د. أيمن تعيلب,
نحن نعيش عصرا معرفيا جديدا لايعد امتدادا لما سبقه من عصور، بل يعد ابتداء معرفيا جذريا، عصرا مركبا معقدا متداخلا انهدمت فيه الحدود بين المعارف والعلوم والتصورات والثقافات وصرنا نعيش آليات معرفية وفلسفية وجمالية جديدة على مستوى الوعى والإدراك والممارسة، فعالم البيئة مثلا اليوم: لم يعد يكفيه فى فهم تخصصه أن يعكف على علوم البيئة فقط، بل لابد له أن يتجاوز حدود النظام التخصصى الواحد إلى تعددية التخصصات العلمية الأخرى التى تجاوره من قريب أو بعيد تتصادى معه أو تتداخل، فإذا أراد أن يعى بحق اختلالات الأنظمة البيئية واضطراباتها فعليه أن يقف بدقة على علوم الحيوان والنبات والأحياء والفيزياء دفعة واحدة، لقد تغيرت فكرة التخصص العلمى المعاصر بصورة جذرية عن مفهوم التخصص الكلاسيكى، فالتخصص العلمى اليوم ليس حدا معرفيا حاسما بقدر ما هو هجرة علمية مستمرة بين الحدود لا فكرة مركبة مستقرة، هجرة إلى عوالم معرفية بينية تعددية متباينة متحركة متصلة، تجمع بين النسق واللانسق، الموضوعى واللاموضوعى، المنظم والفوضوى، فى لحظة معرفية واحدة، حيث تتداخل إرادة المعرفة بإرادة الحياة، وبذلك صار مفهوم الحد العلمى مفهوما متشعبا ومتناميا من جهة، ومتداخلا بين كل ألوان المعرفة والوعى من جهة أخرى، ومتراميا مع مستجدات الحياة والواقع من جهة أخيرة.
وبناء على هذا الوعى المعرفى الجديد تغيرت مفاهيم كثيرة: اللغة والذات والمجتمع والواقع والجماعة والبيئة والبطولة والخلود والحياة والموت، وصار الإنسان يعيش فى قلق وارتياب وحذر وخطر ودوامية تكنولوجية رقمية سريعة لاهثة، لم يعد البطل اليوم هو الإنسان بل صار البطل الرمز والوسائط والآلة فتغيرت تبعا لذلك مفاهيم الزمان والمكان والكون بعد غياب المعنى التقليدى للتاريخ والجغرافيا كما تغيرت مفاهيم اللغة والواقع والخيال والمادة، ولم يعد فى مكنة الإنسان المهجور والمهدور والمقهور سوى اللياذ بملكوت اللغة بيته ووجوده يحامى بها عن ذاته وعن وجوده ضد كل أشكال التشيؤ والاهتراء والتآكل والتلاشى والسقوط فى سوق الاستهلاك اليومى المكرور.ولعل كل ذلك قد زج بالإنسان واللغة والتاريخ والشعر إلى صور وتصورات معرفية وتاريخية وفلسفية وجمالية جديدة، وصارت حاجة الفنون كلها إلى تجديد حدها ورسمها ضرورة وجودية قبل أن تكون ضرورة جمالية.
الأشكال الجمالية الوجيزة والخيالات البينية
إن كل بويطيقا تشكيلية جديدة هى وليدة رؤية فلسفية جديدة للعالم كما قلنا آنفا، والشكل الجمالى الشذرى الوجيز وليد العصر الرقمى التكنولوجى الرمزى الكثيف وهو عصر معرفى شبكى تشعبى قائم على البينية العلمية والجمالية والتعدد والتداخل والانتشار مما أدى إلى خلق مانطلق عليها هنا (الأخيلة البينية المنظومية التشعبية)،القرين الجمالى لعصر يرى العالم واللغة والجمال والخيال والواقع من خلال عوالم بينية تعددية متداخلة كثيفة مقطرة، لقد انتهى عصر العناصر الجمالية الجدلية المركبة وابتدى عصر الأنظمة المعرفية والتخييلية الشبكية المعقدة، وقد أدى كل هذا إلى أن تتخلق أشكال جمالية ومعرفية جديدة أقرب إلى الثورة والتجديد والتجريب. وتقع على رأس هذه الأشكال الأشكال الوجيزة. لذلك كنا نراها (فن تخوم) لا (فن حدود)، وأقصد بفن التخوم: أن شعريتها تقع على التخوم التخييلية والمعرفية البينية القصوى بين أجناس جمالية متعددة متعارضة وتتوالد شعريتها من منطق الفجوات بين كل هذه الحدود الجناسية المتباينة،فهى أشبه بكرنفال جمالى شبكى تعددى يموج بالصور والدراما والإيقاع والتخييل والتعقيد والتشابك والغموض والاستشراف.إنها فن التكثيف الرامز المومض الذى يلائم سرعة العصر وكثافته وغنائيته ودراميته معا.
