رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


إبداعات الهلال| «للشيطان أغنيته الجميلة» قصة قصيرة لـ محمد صالح البحر

18-8-2024 | 09:20


محمد صالح البحر

دار الهلال

تنشر «بوابة دار الهلال» قصة قصيرة بعنوان «للشيطان أغنيته الجميلة» للكاتب محمد صالح البحر.

نص القصة:

الشيء الوحيد الذى أعطاني النادل إياه، وأنا جُثَّة همد حِسُّها في قارعة طريق مظلم، أن سكبَ عليّ من روحه، فأنبت داخلي الحسٌ واليقظة، تفتحتْ عيناي على يدين، ليستا بكل تأكيد مثل يدىّ، كانتا طريتين، حانيتين، وهما تتحسسان بدني، وعندما نظرتُ إِلى وجهه بدا هالة من نور عميق، حملقتُ فيه أبحثُ عن المصدر، فلما لم أجده دخلني يقين ما بأنه الأصل، وانفجرتْ القارعة المظلمة بضوء كأنما الشمس قد هبطتْ فوقها، واستقرتْ على رأس العمود الذي يعتليني الآن، وأرقدُ تحته فوق فقاعات إِسفنجية، تعلو وتهبط في تؤدة، وأتتْ معها الطيور حمراء في مثل وهجها، تضرب بأجنحة كثيرة، ولم أعرفُ ذلك التعبير الموحد الذي ارتسم على وجهها.

من الجميل أن أصحو الآن، فموعدي لم يحن بعد، عرفتُ ذلك من مجرد إِحساس وجدته داخلي، ولما لجأتُ إِلى الساعة تأكدتُ أنه لم يزل بعيدا، كنتُ أود قضاء وقت أطول في النوم، لكنني قمتُ بطيئا أتحسس طريقي نحو الحمام، مشتاقا لدغدغة الماء البارد، وارتعاشاته المتفجرة بكمال الصحو، ذلك الذي حرمني منه الشيطان ليلة أمس، لقد حاولتُ بكل الصدق أن أُجنب نفسي قلق الاضطراب، والحذر الذي ينتابني في كل مواجهة لي معه، على أن أظل في ذات الوقت محتفظا ببعض الحذر مخافة أن يعبث بي، أو أن يُدخلني في دوائره العنكبوتية المشتبكة بغير بدء أو منتهى، وحقا أفادني ذلك كثيرا، حتى أوشك أن يُحدثَ تحولا منقطع النظير في علاقتي به، قال الشيطان وقد صرفني عن الكتاب الذى أقرأه:

ـــ لن تأتي غدا.

   وتكور في زاوية السقف في الأعلى، وظل يكررها في وجهي كثيرا، ويخرج لسانه طويلا، أحمر، ذا لهيب لافح، حتى أوشك أن يلعقني، تحاشيتُ النظر إلى أعلى، وردَّدتُ في نفسى كثيرا أيضا:

ـــ ستأتي.

   بدوتُ في غاية الثقة وأنا أنأى عن التورط في أي إِزعاج، فالموعد قد ضربناه منذ أيام، ومؤكد عبر التليفون، وشرط القبول متوفر عندي وعندها، والكازينو ـ محل اللقاء ـ لن يغير مكانه أو عمله، وهكذا حاولتُ العودة إلى الكتاب بين يدىّ، لكنني إِمعانا في افحامه، وقفتُ منتصبا في وجه المرآة، متجردا من كل ما أحسبه شكا يبغى التسلل إِليّ في غير شرعية، ومتحاشيا في ذات اللحظة التفرس في ملامح وجهي، وأنا أصرخ:

ــــ إِنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة، في أصل عنصرها الرفيع.

وسكنتُ للحظة، هززت بعدها رأسي تفاخرا، وهنا هبط من مكانه العلوي في السقف، ودخلني.

فاطمة.

كأنني مفطوم عنها، رغم أنها لم تكن غير بنت تمر في الجانب الآخر من الشارع، لكنها بدتْ جميلة، حتى أن عينيّ ثبتتا عليها، وقدميّ عبرتا الشارع تسيران من خلفها، ولساني لم يتوانَ عن إِخراج كلماته المنمقة، حتى وقعتْ فاطمة في دوائري العنكبوتية المشتبكة، ظللنا معا، نلتقي كل يوم، ونتحدث في كل شيء، أفرغنا كل دواخلنا، ولم تعد بنا رغبة سوى أن نصل إِلى تخوم لم نطأها من قبل، هنا توقفتْ فاطمة عن الحديث، وهمستْ:

ـــ أفكر.

