شهادة مثقف | الروائي العراقي شاكر الأنباري: الحكي محاولة صادقة للاستمرار بالحياة رغم قسوتها
تمتد المسيرة الإبداعية للكاتب الروائي العراقي شاكر الأنباري لما يقرب من 40 عامًا تتنوع بين القصة والرواية والتأليف والترجمة، أصدر خلالها خمس مجموعات قصصية قبل أن ينتهي إلى رصيف الرواية التي كان لها النصيب الأكبر من كتاباته، حيث صدر له 13 رواية، وعلى الرغم من إقامته في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن لأعوام طويلة لكن تكوينه الثقافي الذي يغلب عليه الطابع الريفي على ضفاف نهر الفرات كان له الأثر الأكبر في تجربته الإبداعية.
كتب الأنباري في صحف عربية وعراقية عديدة كجريدة الحياة، والسفير، والمدى، والصباح وغيرها. وتولى مواقع وظيفية في الصحافة الثقافية منها رئيس تحرير مجلة "تواصل" المهتمة بالإعلام، وحاز على عضوية اتحاد الكتاب العرب، واتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، ونقابة الصحافيين العراقيين.
وفي شهادته التي يخص بها لبوابة "دار الهلال" حول تجربته الإبداعية يقول الأنباري: "جئت إلى الرواية من باب موارب، ألا وهو القصة. ونعلم ما هناك من فروقات بين هذين الفنيين، على الرغم من أن القماشة واحدة "حدث، وشخصيات، وزمن، ومكان". وتكويني الثقافي تماهى مع عقد السبعينيات في العراق، حيث كانت القصة هي المهيمنة على الساحة الأدبية، ربما ليس في العراق وحسب بل في معظم الدول العربية، حيث إذا لم تكن ذا موهبة في أن تصبح شاعرًا، فعليك بكتابة القصة، فهي الطريق الأسهل للولوج إلى عالم الإبداع حينذاك".
وحول من قاده إلى عالم القصة وكيف بدأ الكتابة يقول: "الكتابة، كما نعرف، ليست قرارًا شخصيًا، هناك دائمًا دوافع ذاتية، وبيئية، ومجتمعية، تتكثف في زمان ومكان محددين. في البيئة التي نشأت فيها، وهي بيئة ريفية تقع على ضفاف نهر الفرات، كانت الحكايات هي الزاد اليومي للفلاحين. يتسلون بها في الصباح والمساء، ويتلذذون في جذب السامعين إلى الحكي، وفي الليالي المظلمة، وحين يتحلق الرجال والنساء حول ضوء الفانوس، أو تحت نور القمر، تنطلق الحكايات بلا أجنحة، لتطير في فضاء الريف كي توسّع من الزمن الكئيب، وكي تضيء بنور خفي دهاليز الجهل والخوف والظلمة، في عالم بدأ للتو تلمُس طريقه نحو الحداثة. يختلط في تلك الحكايات، مثل ألف ليلة وليلة، الواقعي بالخيالي، والعقلاني بالأسطوري، وهي كما أفكر اليوم، محاولة بشرية شائعة للخلاص من صلادة الواقع، ومن سيف الموت المسلّط على الجميع. أن تحكي هو في النهاية محاولة صادقة وجادة للاستمرار بالحياة رغم قسوتها".
ويلقى الإنباري الضوء على عالمه الروائي بشكل مفصل فيقول: "على عكس عالم القصة السريع، واللحظي، والضيّق، تمتاز الرواية بالاتساع، وتستوعب البشر والأمكنة، والحوارات والوصف، ووجهات النظر المتباينة والرأي القاطع، وتستطيع القفز في الزمن ماضيًا وحاضرًا، ومستقبلًا بعض الأحيان، أو السفر من مكان إلى آخر، مثل حياتنا المعاصرة، كما لو أن الشخص يمتلك عربة للزمن مثل التي صنعها هربرت جورج ويلز في روايته، وهي آلة سحرية وأداة رمزية طمح الإنسان منذ القدم لامتلاكها، ومثلما فعل الكاتب الأميركي ري برادبري حين وجه عينيه نحو المجرات والعوالم البعيدة، الغائرة في الفضاء البعيد. وهكذا جاءت الرواية أداة سحرية لامتلاك المصائر، والسفر في المجهول لإدراك سر هذا الوجود الغامض".
