د. خالد البوهي,
لا شك فى أن الدين يمثل ركنا مهما من أركان الهوية المصرية، ولا شك فى أنه يشكل بحضوره فى العقلية الجماعية جزءا من مقومات بناء الإنسان المصرى. ويستطيع الدارس للشأن المصرى أن يلحظ منزلة الدين فى قلوب المصريين؛ فهو إرث تاريخى، وحاضر وجدانى، ورسوخ روحى جعل من مصر قبلة ثانية للإسلام والمسلمين، بما للأزهر من مكانة محورية مثلت جزءا من قوة مصر الناعمة لو أحسنا استغلالها. ويستطيع الدارس أيضا أن يلحظ اختلاط الدينى الإلهى بالدنيوى الحياتى، بحيث صارت عادات المصريين ممتزجة بتشريعات دينهم، فاكتسبت قدسية دينية مكذوبة، لتصبح محاولات تقويم سلوكهم الدنيوى بتعديل عاداتهم الشائنة ضربا من محاربة الدين نفسه، مما سبب للمصلحين حرجا بالغا. ولن ننسى الأثر السىء لتيار الإسلام السياسى، الذى حمل الدين مسئوليات صعبة وضعته فى امتحان مرير، بعد أن جعل ممثلوه من أنفسهم المتحدث الحصرى عن الدين، فأساءوا إليه بهذا التوصيف، لأنهم وضعوه فى موضع المساءلة.
إذا أردت أن تجدد شيئا فلا بد أن تنطلق من مرتكزاته التى يعتمد عليها، أما إن انطلقت من مرتكزات مغايرة فهذا وإن كان من حقك الذى نسلم لك به، لكننا لن نجاريك أبدا فى كونك مجددا، لأن ما أنت عليه تغيير لا تجديد. على أن ديننا فى حاجة إلى مجددين مصلحين، لا مغيرين أو مبدلين. وهذا ما وجدناه فى الإمام محمد عبده الذى انطلق من داخل الصف لا من خارجه، لأنه يؤمن بحضارة الدين وصلاحيته الزمانية والمكانية بما فيه من عموم ومرونة، ولأنه قد علم أن خروجه من الصف لن يفيد الإصلاح بوجه من الوجوه. وهو ما فعله على عبد الرازق فى الإسلام وأصول الحكم، وخالد محمد خالد فى من هنا نبدأ، ود.فرج فودة الذى لوث الجهلاء اسمه تكفيرا وتشنيعا، برغم انطلاقه من مرتكزات الدين نفسه، يناقش ويفسر ويرجح ويسأل ويعترض، بعد يقينه أن المشكلة ليست فى الدين نفسه، وإنما فى فهم من أطره، وجعلوه جامدا لا يعكس إلا وجهة نظر من جعلوه قميص عثمان! فلم يعبأ بسفاسف الأمور التى لا تقيم نقاشا ولا تخلق غاية إلا ما نجده فى نزاعات الميديا، وعلم أن القضية ليست فى الطعن فى حجية السنة الثابتة من أجل حديث ضعيف أو موضوع أو مقيد بسببه أو مما تركوا العمل به، لأن ما يجده فى السنة قد يجده فى آيات هى أشد وطأة على مجتمعنا لو فهمت على غير وجهها، كآية {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} فالأمر كله فى حسن الفهم، الذى جعله يستلهم من السنة والسيرة والتاريخ ما يرجح نبل غايته من إعلاء قيم التسامح وقبول الآخر.
وكما ترى فإن من الواجب على المجددين أن ينطلقوا من داخل الصف، بدلا من إيهامنا بخلاف ذلك. ولا يصح لهم أن ينشغلوا بمعارضة النصوص المشتبهة، وإنما عليهم أن يقدموا لنا تفسيرا أو تأويلا طبقا لمقتضيات اللغة وقواعد الدين العامة. وعليهم أن يحترموا الشعور العام فى أثناء مخالفتهم للموروث من كتابات التراث، التى لم يقل أهلها بعصمتهم، بل قالوا إن قولهم صواب يحتمل الخطأ، فلا يليق بنا أن نتهكم عليهم، أو أن نتجاوز الأدب فى مخالفتهم، لأن هذا من البلطجة الفكرية التى تفقدنا أرضية الإصلاح بتنفير مستهدفيه. وعليهم أن يركزوا فى الجانب العملى من الإصلاح، بدلا من تشتيت جهودهم فى الحديث عما تلاشى من قضايا كقضية الرقيق.
