رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أوركسترا القاهرة السيمفوني .. أحد تجليات ثورة 1952

11-7-2024 | 15:24


د. إيهاب صبري,

إنَّ الجنسية أو بطاقة الهوية لا تكفي لخلق شعب من العدم. وإنما توجد الشعوب ويعترف بها عندما يكون لها ركيزة من التراث الحضارى الذى يعتمد على الفنون بشكل عام وتمتد جذوره لقرون عدة عبر تاريخ البشرية الطويل ولها في الوقت نفسه الارتباط الكامل بالأرض التى تتردد على ثراها.

ويبحث الإنسان المصري، منذ البدايات، عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جُمعت وجرى فهمها أخيراً: "مما لا شك فيه أنَّ كل عمل موسيقى يكتبه مؤلفه بإحساسه وعقله معا وتمتزج فيه العواطف والأحاسيس الإنسانية بالأساليب الفنية والقواعد العلمية. وتختلف المقطوعات الموسيقية فى نوعها على مقدار ارتباط المؤلف بأسس البناء الموسيقى أو باهتمامه بالناحية التصويرية فى مؤلفه وذلك بالتعبير بألحانه عن فكرة معينة أو تصوير بعض الأحداث أو سرد القصص".

وبالتالي يقترن بحث الإنسان المصري عن المرآة بمفهوم الموسيقى التصويرية ولا ينأى عن الموسيقى ومفهومها كما لا ينأى من جهة أخرى عن النموذج التفسيري في القضية موضع البحث ألا وهو علم البصريات. ومن أسس البصريـــــــــات أنَّ الضوء هو الوسيلة التى يرى بها الإنسان الأشياء التى تحيط به بل إنّه البريد الذى ينتقل إلينا من آفاق الكون البعيدة ينبؤنا عما هناك من ظواهر، الكثير منها يهمنا ويؤثر فينا على سطح الأرض".

فمثلا البقع الشمسية تؤثر في الأحوال الجوية على سطح الأرض وغير ذلك. ولولا الضوء الذى يربطنا بكل آفاق الكون وقدرتنا على الإحساس والتأثر به بالإضافة إلى قوة الإدراك العقلية التى يتميز بها الإنسان لما كان للإنسان هذا الأفق الفكري العريض ولمّا امتد علمه بالأشياء والكون هذا الامتداد البعيد والضوء هو وسيلتنا الأولى للاتصال بكل ما حولنا.

إنَّ الإنسان المصري كان يبحث، منذ البدايات، عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جُمعت وجرى فهمها أخيراً. فقد بدأت النهضة الموسيقية المصرية الحقيقية 

مع ثورة 1952 التى اهتمت منذ اليوم الأول بدعم الأجهزة الفنية بالإذاعة، وتم رفع عدد العازفين بأوركسترا الإذاعة -في أول الأمر- إلى عدد 65 عازفاً بعد أن كان عدد أفراده 40 عازفاً ونظم العمل بهذا الأوركسترا بحيث يقدم إنتاجه من الموسيقى المصرية المتطورة إلى جوار بعض المؤلفات الأوروبية المناسبة ولفائدة المستمع المصرى ولزيادة قدراته على فهم واستيعاب هذه الأعمال الموسيقية الجديدة قدّمت الإذاعة العديد من البرامج الموسيقية المصحوبة بالشرح والتحليل للمقطوعات الموسيقية المذاعة، وبالرغم من الجهد الكبير الذى بذله هواة الموسيقى المصرية المتطورة فقد ظلت أعمالهم -بصفة عامة- مجهولة بالنسبة للجماهير العريضة.