ومن ثمة تمتعت الأشكال الجمالية الوجيزة المعاصرة ببنية تشكيلية بينية غير مركزية من الممكن أن نطلق عليها هنا (الجماليات الشذرية البينية الكثيفة) وهى جماليات مفرطة تتمتع بسعة تشكيلية بينية هائلة تتجاوز جميع ثنائيات الأشكال الجمالية المتعارضة حدا ونوعا وجنسا في فكرنا الجمالى والنقدي. وفى هذا السياق الجمالى والمعرفى الجديد تتجاوز جماليات الأشكال الوجيزة التصور التقليدى للخيال ناقلة حده الجمالى والمعرفى من التركيز على العناصر الجزئية داخل المنظومة الجمالية الواحدة، إلى فكرة التداخلات الجمالية والمعرفية المنظومية المتآذرة التى تربط بين أنظمة جمالية ومعرفية متعددة متباينة متعارضة متداخلة،عبر سياقات جمالية نوعية جديدة، وهذا التجادل التركيبى البينى للأنظمة المعرفية والجمالية المتباينة، نقلت معها حدود الخيال من فكرة العناصر المتفاعلة إلى فكرة العوالم والأنظمة المتداخلة،كما نقلت حدود التصوير الشعرى من فكرة التسلسل التعاقبى فى بنية النظام النصى الواحد أو حتى المتناص، إلى فكرة التزامن التخييلى والجمالى الشذرى الدورى الكثيف بين أنظمة نصية معقدة ومتباينة،وانتفت السببية والمنطقية البنائية من بنية النص ودورانها حول مفهوم الوحدة العضوية، أو حتى العضوية البولوفينية، وحلت محلها ما نطلق عليها هنا (البنائية البينية الدورية الشذرية) التى ترى السبب والنتيجة متداخلين متجادلين فى وقت واحد وفى مكان واحد بما ينفى ثنائيتهما وانفصالهما، وينفى أيضا فكرة التسلسل المنطقى التعاقبى بينهما، ويسمح بخلق مراكز جمالية شذرية تعددية متباينة متداخلة تحيط بالعالم من كل الجهات، بما ينفى فكرة المركز الجمالى الواحد.
ومن هنا فقد نقلت الأشكال الجمالية الوجيزة بنية الخيال الشعرى من الاتساقية إلى التشذيرية، ومن العضوية النامية إلى الشذرية المفتوحة، ومن التعاقبية البنائية العضوية إلى التزامنية البينية المنظومية، ومن التفاعل التجاورى التراكمى، إلى التداخل المنظومى الكيفى، مفيدة من تصورات جمالية حداثية معاصرة مثل: فكرة اللاتمركز والشبكة التفاضلية لدى جاك دريدا، ومن فكرة تعددية الأصوات واللغات لدى ميخائيل باختين، ومن فكرة النص الكتابى ونص الغبطة واللذة لدى رولان بارت، والنص المفتوح لدى إمبرتو إيكو، كما أفادت من التقنيات التشكيلية والبنائية المتعددة فى الخطاب الشعرى والسردى المعاصر بما ترامت إليه من آفاق التشابه والتضاد، التعدد والتداخل، المعنى واللامعنى، الصوت والصمت، معيدة تركيب وتنظيم ما جد على النص القصصى الشعري من تقنيات أسلوبيه متعددة كاللبس والغموض، وأسلوب التناقض الظاهري، والانزياح، والتناص، المساحات البيضاء، إلغاء أدوات الربط، وخلق شعرية الحالة، التركيب التصويري، والصور المتراسلة، وخلق مفهوم الفجوة، وتغير أفق التوقع والانتظار، التكثيف والتبئير، تداعيات الحلم، تثبيت الدال وتعويم الدلالة، الترميز والأسطرة، أسلوبية الموقف، وأسلوبية المقام، تداخل المعقول واللامعقول، مما أدخلنا فى النص البينى التشذرى الدينامى الكلى ولقد كان على الناقد الجاد أن يتخلى عن جميع قناعاته الثقافية والجمالية والمعرفية المسبقة حتى يستطيع الاقتراب المنهجى الخلاق من النص.
