من أكثر ما يعجبني في الأدباء والمفكرين الذين عرفتهم مصر منذ بدايات القرن العشرين اشتباكهم مع كثير من أمور الحياة العادية بتلقائية شديدة، وطرحهم لحلول تناسب الناس وتحسن مزاجهم العام، وبعد مرور كل هذه السنوات وعلي الرغم من التطور الكبير في وسائل التواصل الإجتماعي عبر الوسائط الإلكترونية إلا أن الأمور لم تسر علي النحو المطلوب في ظل الصخب الرقمى.
وليس أوضح من تأثير عوامل المناخ والطقس وتعاقب الفصول علي التقلبات الإنسانية والاجتماعية والإبداع الأدبي والثقافي، حيث يظل المفكر مشغولا دوماً بالــتأمل والبحث فيما وراء الأشياء والظواهر والطبائع، ولعل دراسة حياة البارزين والمفكرين والأبطال تساعد علي اكتشاف جوانب كثيرة غائبة، وتظهر جوانب مختلفة من الإحساس الشخصي والشعور بالبيئة والمجتمع من حولهم.
الأستاذ عباس محمود العقاد واحد من أبرز من أنشغلوا بتأثير ذلك عليه منذ مولده في فصل الصيف فيذكر في كتابه (أنا) " يُقال إن الناس يختلفون في تفضيل الفصول على حسب اختلافهم في المولد وموعده من تلك الفصول، فمن وُلِد في الصيف فهو صيفي الهوى والمزاج، ومن وُلِد في الشتاء فهو محب للبرد مستريح إليه! …
فإن صدق هذا الزعم فليصدق على من شاء من مواليد الصيف، ولكنه — مع الأسف — لم يصدق عليَّ قط ولا هو صادق عليَّ الآن؛ لأنني وُلِدت في أشد أيام الصيف من شهر يونيه بمدينة أسوان — ولا يزعجني شيء كما يزعجني الصيف إذا ارتفعت حرارته فوق حرارتي على الخصوص، وتقدم من الثلاثينيات إلى حدود الأربعين، وهي — كما يقولون — سن النضج، وقد صدقوا … ولكنه نضج الجلود لا نضج الأعمار".
ولعل موقف الأستاذ العقاد السابق من الصيف قد قربه كثيراً من الإسكندرية فجعلها الملجأ في الشدة والصيف، وقد كانت أولي زياراته للمدينة في شبابه المبكر بعد أزمات متلاحقة من تعطل الصحيفة التي كان يعمل بها عام 1909، وتعرضه لتشخيص خاطيء من طبيب لمرضه يوقعه في يأس وإحباط شديد ومابين جولات بين القاهرة وأسوان قرر الذهاب إلي الإسكندرية هروبا من الصيف كما يحكي عامر العقاد " وسط هذه الأعاصير، وهذا الجو الخانق نزل العقاد القاهرة بعد أن ألقى بآثار مرضه بمجرى النيل بأسوان، ولكنه لم يمكث فيها إلا ثلاثه أيام يبرحها بعد ذلك إلى الإسكندرية هربا من وقدة الصيف، وكانت زيارة العقاد هذه للإسكندرية أولى زياراته لها وهناك امتلأت نفسه بالأمل بعد أن وجد نفسه مع عرائس البحر وعرائس الشعر ومكث العقاد بالإسكندرية شهرين برحها بعدهما للقاهرة باحثاً عن عمل له".
كانت رحلة العقاد للإسكندرية وسيلة للاستجمام والراحة وفي بعض الأحيان مكان للعمل الهاديء والبدء في مشروعات كتبه، كما حدث مع كتابه (الله) الذي تناول فيه نشأة وتطور العقيدة الألهية فيوضح في سيرته الذاتية أنه بدأ تأليفه صيفًا بمدينة الإسكندرية، حيث نقل إليها مكتبة صغيرة من المراجع ، وطلب من مكتبة المعارف — وهي ناشرة الكتاب — أن تستحضر أكثر من مائة مرجع من المؤلفات الأوروبية، فلم يتيسر في ذلك الحين استيرادها ولم يجد في فرع الإسكندرية غير نصفها، وهكذا انقضت أجازة الصيف في هذا التصفح والقراءة الاستذكار والتعليق.
ولكن وسط كل ذلك تبدو تأملاته للشاطيء والمصيفين في هذا الفترة طريفة ومثيرة فيحكي في يومياته بجريدة الأخبار في 17 أغسطس 1960 "الشاطئ عامر بالسابحين والسابحات كما رأيته أيام زياراتي الأولى للإسكندرية قبل أكثر من أربعين سنة، وكما نراه بعد ذلك في أيام الرواج وأيام الكساد كأن البحر عالم مستقل عن عالم الأسعار والأموال. ولا جديد بين الماء والسماء!
