَفَر قليل، ممن هجروا منازلهم بحثًا عن مكان، ربّما كانت إحدى المقاهي، وسامر من الحكايات تناقله رجال القرية، كانت للمبة الجاز وقتها سطوة وجلال كلّما اقبل الليل، تشعر وكأنّها الوطن الذي يعيد رسم خارطة الأشياء، أو قُل هي النافذة الوحيدة لاكتشاف الطّريق، دون أن تنزلق أقدامنا أو تتعثّر في وحل شتاء أمطرت فيه السّماء، هكذا هي حياة قريتنا، تتبادل الأدوار رتيبة بغير إبداع.
ضوء خافت، بالكاد يفسّر ما يصافح من الكلمات عينيه التي ذَبُلت، اختنق الهواء بفعل الرّطوبة، ينساب عرقه خلف أذنيه، لدغات الناموس تهاجمه من كل الزوايا، صوت نقيق الضّفادع يعلو تدريجيًّا، يحاول ترطيب جلسته بكوب من ماء (الزّير) لعلّه يُعيد إليه نفحات هواء بارد، لا مفر إذًا من مواصلة المذاكرة، نعم الطّريق صعب ولكنّه تذكر بعض أمثلة لمشاهير من رجال الفن والسّياسة، بعضهم كان يذاكر على ضوء شمعة وآخر كان يذاكر على لمبات أعمدة الإنارة ليلًا، أُجهدت عيناه، بدأ الضوء يترنّح داخل زجاجة الإنارة.
مازال أمامه الكثير لم ينتَهي منه بَعد، نفخ فيما تبقّى من الضوء كي يُحافظ على البقيّة الباقية من الجاز ليوم أخر، أظلمت غُرفته تمامًا، ممتطيًا جواد رغبته في مواصلة التّحدّي، لملم أوراقه وقطعة من الخُبز الجاف، لعلّها تسد بعضًا من إحساسه بالجوع إذا ما احتاج إلى قليل منه، انفرجت أسارير وجهه بعد لحظات قليلة، بالفعل الضّوء هُنا له طبيعة أخرى، كلمات تحفّزه، يجلس متّكيًء على كرسي يدور في هيبة وجال، تُحيطه حُجرة تتنفّس جدرانها كثيرًا من روائح باريسيّة، يتساقط من سقفها هواء يضمّد جراح صيف حزين، بالقُرب منه خِزانة أموال، ثياب فاخرة، ينساب صوت الموسيقى حالمًا، مع أوّل نافذة لضوء النّهار، تحسس بأذنيه بعض كلمات، لا ترى فيما أكلت منه الليالي نجاة من مركب غارقة، قاطبًا حاجبيه دون أن يُبدي أي اهتمام، شَعُر بقشعريرة تسرى في جسده النحيل، كونه ترك نافذة غُرفته مفتوحة، بحثًا عن متنفّس آخر للهواء، اعتدل قليلًا، أغلق النّافذة، وقبل أن يستعيد رؤيته تمامًا، وإذ بصوت يعرفه جيّدًا يدق باب غُرفته: (باقي الأقساط يا عم سعيد).