وعليهم أن يحترموا غيبيات الدين، كإسراء النبى ومعراجه عند المسلمين، وقيامة المسيح عند المسيحيين، ومناقشة مثل ذلك لا يليق بالمصلحين الذين يخسرون أرضيتهم المشتركة بينهم وبين جمهورهم، لأنهم يضعون أنفسهم فى موضع الاتهام عندما ينكر بعضهم شيئا منها. إننى أؤمن أن الحديث الدائم عن سؤال القبر وعذابه لن يفيد قضية الإصلاح، بل يضرها، لأنه يجعل إنكار الغيبيات دلالة على الاستنارة، وفى هذا إساءة بالغة لفكرة الاستنارة والتجديد. وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد أن نفرق بين غيبيات الدين وخرافاته التى تؤخر تقدم المجتمع، فاحترام الغيبيات لا ينفى محاربة الدجل والخرافة، ومن ذلك مسألة الركون إلى كرامات مشاهد الأولياء وأضرحتهم، بدلا من اللجوء إلى أسباب الدنيا.
وإن من أوجب الواجبات على المجددين أن يعلموا الناس أن التراث منتج بشرى، نحترم من كتبوه مع إيماننا بعدم عصمتهم التى لم يزعموها، ولنا أن نسائلهم ونراجع تفسيرهم للنصوص المقدسة الثابتة من القرآن والسنة. وعليهم أيضا أن يعلموا الناس أن قواعد الدين وأسسه ليست حكرا على الخواص، وسيفهمها آحاد الناس، كقوله تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى} وكقول النبى «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وأن غير ذلك من النصوص يحتاج إلى فهم دلالات اللغة وسبب نزولها وعلة حكمها وفهم حكمة التشريع العامة، وهو ما جعل عمر بن الخطاب يوقف سهم المؤلفة قلوبهم ويوقف حد السرقة فى عام الرمادة، وهذا يرشدنا إلى عدم التسرع فى الأحكام الشرعية أخذا بظاهر حديث لا نعلم صحته من ضعفه.
وعليهم أن يعلموا الناس أن قاعدة المصلحة المرسلة هى قاعدة شرعية ثابتة. قال الطوفى فى كتابه التعيين فى شرح الأربعين «إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى» وقال مفرقا بين العبادات والمعاملات «وإنما نحن نرجح رعاية المصالح فى العادات والمعاملات ونحوها، لأن رعايتها فى ذلك هى قطب مقصود الشرع منها، بخلاف العبادات فإنها حق الشرع، ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصا أو إجماعا» وقال ابن القيم فى القواعد الحكمية عن ابن عقيل «السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحى»
وعليهم أن يطبقوا قاعدة العرف كما طبقها السابقون، ولهم فى الإمام الشافعى المثل الأعلى، فقد خالف مذهبه ببغداد بعد رحيله إلى مصر. لكنهم مقصرون فى ذلك، ولو أشاعوه ما وجدنا من يقول إن الزوج لا يجب عليه علاج زوجته إلا تفضلا، وإن الأم لا يجب عليها إرضاع طفلها! وكل ذلك من الخسة والجفاء وسوء الخلق، وإنما هو واجب على الزوج وعلى الأم بمقتضى عرفنا المعاصر. وقد كان مثل ذلك سائغا فى البيئة القبلية التى تجعل الزوجة تابعة لبنى أبيها، وتجعل طفلها تابعا لبنى أبيه، وكان من العار عندهم أن يتخلى أحدهم عن ذويه، ثم اختلف الحكم عند من يقول به بتغير العرف الزمانى والمكانى.
