رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


مذكرات جرجي زيدان| الفصل الثاني «ميلي إلى القصص» (7-6)

1-9-2024 | 15:52


جرجي زيدان

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.

ويروي جرجي زيدان  الفصل الثاني قصة السنين الأولى في حياته الدراسية وما تخللها من ظروف وملابسات ومشاهدات، وما تلاها من اضطراره إلى ترك المدرسة لمساعدة والده، ومحاولاته تعلم صناعة من الصناعات فترة من الوقت، وما كان للقصص الشعبية من أثر في نفسه، وماذا كانت عليه الآداب العامة في بيروت في ذلك الحين، وهو يصف ما شاهده من ذلك بأسلوب يمتاز بالبساطة والصراحة والإيمان بالنجاح

الفصل الثاني: ميلي إلى القصص

قضيت السنوات الأولى من تلك المدة، والصغار غالب على ذهني، ألهو بما يلهو به أمثالي، لا أعرف معنى الاحترام والاحتفاظ بالفراغ من وقتي أو الإقدام، ولكن لم يكن لي فراغ يساعدني على اللهو، لأن المطعم كان يفتح من الصباح إلى الساعة 3 أو 4 عربي مساء، أي نحو الساعة 10 أو 11 بعد الظهر

على أني كنت أسترق الفرص وأتمتع بشيء من الملاهي التي كانت تجري بالقرب من محلنا، يوم كان على شارع «عربان الشام» فقد كان بجانبه قهوة على نسق القهوات البيروتية في تلك الأيام: ساحة كبيرة مسقوفة بالقرميد، تقدم فيها القهوة والشيشة لمن شاء، ويلعب أهلها في أثناء النهار بالدامة أو النرد أو الورق أو المنقلة أو الطاب، فإذا غربت الشمس أقاموا فيها الألعاب أو التمثيل، وأهمها: لعب السيف، وتشخيص كراكوز والشعوذة، وحكاية القصص، فكانت هذه الألعاب تتناوب وتتبادل حسب الفصول أو الأحوال

وكان دكاننا يطل على القهوة من باب خلفي يمكنني من مشاهدة كل شيء وأنا جالس على كرسى هناك، وكنت أكثر شغفًا من هذه الملاهي بسماع القصص، فكنت إذا رأيت القصاص «الحكواتي» يمشى ذهابا وإيابا يتلو في قصة «عنتر» أو « الزير سالم » أو غيرهما، والناس جلوس يصغون  له وهو يمثل مواقف الحديث بإشارته وصوته.. كنت أنسى موقفي، وأصغي بجميع حواسي وكان «الحكواتي» يروي على الدوام القصص الأربع المشهورة يومئذ وهي: فيروز شاه، وعنتر، والزير سالم، وعلي الزيبقي، فإذا فرغت سنة عاد إلى أولها، فسمعتها غير مرة، ولا أعترض على سماعها، ولا أشكو من الوقت الذي أضعته فيها وأما «كراكوز»، وهو الذي يسميه المصريون «خيال الظل»، فقد كان له سوق رائجة في ذلك العهد، وإني لأستغرب الآن كيف كان الناس يحضرون لمشاهدة ذلك التمثيل، فقد كان تمثيلا بذيئا، كله فحش وسوء أدب، ولا غرو، فإنه كان يمثل آداب أحط طبقات بيروت، الذين يعرفون في اصطلاح أهل المدينة بـ «زعران عصور» - بضم الصاد المشددة - وهم طائفة من المتشردين كانوا يملكون ساحة عصور ويمتدون إلى «ساحة البرج» لا شغل لهم إلا الدعارة والسرقة والتحرش بأبناء السبيل، يمشون تقريبا عراة الأبدان، وينامون في الطرق، لعلهم بقية «العيارين» في الدول الإسلامية، ولكنهم من أغرب ما بلغت إليه البشرية في الانحطاط، شكلًا وكلامًا، فأكثر المتفرجين على «كراكوز» منهم، وكنت أرى أناسًا عليهم لباس أهل الكياسة، كانوا يحضرون لمشاهدة ذلك التمثيل، وأنا لم أكن أضطر للجلوس معهم على مقاعد الخشب في القهوة لمشاهدة التمثيل، إذ كان يكفيني أن أطل من باب دكاننا فأرى ما يرون على أهون سبيل

كنت استقبح ما أسمعه من الكلام البذيء، أو مشاهدة التمثيل السفيه، وأشعر بخجل منه، ولكني كنت أعد ذلك ضعفا فيّ، إذ كنت أرى سائر الحضور فرحين يصفقون ويستزيدون، وحديثهم لا يقل سفاهة وبذاءة عما يسمعون، ولا عجب، فهم أبناء مدرسة واحدة