ويضيف: "نعم أصبحت روائيًا، بعد أن آمنت أن كل ما يحدث في الحياة كما يقول الأميركي بول أوستر، يمكن أن يتحول إلى رواية، ما دام كل ما يحدث يجري على شكل حكاية، أو قصة تبتدئ في زمن محسوب، وبمكان واضح المعالم على هذه الأرض. إذ لكل فرد من البلايين التي تعيش اليوم على الكرة الأرضية قصة يمكن أن تضيف شيئًا إلى خبرة المجموع، ويمكن أن تصاغ ببراعة عبر حكاية تقرأ في ليل الشتاء البشري الطويل.. وبعد عدد من القصص والروايات، وتجربة متواصلة امتدت لأكثر من أربعين سنة في الكتابة، وتجريب أساليب مختلفة، والاستفادة من منجز الرواية العربية والعالمية، توصلت إلى أن أهم عامل لنجاح العمل الروائي، ليس الشكل الفني أو الأسلوب فقط، بل هو الصدق في الكتابة. فلقول حقيقة مؤثرة ينبغي على المبدع أن يكون صادقًا، وذلك عبر كل كلمة ترد في نصه السردي، على الرغم من أن الصدق لا يعفي الكاتب من امتلاك أساسيات الفن الروائي، كاللغة وأسرارها، والمعرفة وفروعها ودقائقها، وسعة الأفق الناتجة عن القراءات والتجارب، وأخيرًا الموهبة التي أظنها مثل سر الموت والولادة، توهب لشخص ما دون غيره، ولا أحد يعرف لماذا وكيف".
ويؤكد: "في معظم نتاجي الروائي والقصصي يلعب المكان دورًا مهما في تقديم الشخوص، وسرد الأحداث، وسبر غور الشخصيات، إذ أن العراقيين كحالة متناولة هم من تدور حولهم معظم نتاجاتي، وهناك تشبع بالزمن العراقي والمكان أيضًا، وذلك عبر السباحة في فضاء عقود من التجربة الماضية. الحروب، والهجرات، والاغتراب، والحنين، والتحولات العميقة في الروح العراقية، أيضًا تحولات المكان ذاته، تبعثر الأسرة وتمزق الروابط فيما بينها، وهي أمور لم اخترها بل فرضت نفسها عليّ كإنسان أولًا ثم ككاتب".
ويلفت: "جاءت روايتي "بلاد سعيدة" الصادرة عن دار التكوين 2008، على سبيل المثال، توليفة حكائية يشترك فيها الحدث الواقعي مع المتخيل، فيمكن أن تقرأ على أنها أحداث تدور في بلدة عراقية متخيلة تعيش بعد ألفين وثلاثة، أي سقوط النظام والاحتلال، وانحلال الدولة، وضياع البوصلة لدى الفرد، والناس بالتالي يمكن أن تقرأ بقدر كبير من الواقعية، كون ما يجري هو واقع لا يقتصر على تلك البلدة التي تدور فيها أحداث الرواية، إنما عاشته معظم المدن العراقية. حين تغيب الدولة، كحافظة للأمن، وكقوة تفرض القانون، يتشبث البشر بتاريخهم وأماكنهم، وكأن ذلك التاريخ هو المنقذ من الضياع والفوضى، وهذا ما حاول شخوص الرواية التشبث به. في رواية بلاد سعيدة هناك سوريالية تنبثق من عنف الحدث، هذه السوريالية سرعان ما تولّد أساطير جديدة لم تكن مألوفة سابقًا، تشترك في صياغتها الذهنية الشعبية غير المعتادة على المتغيرات، وقوى الإرهاب، والجيوش الأجنبية التي فاجأت الجميع، مع غياب تام للفعل الوطني المتمثل بالدولة ومؤسساتها".
