د. إبراهيم نجم,
منذ نشأتها وانطلاق عملها من القاهرة منذ عام 2015م تقوم الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بدور بارز في إحياء معالم الدين الإسلامي ونشر صحيح الدين، وتجديد الخطاب الديني، وتصحيح المفاهيم، ومقاومة الفكر التكفيري ومظاهر التطرف والتشدد، وتعمل على الالتحام والتفاعل مع القضايا الحية للشعوب والدول والمجتمعات، والنهوض بمجال الإفتاء ومعالجة فوضى الفتاوى من غير أهل التخصص، وذلك من خلال المبادرات والأطروحات الفكرية والوسائل المتعددة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وذلك تحت مظلة دار الإفتاء المصرية، وبرعاية مباركة من السيد عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية.
ويأتي انعقاد المؤتمر الدوري التاسع للأمانة العامة في هذا العام 2024م مظهرًا من مظاهر تلك الجهود، حيث يعقد المؤتمر تحت عنوان«الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع» وذلك بمشاركة الكثير من الوفود العلمية الممثلة لما يزيد عن مائة دولة من دول العالم الإسلامي، وقادة المؤسسات الشرعية في البلاد الإسلامية وكبار المفتين، وحضور واضح للهيئات والمنظمات الدولية، وأهل الفكر والسياسة والإعلام، والمتخصصين في مجالات علم الاجتماع الإنساني.
وقد جعل المؤتمر في دورته هذه من قضية القيم والأخلاق ودور وإسهام مجال الفتوى في تجديدها وإحيائها حقل عمله وهدفه لهذا العام، ولا شك أن كل متابع لحالة العالم والمجتمعات على المستوى الفردي والجماعي وفي جميع المجالات السياسية والفكرية والاقتصادية والسلوكية، يدرك أن قضية القيم والأخلاق في حاجة إلى وقفة جادة من جميع أفراد الأسرة الدولية لتصحيح المسار فيها، وأمتنا الإسلامية بمؤسستها الدينية والعلمية وعلمائها ومفكريها والمرجعية الشرعية الربانية مؤهلة تمامًا للقيام بدورها في هذا المجال بالتعاون مع الأسرة الدولية.
وبناء على ما سبق فقد جعل المؤتمر محاور جدول أعماله وفعاليات نشاطه تدور حول خدمة قضية الأخلاق والقيم، وتفعيل دور الفتوى في إحيائها وتطبيقها في المجتمعات الإسلامية وجميع أنحاء العالم، وذلك من خلال عدة إجراءات علمية وعملية تعمل على تحقيق هذه الأهداف، والتي من أهمها هو التنبيه على ضرورة الربط بين القيم والأخلاق ومعاني الوحي الإلهي المنزل لجميع الشرائع السماوية، والتحذير من فصل المرجعية الأخلاقية عن هذه المعاني، وبيان ما تتميز به معاني الوحي القرآني من منظومة أخلاقية متكاملة يستطيع المسلم وغير المسلم أن يجعلها منهج حياة له على المستوى الفردي والمجتمعي.
ويناقش المؤتمر في عامه هذا من خلال لجانه وورش عمله وأطروحاته الفكرية مسألة الحداثة وما بعدها، والعولمة وما تحمله من مبادئ وأثرها السلبي على مجال القيم والأخلاق والسلوك الإنساني، والتحذير من محاولة تكوين مرجعية قيمية جديدة ذات معالم مادية تختفي فيها كل معاني الإنسانية والرحمة والعدل والمساواة والتعاون واحترام كرامة الإنسان، ليحل بدلا منها قيم القوة والطغيان وخطابات الكراهية والاستعلاء، والحرية المطلقة الغير منضبطة وتحصيل اللذة والمتعة الغير محدودة بدون قيود، والإعلاء من شأن المصلحة الفردية، وشيوع نسبية القيم والأخلاق.
وجهود وفعاليات المؤتمر المكثفة خلال يومي انعقاده تبلور عدة معالم ومحاور وأطروحات، منها: أن يكون المؤتمر منصة لمناقشة دور الفتوى ومجالات الإفتاء في إحياء وتجديد وتصحيح مفاهيم القيم والأخلاق، السعي لتعزيز التعاون بين مؤسسات الفتوى والمنظمات الدولية والإقليمية لوضع المواثيق والمنهاج التي يمكن من خلالها تأصيل القيم والأخلاق في المجتمعات، تعزيز الوعي بأهمية الفتوى الرشيدة في ترسيخ القيم الإنسانية، ومناقشة دَور الفتوى في مواجهة تحديات العصر الحديث، بالإضافة إلى إيضاح البناء الأخلاقي في الإسلام ودور الفتوى في تعزيزه ونشره، ومجال الفتوى ودوره في الواقع العالمي بكافة مستوياته ومواجهة عقبات وتحديات البناء الأخلاقي في هذا العالم المتسارع.
ويتميز مؤتمر هذا العام بروح علمية وفكرية تظهر من خلال الإعلان عن عدة مبادرات هامة ومشروعات علمية وإصدارات فكرية، فمن ذلك: منح جائزة الإمام القرافي لسماحة الشيخ حسين كافازوفيتش، المفتي العام للبوسنة والهرسك، وإصدار الميثاق العالمي للقيادات الإفتائية والدينية والذي يهدف إلى التعاون وصنع السلام ومكافحة خطاب الكراهية وحل النزاعات بالطرق السلمية، إصدار الموسوعة العلمية للتدين الصحيح والتدين المغشوش والتي تعمل على تصحيح المفاهيم وبيان المنهج الصحيح لتكوين الشخصية المسلمة السوية، استكمال إصدار المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية لتصل إلى 102 مجلد، إصدار المدونة الأخلاقية لمهنة المفتي والإفتاء.
بالإضافة إلى ورش عمل المؤتمر والتي يتم من خلالها مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في العلوم الشرعية، والعمل على صياغة ميثاق أخلاقي إفتائي يواكب التطورات في مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والاجتماعية، ورصد وتحليل إشكاليات المحتوى الديني والإفتائي في المنصات الرقمية وأدوات الذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف وضع الضوابط الشرعية الأخلاقية التي تمثل المرجعية الحاكمة لآليات عمل هذه المجالات والتي تمثل مظهرًا من مظاهر تكوين الفكر والسلوك الإنساني في عصرنا هذا، وربط عمل هذه المجالات بمنظومة أخلاقية إنسانية.
كذلك يناقش مؤتمر هذا العام ما يتعرض له شعب غزة في محنته الغير مسبوقة، والتي تمثل انقلابًا على جميع معايير القيم والأخلاق الإنسانية وتعبيرًا صارخًا يجسد معاني الظلم والطغيان، وعدم احترام حقوق الإنسان، ونشرًا للكراهية والهيمنة، وسياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، فيعمل المؤتمر على تفعيل دور الفتوى في محاربة تلك المبادئ الهدامة من خلال توصياته، ومد الجسور مع المنظمات الدولية الإنسانية للعمل على إزالة تلك المظاهر، وتحقيق كرامة الإنسان وحقه في العيش بسلام.