على أنا نقول إن الشريعة نفسها لا تقول بذلك، لأنها أرشدت فى نصها المحكم إلى المودة والرحمة اللذين يهدمان مثل تلك الفتاوى العرفية القبلية.
وعليهم أن يغلقوا باب التوسع فى قاعدة سد الذرائع التى أوقعت الأمة فى العنت، فسد ذريعة الفتنة قد جعل المتشددين يغالون فى التضييق على المرأة، حتى إنهم جعلوها عورة كلها؛ لا تتعلم، ولا تعمل، ولا تقوم بواجباتها المجتمعية، على الرغم من تصحيح القرآن لشهادتها على العقود، وعلى الرغم من تصحيح السنة لأمانها فى الحرب، فكيف تشهد العورة على عقد؟ أم كيف تؤمن غيرها فى الحرب؟ لا جرم أن من توسعوا فى ذلك قد غفلوا عن قاعدة قرآنية قطعية، وهى منع الوقوع فى الحرج {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} فالتوسع فى سد الذرائع قد أوقع المجتمع فى حرج شديد بتضييق دائرة الحلال وتحريمه، وهذا مما نهى الله عنه فى كتابه {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} قال ابن حزم فى الإحكام «ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم -ولعله لا يقع فيه- قد أوقعهم يقينا فى موافقتهم يقين الحرام، لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، ومحرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق» فمن الواجب تضييق العمل بهذه القاعدة التى لا تفهم إلا فى ضوء تحقق المفسدة، كمن يبيع سلاحا لقاتل، أو سما لمقدم على الانتحار، أو دواء مخدر لمدمن لا يحمل روشتة طبيب متخصص.
ولا بد من فتح باب الاجتهاد الذى قيدوه بما لم يصح من إجماعات. على أن مسألة الإجماع نفسها فى حاجة إلى المراجعة، ويكفيك أن تعلم أن العلماء أنفسهم لم يتفقوا على إثباته دليلا شرعيا؛ فأنكره الشوكانى والصنعانى وصديق خان وعلى عبد الرازق والألبانى، وقصره أحمد شاكر وحامد الفقى على المعلوم من الدين بالضرورة من بديهيات الدين المتفق عليها كالصلوات الخمس وصيام رمضان، وقصره ابن حزم على الصحابة، وضيق الشافعى وأحمد من مسائله المتحققة، حتى إن الإمام أحمد قال «من ادعى الإجماع فهو كاذب» على أن ما قيل عن إجماعات الصحابة لا يصح التسليم به، لأنه كان نزولا منهم على رأى خليفتهم، ويؤكد ذلك أن عمر قد نقض أحكاما لأبى بكر مع تسليمه له بها فى أثناء خلافته، والأمر نفسه قد فعله الإمام على الذى لم يلتزم بما قرراه من أحكام برغم موافقته لهما فى أثناء خلافتهما. ونستطيع أن نقول إن ما ورد من إجماعات منسوبة إلى الصحابة هى فى الحقيقة اجتهاد جماعى فى إطار الشورى، وهو ما ذكره الشيخان عبد الوهاب خلاف وعلى حسب الله.
ولا بد من إعلاء قيمة المسئولية الفردية بعيدا عن سلطة الفقهاء التى قد ينجو المرء منها بتدليسه، ولصالح سلطة الضمير، لأننا لا نريد مجتمعا منافقا مداهنا لغيره فى تحليله وتحريمه. أنت وحدك من تحقق «لا ضرر ولا ضرار» التى قد يدلس فيها بعضنا برغم الفتاوى والتشريعات، التى لن تكون بديلا عن سلطة الضمير. ولك أن تنظر إلى هذه التعاليم النبوية التى تحتاجها ضمائرنا «إنما الأعمال بالنيات» «استفت قلبك» «الإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس» «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «الحلال بين والحرام بين» «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
وهذا هو التجديد الحقيقى؛ أن نرتفع بالدين بعيدا عن سلطة الفقهاء، مقيدين بسلطة ضمائرنا التى سيحاسبنا الله عليها.