ويواصل: "المكان له وقع ملموس في رواية كتبتها لاحقًا واسمها "نجمة البتاويين"، وصدرت عام 2010 عن دار المدى. لا يقتصر المكان في هذه الرواية على عنوانها، أي محلة البتاويين، رغم أن الرواية أخذت عنوانها منه، بل هو بغداد، هذه المدينة النائمة على طبقات من الأزمان، والتواريخ، والأمكنة. شخصيات الرواية حين تتجول في شارع الرشيد تستعيد عشرات السنين من الأحداث التي مرت على الشارع، وكذلك منطقة البتاويين، والفضل، وشارع السعدون، وأبو نؤاس، وغير ذلك من الأمكنة. الرواية قدمت شخصيات تعيش ضمن بيئتها، وضمن الجو الزمني الذي نشأ بعد ألفين وثلاثة. التركيز على الشخصيات هو محاولة لسبر روح الفرد، ومعرفة التشوهات والفظائع التي تسللت إليه من تقلبات الواقع. انهيار القيم، السوداوية، العبثية، كلها صفات لتلك الحياة. الخوف من الليل هو العنوان، بعد أن أصبح فضاء للقتل والخطف، وحياكة المخططات الرامية لتحويل المدينة إلى محيط طارد لأبنائها. أغلب الشخصيات كانت تفكر بالسفر إلى الخارج، خلاصًا من عنف تلك الحقبة، لكن هل يوجد عراقي واحد، ومنذ سنة الثمانين، المشؤومة، سنة اشتعال الحرب بين العراق وإيران، لا يفكر بالهروب من العراق؟ شخصيات الرواية كانت تمارس حياتها اليومية في شقة النجمة الواقعة في حي البتاويين، إلا أنها أصبحت تشبه بلورات عاكسة، مكثفة، يرى من خلالها القارئ أعماق المجتمع. تنتهي الأحداث الواقعية بخطف واحد من شلة النجمة، وهو في نهاية الرواية يقص معاناته الكارثية على بطل الرواية، وكيف تخلص من الموت المحتم بعد أن دفع الفدية".
أما رواية "نشيدنا الحزين" الصادرة عن دار سطور 2022، فهي رواية عن الإغتراب في أوروبا، وتجاوزت صفحاتها الثلاثمائة صفحة. وتلاحق شخصيات عاشت في بلد أوربي طوال أربعين عامًا، وشكلت البيئة الجديدة شرخًا في أرواحهم لم يكن ليزول أبدًا. وهي بمجملها مصائر لأشخاص التقوا في حيز ضيّق هو جزر متناثرة على الماء، تقع في شمال الكرة الأرضية. التقوا على وليمة صدمة الحضارة، وتغيرات أرواحهم الناعمة، وجنونهم البطيء والحنين المدمّر إلى ماض لن يعود. أربعون سنة استحضرتها بضجيجها، وتواريخها، ومشاعرها، لتتجسد في هذه المدوّنة الورقية.
ويخلص إلى: "ما زلت مواظبًا على الكتابة، حيث أنجزت حتى اليوم 13 رواية صدرت عن دور نشر مختلفة، دار المدى ومنشورات المتوسط والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار سطور ودار التكوين. واليوم أنا في خضم كتابة رواية جديدة عن جدوى الحياة، وفكرة الموت، والذاكرة الفائزة بالماضي، وتدور أحداثها في العراق. الكتابة أصبحت نمط حياة يومي جارف لم أعد أمتلك القدرة على الخروج منه وأنا سعيد لذلك".