ولكن ربما كان هناك جديد يسترعى النظر بعد لفتة أو لفتتين، وهو قلة الاكتراث على الشاطئ بمظاهر الترف والخيلاء ؛ فقليلا ما ترى أحداً ينزل إلى الحمامات كأنه تاجر مـن تجــار النفائس والتحف يعرض هناك بضاعة البذخ والزينة.. لزوم العراة الحفاة! وقلما ترى من الجانب الآخر أحدًا يتكلف للفرجة عليه ويتراءى بمظهر فوق مظهره في كسوته أو مظلته أو في آنية طعامه وشرابه.لا كبرياء من هنا ولا استكانة من هناك، ولعله خير كبير إذا كان كله علامة على اقتراب اليوم الذى يقل فيه الاكتراث بحواجز الطبقات. وخير منه أن ترتفع هذه الحواجز لتخلفها علاقات التقارب والتعاون بين أبعد الأطراف وأدناها في سلم المجتمع، فلا تفاوت بينها إلا كتفـاوت السـن وتفاوت الوزن والطول وهو التفاوت الذى لا موضع فيه للظلم والطغيان من بني الإنسان".
بالتأكيد يرتبط الفكر بالمكان والطبيعة كما تتأثر بهم الشخصية ومزاجها العام، فكل بيئة تعطي صبغتها وطابعها للمقيمين فيها، ولذلك يتحدث الكثيرين في وقتنا الحالي عن "جغرافية الفكر"، فكما يذكر ريتشارد إي نيسبت في كتابه المهم (كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف … ولماذا؟) أنه عندما يختلف شعب في ثقافة ما عن غيره من الشعوب، من حيث المعتقدات، ليس لنا أن نرد هذا الاختلاف إلى اختلاف العمليات المعرفية، بل بسبب أنهم واجهوا جوانب مختلفة للعالم، أو لأنهم تعلموا معارف أخرى ترتبط بمكانهم أو البيئة من حولهم.
ولكن رغم ذلك فقد غضب العقاد كثيراً من ربط بعض المستشرقين والكتاب الغربيين بين مناخ مصر وطاقة المصريين، حيث قالوا إنه مناخ لايشجع علي الجهد والمثابرة لأن صيفه غالب علي شتائه وحرارة الصيف فيه تميل بالسكان إلى الكسل والفتور والخمول، فرد العقاد عليهم في مقال مهم نشر بمجلة الهلال – عدد يونيو 1949 – تحت عنوان (الصيف المظلوم) أكد فيه عدم صحة مزاعمهم وأن الحضارة المصرية القديمة خير دليل علي ذلك بالتمكن من علوم الطب والكيمياء والرياضيات والهندسة، ويتضح ذلك من الآثار الشاهدة علي مكانتهم العظيمة في كافة مجالات الحياة.
ويحكي أنيس منصور في كتابه (يسقط الحائط الرابع) عن طقوس العقاد في ليالي الصيف "كان العقاد يستخدم الفونوغراف أو الجرامافون – جهاز لسماع الأسطوانات الموسيقية - عندما يأرق في الصيف. وهو لا يصاب بالأرق إلا في الصيف على الرغم من أنه صعيدى ومن أسوان. وفى الشتاء ينام كأي طفل من العاشرة مساء حتى الخامسة صباحاً وبلا شخير، وليس فى نية العقاد أن يزود بيته بمراوح أو أجهزة تكييف، ويسميها أجهزة تبريد. لأن هذه الأجهزة الصناعية - وهذا تعبيره هو - تضايقه. وكان العقاد و لطفى السيد هما الوحيدان اللذان يشكوان من أجهزة التكييف في مجلس الشيوخ، ومعنى هذا أن العقاد لابد أن يصحو في الصيف ويدير الجراموفون، ذا الصوت الغريب، والذى إذا سمعته يخيل إليك أنه جهاز لتحضير أرواح مطربي ومطربات زمان".
اختلف العقاد مع معاصريه في حبهم الزائد للصيف، ومنهم فكري أباظة الذي كان يسميه "صاحب الجلالة .. الصيف" وذلك علي اعتبار أنه موسم الراحة من عناء الأعمال حسب وصفه المميز الساخر .
بالتأكيد لايمكن فصل وقت الراحة والعمل في حياة العقاد، فقد كان يؤمن أننا الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد، والذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته ، ومالك وقته يملك كل شيء.
وضمن ملف نشرته مجلة الهلال عن الصيف – عدد أغسطس 1952- نجد مقالاً له بعنوان (ماذا نقرأ في الصيف؟) فينصح "أولئك الذين يعتريهم الفتور من وقدة الحر خليقون أن يتجنبوا المزعجات فى القراءة، وأن يتخيروا من موضوعات المطالعة ما يوافق حالة الفتور والاستعداد للنعاس؛ وأولئك الذين يلتهبون مع القيظ لا يضيرهم أن يتابعوا المواقف الملتهبة ويسلموا عواطفهم للثورة مع أبطال الروايات المثيرة، فإن هذه الثورة العاطفية منفس الحرارة الجو وحرارة النفس في وقت واحد، وقد يتداوى المحرور بالحر !".
وقد ظل العقاد حريصاً علي المصيف بالإسكندرية، وكذلك علي زياراته الرسمية لها بالشتاء وخاصة في الفترة الأخيرة من حياته باعتباره مقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، ومن أهم الأحداث التي كان حاضراً فيها مؤتمر الشعر العربي في الستينيات والذي كان مهرجاناً كبيراً تم عقده بعروس البحر المتوسط.