 وذلك لعدم الاستماع إليها بانتظام ونُدرة الحفلات الموسيقية التى تتيح تقديم مثل هذه الأعمال، ولكن بعد أن وافقت الجهات المشرفة على الإذاعة على اقتراح الذى تقدمت به مراقبة الموسيقى بالبرنامج العام على اشتراك أوركسترا الإذاعة في الحياة الموسيقية المصرية مشاركة فعالة بتقديم بعض الحفلات الموسيقية وبذلك -وللمرة الأولى- أُتيحت للفنان المصرى الجاد فرص الاتصال المباشر بالجماهير العريضة المتذوقة للأنماط الجادة من الموسيقى، وفي الوقت نفسه عملت مراقبة الموسيقى بالإذاعة المصرية على تذليل كل العقبات أمام الفنان المصرى .

وأتاحت له كل الفرص لتقديم الأعمال الموسيقية المتطورة والتى تعتمد في أغلب الأحيان على القوالب الموسيقية الأوروبية مثل: القصيد السيمفونى- والرابسودى- والتنويعات ومختلف الألوان الموسيقية الجادة أما السيمفونيات والكنشيرتوات المصرية فقد وجدت طريقها إلى المستمع المصرى من خلال موجات البرامج الأوروبية المذاعة من القاهرة ثم البرنامج الثانى والبرنامج الثقافي، الذى ألقى الضوء على هذه الأعمال الجادة وشرحها للجماهير كما أتيحت الفرص للفنانين المصريين لشرح أساليبهم الموسيقية وذلك لتقريبها من فهم المستمع المصرى.

وفي نهاية عام 1959 انتقل أوركسترا الإذاعة إلى وزارة الثقافة وأصبح اسمه: أوركسترا القاهرة السيمفونى، وواصل رسالته التى بدأها -في الإذاعة- بتقديم الأعمال الموسيقية المتطورة ومع الزمن أصبحت (المدرسة الموسيقية المصرية المتطورة) حقيقة واقعة ولها أثرها إبداعاتهم من عزف باشتراكهم في الحفلات الموسيقية كسوليست أو تقديم مؤلفاتهم وأعمالهم الموسيقية والغنائية الجادة".

فمن البديهيات التي نسلّم بها "أنّه لا توجد حضارة أو تاريخ بدون موسيقى لأنَّ الموسيقي ظلت وستظل المرآة التى تعكس على مر السنين، تاريخ الحضارات الإنسانية في شتى بقاع العالم".

كما سعى الناقد الموسيقي المصري: أحمد المصري لتبيان ذلك، في ميدان تقويمه لحال الثقافة الموسيقية في مصر. فهو لم يجادل "في أنَّ الموسيقى المصرية تحتاج إلى تنظيم. فهى تمر بفترة من عدم الاستقرار بين أنصار الفن الغربي وبين المحافظين على أسس الموسيقى القديمة من بشارف وسماعيات. ولا يمكن، بطبيعة الحال، التوفيق بين الرأيين، كما لا يمكن الأخذ بأحدهما وإهمال الآخر.

إنَّ ما تُلاقيه الموسيقى المصرية الحديثة المتطورة على الأسس العلمية من إقبال دليلٌ واضح على الرغبة في التطور والسير بالموسيقى مع ركب الحياة.

أمّا الرأى الذى ينادي بترك الموسيقى الشرقية كليةً فلا يحتاج إلى تفنيد"؛ و"الحركة الموسيقية المتطورة مشت على رجلين اثنتين، الأولى: أولاد الذوات أو القادرين، والأخرى الفرق العسكرية وخريجو الفرق شبه العسكرية، والفرق الأخرى ممن كانوا يؤلفون السيمفونية أو الكونشيرتو أو القصيد السيمفونى، ومنهم يوسف جريس وأبو بكر خيرت".

ليس هناك ما هو أقل تحديداً، وأكثر تشتتاً مما هي هوية كل واحد، ليس هنالك ما يصعب أن نحرزه أكثر من وجهنا حين لا تكون موجودة مرآة تعكس صورته. إنَّ "مستقبل الموسيقى المصرية"، كما قال أحمد المصري، "سيتقرر هنا في القاهرة ولا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، الاعتماد على الفن الأجنبى اعتماداً كليا، إذا أنّنا نريد موسيقى مصرية صميمة لا مجرد تقليد ممسوخ للموسيقى الغربية".