ورأيتُ الاحتياج في عينيّ.

قال الشيطان ساخرا:

ـــ أجل يا عم، هكذا يكون الحب.

وغمز بعينه، ليرسم في وجهي علامة تعجب كبيرة.

لكنني لم أبغ الدوران بغير يقين في أرجوحة بلهاء، في لعبة التداول، ووجدتُ أن الكتاب بين يدىّ لم يكن أكثر من تزجية للوقت، فوضعته في إِطاره الذهبي الذى يجلب للناس البركة، ألقيته على الرف، وألقيتُ جسدي في الفراش، فحملني طائر النوم بعيدا.

لم يخب ظني في الماء البارد، فارتعاشاته فَجَّرتْ في بدني صحوا أنعشني، ابتسم الماء كأنما يتفضل عليّ بما تمنيتُه، وظلتْ بسمته معي وأنا أسير في الشارع، مدينا له عن يقين أجده داخلني بشكل ما (لم تكن حالة اللا يقين التي شملتني البارحة قد أخرجتني من دوائرها بعد)، ولِمَ لا؟! وهو مَنْ يصرف الشيطان عني، ويُسلمني إِلى إِقامة سياسة معتدلة مع النفس، ومع العالم، حينما أقف وحيدا عاريا أسفل انهمار شلالاته المُنْصَبَّة في تدفق، أُحْمَل وبدني إِلى عوالم أخرى، سماواتها المكتحلة بالرزقة ذوات شموس حُرَّة وسلام، وينبجس من أراضيها ما أسماه الشيطان مرة بالخير، ومرة بالعدل، وحينما أكده قال إِنه الحب المحض الخالص، لكن الشيء الذى يشتاق إليه عندئذ جسدي الوحيد العاري، حفنة من تراب متباين، تعجبتُ وقتما أرادها أن تُرش عليه من أصل انهمار الشلال.

فوق الشارع كانت السماء شمسا خالصة، وأنا أسير قدماي داستا أحجارا صلبة، وضيئة الصُفرة الصافية مثل حبات اللؤلؤ، وصغيرة مدورة مثل حبات المسبحة المنفرط عقدها فوق إِطار الكتاب الذهبي، تعثرتْ قدماي، واتسخ حذائي بماء البِرك الصغيرة، التي تناثرتْ في حُفر الرصيف عبر الزمن (لم يكن مسموحا بالسير على الإسفلت لغير السيارات)، وامتزجتْ بترابه لتشكل قِطَعا من الطين الخالص، يبستْ وتكومتْ في قيعان الحفر، متخذة أشكال المومياوات، وبرزتْ في بعضها على هيئة هرمية ومسلات، اختفى لون حذائي تماما، ولم أستطع دَفْعا، لا للشرطي الذى يرمقني بحِدَّة، ولا للص الذي سرقني، هكذا سِرتُ أتحاشى البرك، فحرمتُ عينيّ متعة النظر إلى واجهات المحلات المنمقة، بأحذيتها الجَمَّة وملابسها مختلفة العري والألوان، وأَمَّلتُ نفسى بوجود ماسح الأحذية بالقرب من الكازينو.

صديقي ماسح الأحذية.

لصديقي ماسح الأحذية وجه خارطة فلسطين الحديثة، نتوءات بارزة في غير اتساق، فوق حُفر تباينتْ في الغور، شفتاه المتورمتان أعلى ذقنه الرفيع المُحدَّد، يطلع منهما الشعر متسخا في صُفرة، وعيناه الضيقتان ـ هناك في الغور العميق ـ لا ترنوان في نظرتهما الحائرة، الراقصة على وتيرة واحدة، ذهابا وإِيابا مع حركة الحذاء المُتداول على القماشة التي شُدَّتْ في إِحكام، بين أصابعه الغليظة في خشونة وقشف، وأسنانه المكزوز عليها في توتر عينيه، ودائما يقول إِنه لا يُرتِّق ثقوب جلبابه، فمنها يدخلنه الهواء.

