رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الصيف.. والرواية العربية في مصر

15-8-2024 | 14:55


محمود قنديل,

الصيف فصلٌ جميل؛ فهو يأتي بعد الربيع وبنهايته يبدأ الخريف، ليأخذ من الربيع بعضًا من طقوسه، ومن الخريف شطرًا من أجوائه.

وقد كان الصيف مصدرَ إلهامٍ لكثيرٍ من مبدعي العَالَم؛ الأمر الذي جعل ألبير كامو يقول: إن قلبي صيفٌ لا يزول.

وتحت تأثيره كتب شكسبير روايته الخالدة “حُلْم ليلة صيف”، وصاغ الإيطالي بافيزة "ثلاثية الصيف الجميل".

وعميد أدبنا العربي د. طه حسين سرد بعض خواطره -أثناء إحدى رحلاته إلى فرنسا- في كتابٍ أسماه "في الصيف".

وعملاق الرواية العربية نجيب محفوظ –رحمة الله عليه– كان يقضي هذا الفصل بعروس البحر الأبيض المتوسط (الإسكندرية) مع الأدباء والمثقفين بمقهى فندق سان استيفانو. 

فلهذا الوقت من العام رونقه وجاذبيته، حيث الانطلاق إلى الأماكن الرَّحبة -خلال العطلات والإجازات- من شواطئ وأندية وحدائق وغيرها، إنه وقتٌ يحث الناسَ على مغادرة منازلهم للاستمتاع بأجواء الخارج، مما يعيد للنفس راحتها وهدوءها، ويجدد نشاطها لتستأنف العمل في مجالاتها المختلفة، بعيدًا عن التقوقع والانطواء.

الصيف في الرواية العربية بوطننا الحبيب (مصر) يأخذ أبعادًا شتَّى، فينعكس بدوره على سخونة الأحداث الجارية؛ سواءً كانت سياسية أم عاطفية أم اجتماعية؛ فقد رأينا إبراهيم عبدالمجيد يعنون إحدى رواياته بــ "في الصيف السابع والستين"، ليرصد فيها أثر هزيمة حزيران الحزين عام 67 على المجتمع المصري، وما تبعته من تداعيات نفسية نالت من المواطن الذي استيقظ -ذات يوم- ليبصر ضياع الحُلم وتشظي الآمال، فلم يكن يعلم أن ثمَّة مسافة غير قليلة بين طموحات ناصر العريضة وقدراته البسيطة، مما جعل الإنسان المصري -آنذاك- يعيد النظر في كل شيء وأي شيء، بل صار ينظر بعين الريبة إلى كل ما يسمعه عبر وسائل الإعلام، وإلى كل ما يقرأه بالصحف والمجلات.

ولعل في الإهداء -الذي تصدر الرواية- ما يشير إلى جسامة ما حدث في هذه الحِقْبة (إلى الذين عاشوا ذلك الصيف الذي لم ينتهِ).

إبراهيم عبدالمجيد استثمر تلك المرحلة -في تاريخ مصر- ليواجه الحقائق، ويدعو – فنيًا – إلى عدم الاستسلام لمشاعر اليأس والخذلان الجاثمة فوق صدر الوطن.

الصيف في هذا النَّص الأدبي صار رمزًا وحقيقةً معًا، وقد طوعه أديبنا -بقيظه وشدة حرارته- ليكون مُعبِّرًا عن طبيعة المرحلة بمأساتها.

يستهل أديبنا الرواية بإرهاص يمهد للصراعات بقسوتها، فيقول: هذه الوجوه الشاحبة المنقبضة، التي إلى الداخل، تزيدني أسى. إن وجهي لا شك مثلها، ولا ريب أنهم يقولون عنه ما أقوله عن وجوههم. لكن هل تعرف بعض هذه الوجوه أني أشك في ملكية أصحابها لها؟ ربما.. حينئذ تصبح لُعبة كبيرة نشترك فيها جميعًا.. مهزلة تسربلت في مأساة.

وفي روايته الموسومة بـــ "وهج الصيف" ينحو أسامة أنور عكاشة منحىً واقعيًا/ رمزيًا؛ يعكس حرارته على الشخوص والأمكنة، ليكشف عن اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع (ثرية، ومتوسطة، وفقيرة)، ليُعْلِن -ضمنًا- أننا في حاجة إلى جذر المَدّ بين الطبقات، بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.

أنور عكاشة يستدعي قيظ الصيف ليسقطه على المناخ العام، وكأنه يريد أن يقول: إن حرارة الجو -بما تعكسه من ضيق وضجر- يمكنها أن تنال من أُناسٍ بعينهم ظلوا يمكثون على هامش الحياة لفتراتٍ غير معلومة.

وفي ذلك يسرد كاتبنا -بفنية- ما يرتئيه في هذا الصدد: نهار الصيف أبيض. يتماوج في الخطوط الطولية. حيث تبدو المسافة من ناصية شارع "داير البحر" إلى ناصية شارع المتحف في قلب الضفة الأخرى.. سفرة لها غرابة سفرات السندباد.. وحين انحسرت مساحات الظل المعتمة في الشوارع الغريبة اجتاحت وسط المدينة شمس ما قبل الظهيرة، وداخل عربة الترام الزرقاء اكتست الوجوه برقائق الرطوبة الشمعية، نسيم المتوسط يتسلل من الشوارع القصيرة المتعامدة على الكورنيش وطريق الترام.. أما قسمات وجه الرجل الجالس أمامه فقد بدت له تجسيدًا حيًا لمنحوتة “تحوتي” أحد آلهة مصر القديمة.. استغرق في تأملها دون أن يعنيها، بل توغل خلفها مع أفكارٍ رسبت في قاع الليلة الماضية.

