في مشهد رائع، تتوقف له أنفاس المشاهد، يسقط (فهمي) الطالب بنهائي الحقوق والابن الثاني للسيد أحمد عبدالجواد، صريعا برصاص الإنجليز أثناء مظاهرات الابتهاج بعودة الزعيم سعد زغلول إلى وطنه بعد المنفي، وبموته تنتهي حلقات مسلسل (بين القصرين) أول أجزاء الثلاثية الشهيرة للكاتب نجيب محفوظ، لتبدأ بعدها، وبدون فاصل زمني كبير، حلقات الجزء الثاني، أي مسلسل (قصر الشوق) بنفس المعد وكاتب السيناريو والحوار القدير (محسن زايد)، ونفس المخرج التليفزيوني الكبير (يوسف مرزوق)، أما الزمن فهو عام ١٩٩١ الذي عرض فيه المسلسل الأول في نهاية شهر مارس، بينما عرض (قصر الشوق) أو الجزء الثاني من الثلاثية قبل نهايته، في سبتمبر من نفس العام، وللأسف لم ينتج تليفزيون دبي، الذي أنتج المسلسلين، الجزء الأخير من ثلاثية محفوظ (السكرية)، ومع ذلك، فإن هذان العملان كانا هدية ثمينة للجمهور العربي كله من المحيط للخليج، ولعشاق الدراما التليفزيونية التي كانت في هذا الوقت قد أصبحت فنا قويا له مبدعوه، وله جماهيره، خاصة، حين اتجهت في جزء ملحوظ منها إلى تحويل روايات مرموقة إلى أعمال درامية.
في تقديري فإن ثلاثية نجيب محفوظ التليفزيونية تتجاوز الأفلام التي قدمتها السينما المصرية عنها، فالحلقات الثلاثين للمسلسل تمتعت بمجال درامي أرحب، ومساحة أعرض أتاح لها شكلا ملحميا بكل أبعاده وملامحه المعبرة عن المجتمع في تلك السنوات، خاصة مع الفهم العميق والجهد الكبير لكل من كاتب السيناريو والمخرج، والتقدير الكبير منهما لأدب محفوظ وأهمية تقديمه عبر ساحة جديدة هي الدراما بكل ما فيها من مقومات بصرية وميزات تصل العمل إلى كل العقليات والثقافات، (وأيضاً المحاذير التي تخص دخول دراما التليفزيون إلى البيوت)، وهو ما تتجاوز عنه السينما التي يذهب إليها من يريد. وبرغم أن التليفزيون لجأ مبكرا إلى تحويل الإبداع الأدبي إلى دراما وقدم أعمالاً عديدة لأدباء كبار مثل (طه حسين)، و(عبدالمنعم الصاوي)، و(توفيق الحكيم)، و(إحسان عبدالقدوس)، و(فتحي غانم ) وغيرهم، لكنها كانت المرة الثانية التي يتحول عمل أدبي مكون من أجزاء إلى دراما تليفزيونية بنفس المقياس بعد خماسية الأديب عبدالمنعم الصاوي التي تحولت إلى مسلسل من خمسة أجزاء على يد المخرج نور الدمرداش في بداية الستينيات في زمن الأبيض والأسود، ثم جاءت الثلاثية المحفوظية بعد سنوات غير قليلة، لتقدم تلك الروايات الرائعة إلى المشاهد العربي، وبعد أن حصل مبدعها على جائزة نوبل في الآداب.