نماذج تطبيقية مختارة
سوف أخصص هذه الوحدة من المقالة للمعالجة النقدية التطبيقية للشكل الجمالى السيرى الوجيز، حتى أختبر صحة الفرضيات التخييلية والمعرفية التى طرحتها فى الجانب التنظيرى السابق، ولكن نظرا لاتساع المجال المعرفى والجمالى لهذه الأشكال فى المشهد الأدبى العربى المعاصر فسوف أقتصر فى التطبيق النقدى هنا على بعض نصوص (أصداء السيرة الذاتية) لنجيب محفوظ
جماليات العنوان فى أصداء السيرة الذاتية
اقتفاء الصدى وارتحالات المعنى
لعل فكرة الصدى التى عنون بها نجيب محفوظ سيرته الذاتية (أصداء السيرة الذاتية) تقع فى العمق الجمالى والدلالى من فنية الشكل الجمالى الوجيز، فمعظم هذه النصوص تتمتع بالتقشف اللغوى والورع التركيبى والتقطير التشكيلى والتكثيف الدلالى فهى نصوص بالغة الإحكام والسيطرة والتكثيف والتقطير تطل على التعدد والتداخل والانفتاح على الذاتى ومنه على والكونى واللانهائى. ولعل كل ذلك أدخل فى فكرة الصدى لا الصوت، حيث يتيح الصدى مساحة أرحب وأعمق تتنادى فيما وراء حدود الصوت، فكلما اتجهنا صوب الصدى نستطلع مساره ونستشرف مداره تضيع منا الجهة وتنبهم المسافة وتغمض الرؤى وتغيم الآفاق حتى لتنساح اللغة والأخيلة فى كل الجهات دون حدود،إنها الأصداء المزدحمة بالرؤى والأخيلة والذكريات والأحلام والممكن والمحتمل،وكلما توجهنا صوب دلالات الصدى انفتحت علينا مجهولات المدى، هكذا الأصداء كما يقول الدكتور يحى الرخاوى( تخفى أصلها أكثر مما تظهره،فهى تدل عليه وفى الوقت نفسه تبعدك عن حقيقته،لكنها تسمح بخيال أوسع ومعرفة أشمل).
ولو رحنا نتتبع دلالات الصدى فى المعجم العربى وجدنا المادة اللغوية للصدى تتحرك فى مدى دلالى واسع فهى تعنى فيما تعنى كما يقول الزبيدى فى:( تاج العروس من جواهر القاموس): طائر الليل يطير بالليل ويقفز قفزانا،وطائر يخرج من رأس المقتول إذا بلى، والمتصدى الذى يرفع رأسه وصدره يتصدى للشىء.والصدى: العطش وقيل شدة العطش،ومايردده الجبل على المصوت فيه.والعالم بمصلحة المال،والصدى: حشوة الرأس ويقال لها الهامة، والرجل اللطيف، والجسد الآدمى بعد موته فكأنه رثاء الجسد لذاته قبل موته الفعلى).
إن معظم الدلالات اللغوية الكامنة فى نواة الصدى اللغوية تتصادى من قريب أو بعيد بالعوالم السردية الرمزية فى الأصداء التى لاتكف عن التوتر بين المرئى واللامرئى، الحضور والغياب، فهل كانت روح الإبداع لدى محفوظ قد أحدست كل هذه الدلالات اللغوية ومابعد اللغوية بضربة خيال خلاق؟ بالتأكيد هذا ما حدث.ففى معظم نصوصه تبدو الدلالات السردية منتثرات متفرقات ملأى بالتصدع والتشذر والترميز لكنها عبر خيالات الصدى متصاديات متداخلات متجادلات ترصدها بؤرة الخيال السردى عبر غابة أصداء دلالية شاسعة تعج بارتحالات الرؤى وتناسل الدلالات تتنازع فيه الروح الإنسانية قلقها الوجودى بين تطوحات الفكر والرؤى، وعطش أشواقها للوجود فهى تقفز قفزا فى مدى وديان الصدى، مصوتة فى مجاهليه البعيدة والقريبة علها تظفر بوجودها الإنسانى الحقيقى؟. كل هذه الدلالات اللغوية التى أتى عليها العقل اللغوى للقاموس وجاءت مبعثرة متفرقة عبر سياقات لغوية متعددة مترامية متباينة يحدسها الخيال الإبداعى لدى محفوظ عبر جميع نصوص سيرته فى وثبة باذخة من وثبات الخيال. يقول الدكتور يحيى الرخاوى فى دراسته عن (أصداء السيرة الذاتية) (إن محفوظا إذ ينتقى كلماته إنما يتخير مايفيض به كيانه اللغوى دون علم محدد بكل أبعاد اللفظ،لكن اللفظ يتفق مع مايراد منه بكل دقة موضوعية حين لايكون ثمة فاصل بين الكيان الذاتى والكيان اللغوى للكاتب،وفى هذه الحالة يحدس المبدع تاريخ لغته بدقة شديدة الإحكام دون مرجعية رمزية).
