الهلال منظومة ثقافية.. لتبقى الإنسانية
منذ سنوات بعيدة أتنزه بصحبة أسرتى فى منطقة وسط البلد بأبنيتها العريقة، وطرزها المعمارية المنمقة، وكان يلفت نظرى هذا البناء الممتد، المنخفض نسبياً لكنك تستشعر بعظمته، وكأنه أثر، وحين أرشدونى والدىَّ بالمعرفة أنها «دار الهلال» فتولد لدىَّ الشغف لدخولها والتطلع إلى معارفها، وخاصة بعد أن فهمت ماذا تعنى ثقافياً لقطاع عريض وشريحة واسعة من المصريين، كذلك كان أخوالى بحبهم وعشقهم لهذه المنطقة التى يقطن فيها هذا الدار من محبة فى نفوسهم، وقراءاتهم المتشعبة فى إصداراتها حين تتهادى نفوسنا للتمشية حولها تنتابنى الرغبة للاقتراب منها، لكنى لا أعرف هل يمكن أن يتحقق هذا الحلم فى يوم من الأيام!!
أم واعية.. وإصدارات متعددة
ظل التساؤل متوارياً فى ذاتى، لكن أيضاً بدأت التعرف أكثر عن تلك الدار فى سنوات طفولتى، فالواقع أن علاقتى بها عمرها يزيد على الأربعين عاماً، حيث كانت والدتى هذه السيدة العظيمة المثقفة الواعية التى منحتنى الحياة، شديدة الحرص على شراء المجلات والصحف يومياً، ليس لمجرد امتلاكهم بشكل اعتيادى، ولكن للقراءة المتأنية كل يوم، حرصاً منها على متابعة بعض المقالات الشخصية لكبار الكاتبات والكتاب، وكبار الأقلام المستنيرة، ومعظم تلك الإصدارات التى تقتنيها والدتى عن دار الهلال فتشبعت عيناى منذ الصغر بمجلات حواء التى تعبر عن المرأة المصرية، وتكرس لثقافة حقيقية اجتماعية ونفسية وفكرية، بجانب الأنشطة المنزلية التى تقدمها عبر مختصين فى الطهى والأزياء والموضة، وكذلك مجلة الكواكب بما تحمله من أخبار فنية وصور براقة ولافتة للفنانين فكانت تجتذبنى فى سنوات البراءة، وحتى مجلة المصور بين الحين والآخر أجدها فى منزلنا تحمل أغلفتها رؤساء وزعماء وقادة، فتتغذى بصورهم أعيننا قبل أن ندرك بعقولنا أدوار هذه الشخصيات البارزة إقليمياً ودولياً. هذا بخلاف ما كانت تستقيه والدتى من معلومات طبية من مجلة طبيبك الخاص، التى كنت أراها أكواماً فى بيتنا ما جعلها ملمة بكثير من التفاصيل المتعلقة بالأمراض والعلاجات، فكان بعض أفراد العائلة يتعاملون معها بخبرة الطبيب المداوى ويستشيرونها وهى لم تدرس أو تمارس فى حياتها الطب، ولكن لهذا القدر كانت اهتماماتها المتنوعة، بجانب الجرعة الكبيرة التى تتلقاها من هذه القراءات المتعددة، والتى تنتقيها بخبرتها وحكمتها بعناية فائقة ولافتة. أما مجلة الهلال الثقافية كان لها رصيد كبير من الاهتمام فى بيتنا، لكن بتعامل خاص ككتاب قيم، يحمل كنوز الأفكار والكتابات الواعية العابرة للحدود المحلية الضيقة ليتسع مداها عبر أمتنا العربية بمثقفيها ومبدعيها وكتابها خلال عقود تجاوزت القرن والربع من الزمان، فمنذ الإرهاصات الأولى لبزوغ تلك المجلة القيمة وهى النواة الحقيقية لهذا البناء المؤسسى الرصين، ومن خلال مرحلة البدايات استطاعت دار الهلال أن تحتفظ بقدر كبير من المصداقية المغلفة بأمانة العرض، وحجج التناول، وشفافية المقصد باعتبارها موسوعة ثقافية متحضرة بالتعددية والتباين فى الأفكار والرؤى.