ذات مرة وأنا ألج وفاطمة باب الكازينو، ألمحَ إِلى اتساخ حذائي، للحد الذى أشار لي معه بضرورة استبداله، فاعتبرتُ ذلك محض وقاحة، وذات مرة أخرى وأنا أجلس وفاطمة في الكازينو، أخبرني النادل بأنه رجل طيبٌ قلبه، رغم أن كل الناس يعاملونه على كونه مجرد ماسح أحذية، هنا أصبح ماسح الأحذية صديقي، دائما معا ومنفصلان إِلى الأبد، لا أدخل حتى أمسح حذائي عنده، وقد تمتد جلستنا على رصيف الشارع إِلى أمد، وقد تتسع أيضا للحديث بشكل ساخر، عن "فوكوياما" ونهاية التاريخ.  

عندما دفعتُ الباب في بطء استقبلني النادل بشوشا، لكنني لم أكن في تمام الثقة من نفسي، طول الطواف في الشارع تواطأ مع حِدَّة الشمس، فأصاب إِبطيّ وملابسي الداخلية باللزوجة، دوائر البلل المتناثرة من تساقط مياه الغسيل في الشرفات العالية، لم تزل أطلالها على قميصي، وما أفلحتْ علبة المناديل الورقية في استعادة لمعة الحذاء، فظل على حالة بين الظهور والخفاء، وكانت السجائر الكثيرة التي أدخنها على الخواء قد أسلمتني إِلى دوار خفيف، كأنني سكران وما أنا كذلك.

ــــ هذا وضع مزرٍ لمحب ينتظر محبوبه.

قالها الشيطان مباغتا، وانسل من داخلي ليتدحرج في حركات بهلوانية، ويستقر عند باب الكازينو، تماسكتُ، وأخرجتُ له لساني، طويلا، أحمر، ذا لهيب لافح، حتى كاد حين وصل إِليه أن يلعقه، فهذا الوضع المزرى الذى يدعيه الشيطان ليس له بالضرورة أن يكون حقيقيا، حيث كل إِنسان مسؤول عن أفعاله، والنادل لن يرفض لي طلبا، حقيقةً أنني الآن مفلس، لكن فاطمة آتية وستدفع له، فنحن دائما معا، رغم كوننا منفصلين إِلى الأبد، فهي جميلة، أرى الجمال بأم عينيّ لما أنظر في عينيها الزرقاوين كسماء هجرتْ غيومها، والحادتين مثل طائر بري متوحش، لا يكف عن الترقُب.

دائما معا ومنفصلان إِلى الأبد، كأنما الجمال أنشودة فُقِدَتْ في الزمن البعيد، وعبثا يحاول المحبون استعادة لحنها، والرقص على ترنيمة تشبهه، سوى أن اللحن يهرب أبدا، ودائما لا تكتمل الأنشودة.

دائما معا ومنفصلان إِلى الأبد، حيث الجمال يؤرقني منذ كنتُ صغيرا، أراه ينبجس من كل شيء حولي، وأحسه كما أحس روحي النابتة تحت أنامل النادل، لكنني أبدا لا أقدر على لمسه، أليس لمثل هذا قد جُنَّ قيس؟!

الشيطان على باب الكازينو يلوح بالرفض، أنتظرُ راجيا، لكنه يلوح بالرفض ألف مرة، حتى استحال الرفض جدارا بيني وبين فاطمة.

ليست البنات ههنا بجميلات للحد الذى أرضى، ولسن بعاهرات إِلى تلك الدرجة، هن فقط ممتلئات بالشهوة من فرط الكبت، كلهن عيون ترصد، وذاكرة تتمنى، تواقات للحلم البعيد، ومخنوقات أبدا برداء القبيلة.

وأنا أصفق الباب خلفي ـ ربما إِلى الأبد ـ مستقبلا الفراغ ولا نهائية الظلمة التي طالتْ كل شيء، كان عليّ أن أكون صريحا ونفسي، متسقا وذاتي، عرفتُ أن احتياجي لفاطمة لم يكن غير احتياج للحرية، وطالما أنها هي مَنْ يمتلك مفتاح الصندوق المغلق، فلم تشأ منحي دون مقابل تحتاجه، وتعرف يقينا أنني الآن لا أملكه، وأن ليس للشيطان دخل في ذلك على الإِطلاق، إِذ ليس للشيطان إلا ما سعى.

قلتُ أنا سنبلة صفراء، أَبَى النادل حصد حباتها، فيبستْ وتكلستْ، والطيور التي تجمعتْ في سماء الشارع من فوقى ترميني بحجارة سجيلية.

فهل يجب أن أحترق

أو يحترق مكاني

أن تحترق كل الأمكنة؟!