ووفق هذا التصور تقلب أصداء السيرة المحفوظية بين الصوت والصدى،مستحضرة ما غاب من خلال ما هو حاضر، فدائما نجد فى الأصداء هذا الانفتاح التخييلى اللانهائى من خلال ترددات رموز الصدى وانفتاحها على الواقع والممكن والمحتمل والحلم والشك والحياة والموت،يظل صوت الحاضر مدويا،بينما الصدى يظل أصداء مشعة ملونة مهومة فى الفراغ الغامض البعيد،شمس تتجلى متفجرة بالنور المضاعف إذ ترتد على ذاتها ظلا منيرا فى الخفاء الغريب، تتجلى وتتخفى، حاضرة غائبة، واقعية وخيالية. كأنى بصدى الدلالات فى السيرة تقول ما يتأبى بطبعه على القول. فالنص فى أصداء السيرة بحران رؤى، ومس تصورات فوارة بالرموز والغموض والترميز والتعدد لايقر لها قرار، تشتعل الكلمات فوارة فى كأس النص فيصاعد حبب الصور الملتهبة من قاعها الملتهب فتتفلت الكلمات عن حدودها المعهودة وتترامى اللغة إلى ما وراءها حتى تبلغ حدها الأقصى من الدلالة مستشرفة ضفاف المجهول والرموز والأسرار، شذرات استعارية تمزق حدود الدلالة، وتشذرات زمنية تتقحم غيابات اللازمن، وصور تترامى تستجلب المجهول حتى لتشرأب رقاب الكلمات تستشف ماوراء الكلم حيث يحل جسد المجهول المتخفى فى جسد المعلوم، فيمطر نثارا من قمم المطلق البارد فى لعلعة النسبى اللعوب. وإليك قارئى الكريم نص من هذه النصوص البللورية المشعة.
مخطىء من يظن أن أصداء السيرة هى سيرة بالمعنى التقليدى لمفاهيم السيرة الذاتية فليس هنا تعاقد وثيق بين الكاتب والقارىء يقر بأن الكاتب هو المؤلف والراوى والمروى عليه يحكى قصة حياته الحقيقية كما جرت فى نهر الزمان والمكان. ومخطىء من يظن أن السيرة هنا لاتمت بصلة لحياة نجيب محفوظ نفسها، وفى الحالتين مخطىء من يوقن أحد التصورين دون الآخر، فهنا نجيب محفوظ بالفعل فى وجوده الجسدى العينى وأيضا لايوجد هنا نجيب محفوظ بشحمه ولحمه وروحه وخياله وذكرياته الخاصة، بل هنا أثر شفاف رفاف يهيم فى الخيال من خطى تاريخية حقيقة راسخة داست فوق تراب الزمان والمكان، هنا رجرجة الصدى وانفتح المدى، هنا أيقونات قصصية رمزية كثيفة مركزة تشع فى كل اتجاه مثل ذبذبات الصدى الرنانة بين الجبال والآفاق البعيدة نستشعرها بكامل كياننا دون أن نحددها كل التحديد. الجديد المبتكر هنا ترددات أصداء عوالم محفوظ الروائية السابقة كلها فى سيرته فكأن سيرته حيوات شخوصه السابقة ومدارات رؤاهم عبر كل فضاءاته الروائية،هو عاش كل هذا الشخوص بكافة محنهم وأشواقهم هم جزء من روحه وهو جزء أصيل من أرواحهم، هنا أصداء مدوية صاعدة هابطة من الحرافيش وهنا جمجمات من ميرامار وهمهمات من الشحاذ وذبذبات من المرايا وهمسات من حديث الصباح والمساء،ما انبسط هناك بحار ذخارة من الأمكنة والأزمنة والشخصات والرؤى والأخيلة والدراما انقبض هنا قطرات كثاف من الشعر المصفى عالى الصفاء واللمعان والإشعاع والتوتر والترميز والترامى فى كل اتجاه. كيف انقبضت العوالم الروائية الضخمة الكبيرة فى أبدية اللحظة الجمالية الخاطفة المنيرة؟.صوت روئى ضخم هتف فى جنبات التاريخ ووديان الجغرافيا وأنحاء الكون فرجع صداه مضمخا بالروح والذكرى والحلم والحياة والموت والشك واليقين والخيال. صوت من لحم ودم يصور أصداء ذكريات روحه وبنات فكره وأحلام حياته وأشجان وجوده عبر خيالات الصدى فينتقل معه كل شىء من محدودية المدة إلى لانهائية المدى.إنها الأصداء التى لاتنتهى عجائبها ولاتنقضى غرائبها.