الكاتب -هنا- يتخد من الصيف وتداعياته مادة خصبة يرسم بها طبيعة المشاهد بواقعيتها الرمزية المُراوِغة، ويعتمد -في ذلك- مفرداتٍ تتناسب مع هذا التمهيد (الصيف، الظل، الظهيرة، نسيم، المتعامدة).
أما الصيف عند إحسان عبدالقدوس فهو يمثل الإجازة والانطلاق والبحر والشواطئ، ففي روايته “البنات والصيف” يحكي لنا عن مشاعر أنثوية أدركها الصيف فراحت تقضي أوقاتها على الرمال أمام البحر، يعنون إحسان فصول نَصِّه على التوالي (البنت الأولى، البنت الثانية) إلى أن يصل إلى البنت الخامسة، وكل واحدة منهن تحمل ملامحها الخاصة (مظهرًا وجوهرًا)، إلا أن جميعهن يشتركن في أحلام الأنوثة المتأججة؛ تلك الأحلام التي لا يتحقق منها سوى القليل.

يقول إحسان قبيل بدء روايته: عندنا لا نقول: الربيع.. إننا نقول: الصيف.

ليبدأ السرد بجُمَل مشوقة تحث المتلقي على المضي قدمًا في القراءة حتى النهاية (شاطئ سيدي بشر نمرة نمرة 3.. وكانت "مرفت" جالسة منزوية في الركن البعيد من الأريكة الممتدة من شرفة الكابين.. ورأسها بين يديها، وشعرها مهدل فوق جبينها.. وكانت تبكي.. تبكي في حرقة، وكأنها تعصر سنوات عمرها الثماني عشرة دمعًا...).

وفي رواية "رائحة الصيف" للأديب فاروق وادي نجد حضورًا مؤثرًا لهذا الفصل على حياة البطل الممتدة بين مد العُزلة وجذر الاندماج في مجتمع لا يألفه، في وقتٍ تدور في الصراعات بينه وبين نفسه في محاولة منه لفهم أسباب وجوده وبواعث تفكيره.

ويبقى الصيف -بتوهجه- مرآةً عاكسة لبعض ملامح البطل التائه بين متناقضاتٍ شتَّى، يقول الكاتب: عندما يهبط الصّيف، يأتيني صوت "كروان" من ذلك البعيد.. من زمن الفردوس الذي يبني أعشاشه فينا ونحن نرتحل في الوقت والمسافة، مدجّجين برعش الدّهشة الأولى، والأكاذيب البيضاء، وهذيانات جسد لم يكتمل.. ولذائذ لم تكتمل... رجل يهبط من خاصرة نهار متوهِّج، رغم أنه يعيش في منطقة الظلال الداكنة، ظلال البدن والكون، في الزوايا شديدة العتمة فيها.، يرفع عينيه نحو كبد الظهيرة ويحدِّق في الوقت، فلا يطرف له رمش. يصمد البياض الحجري بلمعانه الشّمعي لتينك العينين أمام سطوة الإشعاع الملتهب لشمس الظهيرة، فيهمس الوقت على ساعده الموشوم ولسانه المندّى.. وتهمي الألوان الباذخة على قُمَعِ الهشاشة اللذيذة.

ونستطيع تبيان قَسَمات الصيف بسهولة وسلاسة عبر رواية "أمطار صيفية" (الفائزة بجائزة الشيخ زايد) للمبدع الشاب أحمد القرملاوي، وهي تحاول الإجابة عن العلاقة بين التصوف والموسيقى، وما يراه السلفيون مُنكَرًا في الآلات الموسيقية وعازفيها، وذلك من خلال استدعائه لمكان يعود إلى العصر المملوكي (وكالة الموصلي).

وفي مشاهد متدفقة تزيد اللوحة جاذبية يسرد القرملاوي أجواء اللحظة: مع بزوغ الفجر، كانت النيران قد شبِعَت. ظلت طوال ليلة صيف تطهو أخشابًا من غاباتٍ شتَّى، وتلتهمها على مهل؛ جوزًا أوكرانيًا، سَيسَما هنديًا، خشبًا أسودًا إفريقيًا، كما أحرقت خلال ساعات مخزون بخور مستكي كان يكفي الوكالة لخمسة أعوام كبيسة.

هذا، ويمكننا القول إن هناك الكثير من الأعمال الروائية تحفل بأجواء الصيف، سواءً كان ذلك بشكلٍ مباشر -كما ذكرنا- أو بطرائق ضمنية، فقد استلهمت رائعة محمد عبدالحليم عبدالله (بعض الغروب) ملمحًا مما نحن بصدده، وكذلك الثلاثية المحفوظية "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، و “ثم تشرق الشمس” لثروت أباظة، و"رباعية بحري" لمحمد جبريل، و”قالت ضحى” لبهاء طاهر، وغير ذلك كثير.

نعتقد أن فصل الصيف -بأجوائه المترعة بالاحتفاء- كان وما زال وسيظل له حضوره القوي؛ لا في الرواية العربية في مصر فحسب، بل في الإبداع عامةً بكل بقاعنا العربية، بل والعالمية أيضًا.