الدراما والرحلة المحفوظية
من الصعب إحصاء كل الأعمال الروائية لنجيب محفوظ التي تحولت إلى أعمال تليفزيونية، لكن معرفة بدايتها في حقبة السبعينيات من القرن الماضي يعني أن أدب صاحب نوبل كان دائما مصدرا للجاذبية لدى صناع الدراما المصرية، خاصة مع اهتمام الدولة بالثقافة والفن بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، وإطلاقها للبث التليفزيوني ١٩٦٠، ومشروع للنهضة كانت الثقافة بكل أطيافها جزئاً مهما منه، كما أن بدايات الإنتاج الدرامي التليفزيوني قدمت للمشاهد تنوعا كبيرا بين الأفكار شمل الأدب المصري والعربي والعالمي، وتنوع القوالب الدرامية لتشمل التمثيلية القصيرة، والطويلة (تمثيلية السهرة) ثم المسلسلات التي بدأت بالسباعية، أي سبع حلقات، وحتى ثلاث عشرة حلقة، وبعد سنوات تمددت إلى الثلاثين، وفي حقبة السبعينيات، قدم التليفزيون سبعة أعمال لمحفوظ هي رواية (ميرامار) التي أخرجها إبراهيم عبدالجليل في مسلسل، والتي أثارت جدلا كبيرا لأنها تناولت بالنقد ثورة يوليو، ثم رواية (حكايات حارتنا) من إعداد وإخراج محمد دياب في سباعية عرضت عام ١٩٧٤؛ وفي نفس العام كتبت الكاتبة وفية خيري تمثيلية مأخوذة عن قصة لمحفوظ بعنوان (لونا بارك) وأخرجها يوسف مرزوق، في أول أعماله مع محفوظ، وفي العام التالي ١٩٧٥، قدم التليفزيون مسلسل (اللص والكلاب) لأول مرة بإعداد محسن زايد وإخراج إبراهيم الصحن، وبعد ثلاثة أعوام، أي ١٩٧٨، يقدم المخرج نور الدمرداش رواية (السمان والخريف) في مسلسل كتبه سامي غنيم، وفي نفس العقد، تقدم (أفلام التليفزيون) عملان، الأول هو مسلسل (الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين) عن رواية لمحفوظ كتبها الكاتب الجديد وقتئذ أسامة أنور عكاشة وأخرجها ناجي أنجلو الذي أخرج أيضا فيلم عن قصة قصيرة لمحفوظ بعنوان (تحقيق) كتب لها السيناريو والحوار عاطف بشاي فيروز أعماله التليفزيونية، وقد حصل الفيلم على جوائز عديدة دفعت كاتبه إلى البحث عن أعمال محفوظ الأخرى.
الثمانينيات.. أيوب.. وصاحب الصورة
في الثمانينيات، زاد إقبال صناع الدراما التليفزيونية على أعمال محفوظ، بدء بمسلسل (عصر الحب) عام ١٩٨٢ عن سيناريو عصام الجمبلاطي وإخراج يوسف مرزوق الذي بدأ تطوره كمخرج واحتفاظه بروح الرواية واضحا، وبعده، قدم قطاع الإنتاج فيلم (أيوب) الذي طرح فيه محفوظ أزمة استيقاظ الضمير لدى الأثرياء الفاسدين من خلال سيناريو محسن زايد وإخراج هاني لاشين وبطولة عمر الشريف (بعد عودته من رحلة الغربة للسينما العالمية) عام ١٩٨٥، وبعد عام عاد محسن زايد ليقدم قصة محفوظ (من فضلك وإحسانك) في فيلم تليفزيوني أخرجه ناجي أنجلو، وبعد عام آخر (١٩٨٦) قدم التليفزيون مسلسل (الحرافيش) عن رواية محفوظ وسيناريو زايد أيضا، وفي العام التالي، تجدد اللقاء مع أدب، محفوظ عبر الشاشة الصغيرة من خلال مسلسل (الباقي من الزمن ساعة) الذي كتبه للتليفزيون عصام الجمبلاطي وأخرجه هاني لاشين، والذي تعسفت فيه رقابة التليفزيون بشدة معه خاصة وهو يدور حول تاريخ مصر الحديث منذ نهاية الأربعينيات، وحتى اتفاقية كامب ديڤيد وما بينهما من أحداث! وبفيلم بعنوان (صاحب الصورة) ينتهي عقد الثمانينيات بين التليفزيون وأعمال محفوظ بقصة تدور حول مليونير يختفي فجأة فتكتشف زوجته وأهله ما خفي عنهم من أسراره، كتابة فراج إسماعيل وإخراج إبراهيم الصحن الذي نجح في تجسيد فكرتي العالم الظاهر والعالم الخفي للبطل.