نص ( اللؤلؤة)
(جاءنى شخص فى المنام ومد لى يده بعلبة من العاج قائلا: تقبل الهدية. ولما صحوت وجدت العلبة على الوسادة، فتحتها ذاهلا فوجدت لؤلؤة فى حجم البندقة، بين الحين والحين أعرضها على صديق أو خبير وأسأله: ما رأيك فى هذه اللؤلؤة الفريدة؟ فيهز الرجل رأسه ويقول ضاحكا: أى لؤلؤة؟ العلبة فارغة).وأتعجب من إنكار الواقع الماثل لعينى، ولم أجد حتى الساعة من يصدقنى. ولكن اليأس لم يعرف سبيله إلى قلبى.).(أصداء السيرة الذاتية)
فى هذا النص يترامى الروح الإنسانى عبر أصداء رمزية لاتمناهية عمادها أنوار اللؤلؤة الروحية وماتوحى به من بريق ولمعان من جهة، وخفاء وغموض من جهة أخرى حيث تكمن اللؤلؤة دائما فى أصدافها الملتفة على نفسها التفاف الغابة على الصدى الهائم فى أرجائها فتومض دلالات اللؤلؤة من أفق غامض بعيد تبين ولاتكاد تبين، تتراءى بين الحلم واليقظة، الواقع والخيال، يرى الراوى فى حلمه اللؤلؤة بينما لايراها الآخرون فى الواقع من حوله، ولعل هذا يومىء إلى أن من يحلم هو وحده الذى يرى، بينما الآخرون من حوله لايرون مايراه لأنهم لايرون سوى الظاهر أو ما تيقنوا من انتهائه،أما الذى لازال طور حلم التخلق والتكون فلا يراه سوى الحالمين، وإذا رأوه رأوه ببصائرهم وإذا أذاعوا على الناس مارأوه أنكر الناس عليهم ما رأوه، وإذا قال الحالم للناس انتشيت قالوا كيف؟ وخاسر من ترك يقين ماعنده إلى وهم ما عند الناس، ولازالت الأصداء تتردد فى أرواحنا وخيالاتنا فكل من حولنا لايرون اللؤلؤ المكنون فى أرواحنا وأخيلتنا ولغتنا بل يروننا فقط من جهة أبصارهم ويظل الحالمون حيارى بين الناس لأنهم يرون بعيون العاشقين فيبصرون ما لايبصره الآخرون، وتعنف الحيرة ويشتد الظمأ وياويل من صدق وهم الناس وترك يقين ماعنده!!.
هذا مايريد نجيب محفوظ أن يقوله فى النص، وربما أراد غير ذلك، أو أراد أعمق وأرحب من ذلك،فربما رأى أن كل منا يمتلك لؤلؤته المكنوزة فى أصداف وجوده ولكن للأسف الناس مشغولة بما عند الآخرين لا بما عندهم فهم يسألون الخبراء من خارج صناديق أحلامهم: هل ترون ما نحن فيه فيجيبون أن لا! بينما الروح تقول أن نعم. فكيف نوفق بين الوعد الكامن المشع داخل أرواحنا وبين رؤية الناس لنا من خارجنا. يقول نجيب محفوظ التوفيق مستحيل فكل واحد بعيد عنا (يهز الرجل رأسه ويقول ضاحكا: أى لؤلؤة فالعلبة فارغة). كيف يتسنى لنا الجمع فى لغة النص بين ما أطلق عليه محفوظ داخل أراوحنا (اللؤلؤة الفريدة) وبين ( العلبة الفارغة) لابد لنا أن نتعجب كما تعجب محفوظ (وأتعجب من إنكار الواقع الماثل لعينى.. ولم أجد حتى الساعة من يصدقنى!!) والله لن يصدقك أحد سوى نفسك، خاسر من صدق الناس ولم يصدق نفسه،خاسر من باع نفسه وكسب العالم كله، لعلنى أسمع الان فى ذاكرتى بيت شعر يتهادى من بعيد للصوفى العربى يقول فيه:
وإنى لأرجو الله حتى كأننى
أرى بجميع الظن ما الله صانع
لكن محفوظا هنا ليس صوفيا غارقا فى روحانية غائبة عن الدنيا بل هو يمارس صوفيته فى أعماق دنيوية الدنيا،وهنا الابتكار الخلاق إذ عليك أن تتصوف أولا مع ذاتك ونفسك لترى لؤلؤ روحك جليا ساطعا حتى تتمكن بعد ذلك من رؤية لؤلؤ الله الساطع فى روحك!.