إذا حاولتُ أن أتطلع في ذاتي، مُعَّرِّضاً نفسي للخطر، لا أعثر إلاّ على ليل، وضباب وهاوية- كما لو أنَّ ضمير المتكلم المدفوع إلى أقصاه تحول إلى عكسه في حيادية الغفل أو انفجر (هكذا، في الحلم) إلى أقنعة كثيرة لا قوام لها:

"ففي الربع الثانى من القرن العشرين، كما روى أحمد المصري، اتجه بعض هواة الموسيقى من المثقفين فنياً إلى محاولة كتابة مؤلفات موسيقية مصرية تعتمد إلى حد ما على علوم الموسيقى الأوروبية وشاركهم في هذا الاتجاه بعض الموسيقيين المصريين الذين تلقوا تعليمهم للموسيقى بالموسيقات العكسرية.

وكانت العقبة الرئيسية في سبيل هذا التطور هى عدم وجود الوسيلة الموسيقية الصالحة لتقديم مثل هذه الأعمال، إذ كان على المؤلف الموسيقى تكوين الأوركسترا القادر على تقديم أعماله على نفقته الخاصة إذا وجدت الظروف المناسبة لتقديم مثل هذه الأعمال".

لقد كان لتأسيس الإذاعة المصرية أثره الكبير على الحياة الموسيقية والغنائية في مصر، إذ خصصت الإذاعة -خاصة بعد ثورة الثالث والعشرين من يوليه من عام 1952- فترات ثابتة بالبرامج المذاعة لتقديم المختارات الغنائية والموسيقية وعرف المستمع المصرى للمرة الأولى أسماء بعض الرواد في هذا المجال مثل: محمد حسن الشجاعى وعبدالحميد عبدالرحمن وعبدالحليم علي.

ومرت السنون والأعوام تباعاً وظلت هذه الفرق الموسيقية الصغيرة تعمل في إصرار على تعويد المستمع المصرى على الاستماع إلى الموسيقى الأوركسترالية وحققت هذه الجهود المضنية بعض النجاح إلى أن تقرر في أواخر عام 1950 وأوائل عام 1951 تكوين أوركسترا الإذاعة وفرقة للموسيقى العربية التقليدية وبهذا العمل يمكن القول بأنه للمرة الأولى يتم وضع الحجر الأساس لتكوين مدرسة موسيقية مصرية متطورة".

إنَّ هذا المشروع الذى ربما يكون متجاوزاً الحد، هو ما يستعيده محترفا الفن هذان، الناقد، من جهة، والمبدع (أو بصورة أعم "المعنى بالفن")، من جهة أخرى؛ ويرى كل منهما في اللغة الفنية العنصر المشترك الذى يمكن بلّورته في مرآة أو حجارة كريمة ينعكس فيها الكون. "فالناقد الموسيقي"، هو النور الذى ‬يضىء الطريق أمام المشتغلين بالموسيقى والمتذوقين لها بصفة خاصة."

ولا شك في أنَّ الفرق بين المسعيين -مسعى الدارس ومسعى المبدع- يبقى كبيراً، لكنه ليس سوى ترجيع الفرق الملازم لهوية اللغة الفنية بالذات– ذلك الذي يبيّن صوتها ومدلولها. إنَّ "الاستماع الواعي للنقد والفهم والتذوق" هو "المستمع المطلوب وجوده حتى ‬يختفى من حياتنا الفنية تعبير "الجمهور عايز كده" ‬لتغطية التخلف الفنى الذى نعانى منه، ‬وإيجاد المستمع الجاد ليس بالشىء العسير خاصة بعد أن تكفلت معاهدنا الموسيقية بإيجاد الفنان الدارس القادر على العطاء فى مجاليّ التأليف والأداء.‬ ‬‬‬‬‬