التسعينيات.. والثلاثية.. والرقابة
لم ير الجمهور المصري ثلاثية نجيب محفوظ في وقت إنتاجها عام ١٩٨٨ بسبب الرقابة التي اعترضت عليهما ووجدت نفسها في ورطة بعد عرضها على الشاشات العربية، فسمحت بعرض الجزء الأول (بين القصرين) بعد محذوفات عديدة، وظالمة، مما دفع كاتبها (محسن زايد) إلى المطالبة بعدم عرض الجزء الثاني (قصر الشوق) على شاشة التليفزيون المصري احتراماً للكاتب الكبير الذي كان حصوله على جائزة نوبل في الآداب هو الحدث الأبرز في تاريخ الأدب المصري والعربي وهو ما دفع (مطيع زايد) المنتج المشارك مع تليفزيون دبي للإسراع بعرض الجزءين كاملين على شاشات دول عربية عديدة تكريما وتقديرا لحامل نوبل، وبعدها دخل كُتاب دراما عديدون في رهانات على أعمال محفوظ، وبعضها كانت السينما قد قدمتها مثل رواية (قلب الليل) التي أخرجها عاطف الطيب عام ١٩٨٨، ولها بُعد فلسفي طرح محفوظ من خلاله حول الموت والحياة والإيمان والإلحاد وهو ما دفع محسن زايد لبذل جهد كبير لتبسيطها دراميا أمام المشاهد، وتم إنتاجها من خلال شركة خليجية ومخرج أردني قدير هو بسام سعد عام ١٩٩٢، وفي عام ١٩٩٣ قدم التليفزيون المصري من خلال قطاع الإنتاج رواية (قشتمر) بتوقيع المخرجة علية ياسين، والتي كتبها عصام الجمبلاطي في عشرين حلقة (وكان هذا العدد من الحلقات جديدا وقتها) في عمل يرصد علاقات البشر بالزمن من خلال أربعة أبطال يتجمعون دائما في مقهى قشتمر (قام بأدوارهم محمود الجندي وعبدالعزيز مخيون ومدحت صالح ووائل نور)، ومن جديد تجتذب رواية (اللص والكلاب) جيل جديد من صناع الفن بعد سنوات طويلة من تقديمها سينمائيا عام ١٩٦٢، وتليفزيونيا عام ١٩٧٥، ليأتي الكاتب أبو العلا السلاموني والمخرج أحمد خضر من خلال رؤية جديدة للنص الروائي عبر عنها المخرج على النحو التالي (إن نجيب محفوظ كاتب ثري الفكر والحوار والرؤية الشاملة للأحداث، لذلك تصلح أعماله للتحول إلى دراما، والرؤية الجديدة للعمل الأدبي تبين كيفية تناول أحداث الرواية بما يناسب واقع الحياة التي نعيشها وهذا ليس دور كاتب السيناريو فقط وإنما يتفق معه المخرج في كل التفاصيل)، والجدير بالذكر هنا أن كلا من الكاتب والمخرج كانا قد قدما عملا آخر في بداية التسعينيات لمحفوظ هو مسلسل عن رواية (حكاية بلا بداية ولا نهاية) عام ١٩٩٤، كما أن الكاتب عاطف بشاي عاد إلى أدب محفوظ من جديد ليقدم رواية (أهل القمة) عام ١٩٩٤ في ثلاثين حلقة بتوقيع المخرج يوسف أبو سيف وبعد عامين عاد بشاي مرة أخرى لتقديم أدب نجيب محفوظ في مسلسل (حضرة المحترم) مع المخرج سيد طنطاوي حول إنسان يعيش في حوار مستمر مع النفس باحثا عن الحقيقة، ولتنتهي الحقبة في العام ٢٠٠١ بتقديم واحدا من أهم أعمال محفوظ الأدبية في مسلسل كبير هو (حديث الصباح والمساء) الذي أكمل به الكاتب القدير محسن زايد إعجابه وتقديره لصاحب نوبل، وبذل جهدا خارقا لتحويل رواية متخمة بالشخصيات والعلاقات والأجيال والتحولات. الزمنية والمكانية والاجتماعية إلى مسلسل أبدع فيه أيضا المخرج أحمد صقر.