ثم تترامى الأصداء تعرج بنا إلى أفق جوانى آخر أشد غرابة وإدهاشا إذ كيف نعقل ونمنطق فى حياتنا ماهو بطبيعته فوق العقل والمنطق؟. كيف نصدق مايعتلج فى أرواحنا مغمغما فى الخفاء ولانمتلك أى يقين عليه حتى الآن؟ وياويلنا من جمجمة أرواحنا بأشواقنا وأحلامنا إذ لم نصدقها!! إن مصدر إبداعنا لنفسنا ووجودنا متوقف على مدى ثقتنا فى أحلامنا وماتبثه إلينا من رسائل غامضة، ولازالت الأصداء تترامى برموزها اللامتناهية من أفق إلى أفق حيث الوجود البشرى بتعقيداته المذهلة لايحكمه مايعلمه بل يحكمه مايجهله فمساحات المجهول أوسع من مساحات المعلوم، بل نحن نتعلم من الغامض المجهول أكثر مما نتعلم من الواضح الظاهر،فاالإبداع هو البحث الحفر المتصل فى أدغال المجهول حتى نمسك به ونعقلنه فى منطق المعلوم، ثم يفتحنا هذا المعلوم الجزئى مرة أخرى على مجهول أوسع وهكذا نظل نكدح من مجهول إلى معلوم ثم من معلوم إلى مجهول جديد فى دائرة لاتنتهى، ولعل المنطقة الغامضة الممضة المرهقة التى تمن فيما بين المجهول والمعلوم هى مايتكىء عليها نجيب محفوظ هنا فهى منطقة بينية برزخية غامضة لكنها مومضة تنبض كوعد وتتلامح كإمكان هى ظن سارح فى أخيلتنا وأرواحنا لكنها تلح على الروح إلحاحا عميقا محيرا.إذا صدقنا أنفسنا كذبنا الناس،وإن كذبنا أنفسنا سخر منا الناس!! فمن أين السبيل وكيف المفر والمستقر فى حياة أشبه بالحلم لكنها أعنف من كل يقين؟! كل إنسان فينا يملك هذه اللؤلؤة الساطعة بين جنبات كيانه ومنا من يصدقها عاكفا على جلائها واجتلائها حتى تشرق بها حياته. ومنا من يهملها ويكذبها حتى تصدأ وتتلاشى ويتلاشى معها معنى حياته. فهل نظرت معى قارئى الكريم كيف عجت آفاق هذه الشذرة القصصية البارعة بأصداء الرموز وارتحالات الدلالات، وهجرة الخيالات حتى لامقر ولامستقر بل حياة نابضة حية لاتنتهى غرائبها ولاتفنى عجائبها؟!.
كلمات حبلى مغداقة، وصور مرهفة معطاءة تضوع بالدلالات السرية والنغم الخفى المموسق كأنها تستحضر موسيقى من السر العتيد. مقدرة تشكيلية فذة على تأهيل الكلمات العادية بوشى الخفاء النضير حتى تتفجر دلالاته الحسية والمعنوية مجلوة كشمس صيف لعوب. فتكسب كل كائنات الصور والكلمات والتراكيب ظلالا وارفة ورموزا مورقة وبعدا ثالثا من مسوس غيوب الحياة التى تنسكب فى نفسك فتتكسر كل الحواجز بينك وبين نفسك أولا ثم بينك وبين الكاتب ثانيا ثم بينك وبين جميع كائنات الوجود ومابعد الوجود أخيرا.ثم يعاود الصدى دورته من جديد.