ميكى وسمير.. رصيد وجدانى عميق
حتى مجلات الأطفال ميكى وسمير فكان والدىَّ يحرصا على إتاحتهما لنا لنتعود على القراءة فى سنواتنا الأولى وتزداد شهيتنا على الانفتاح على حب الثقافة والاطلاع من خلال تلك المجلات وبعض القصص الأخرى التى تصدرها دار المعارف، ما شكل فى ثنايايا حنيناً خاصة لتلك الإصدارات. وكل هذا وضع رصيداً لدار الهلال فى ذهنى ومخيلتى من المحبة التى تضاعفت مع اتساع المدارك والفهم لحقيقة الأشياء، وتقدير لكل من نقش حرفاً لصناعة قيمة ثقافية وحضارية ومعرفية نستقى منها مخزون الوعى المترسخ والمستقر فى وجداننا.
مؤسسة ثقافية وتنويرية
بعد تلك السنوات الأولى التى قضيتها بين أسرتى المحبة للثقافة والمعرفة، نشأت على قيمة القراءة والاطلاع، وأدركت أن تلك المؤسسة الصحفية والثقافية النابضة بهموم الوطن وأوجاعه على مر تاريخ طويل امتدت عبر رحلة عطاء تجاوزت مائة وثلاثين عاماً، ليحمل الدار بين جنباته كثير من الذكريات، آمال وآلام، أحلام وأوجاع، محطات وطنية قومية وعربية، لا يمكن إغفالها من تاريخنا الحديث، إنها فترات طويلة عشناها وعاشها أجدادانا، وهم يتطلعون للمعلومة والمعرفة من خلال هذه المنصات التى أضحت عبر عقود متتالية تفى بالعهد تجاه قرائها، من خلال إصدارات متنوعة، كل منها له هويته وشخصيته المتفردة، لكن الهدف من جميعهم واحد للوعى والتثقيف واستنارة العقول، لقد عاش جيلى والأجيال السابقة لنا على هذه الروافد الثقافية والخبرية الملهمة ولا تزال تمنح حياتنا الثقافية مهلاً للتنوير.
المصداقية وتشكيل الهوية
ومع مرور الزمن اتسعت مداركى لأرى بأم عينى، بل وأشارك فى كثير من الفعاليات، لنتأكد أن دور دار الهلال لم يقتصر على الكتابات الصحفية ونشر الأخبار، وإنما الندوات الثقافية التى استضافت كبار الشخصيات الفنية والأدبية والنقدية على مستوى مصر والوطن العربى على مدار هذه السنوات الطويلة، ما شكل بناء حقيقياً للوعى والهوية، وتغيير لبعض الثقافات المترسخة بالانفتاح على أفكار وفلسفات لعقول اتسعت ونضخت فأفرزت خبراتها لأجيال فى حاجة لتلك الثقافة العامة والمعرفة والمعلومة المدققة، وخاصة فى ظل السماوات المفتوحة، وغياب الدقة والتوثيق، ما يجعل لمثل هذه الدار بكل ما تقدمه من إصدارات وندوات، تستنبط مصداقيتها عبر تاريخها المتجذر فى الشخصية المصرية والعربية تراكمياً وليس باعتبارها لسان حال الراهن فقط، ما يمنحها صك ضمان كشهادة أمان لجموع القراء.
حلم الطفولة.. وأول زيارة
ولا يمكن أن أنسى أولى زياراتى لهذه المؤسسة وكذا مشاركاتى الأولية بها والتى خلقت منى مزيجاً بين ماضىَّ المتجذر فى وجدانى، وحاضرى الذى وصلت إليه من الشهادات والعلم الذى اقتادنى للكتابة والمشاركة تلك. وأتذكر حين نظرت إلى عظمة بناء هذه المؤسسة، باتساعها، واسترجعت السنوات الأولى وأنا أشاهد المبنى العريق عن بعد، لأقترب وأتفحص بنظراتى بمنتهى التأمل والحنين، لأجده مثل أبنية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين التى تتسم بالجدران الشاهقة والمنافذ الكبيرة العالية، والسلم الرخام فى واجهة بوابة الدخول التى تشعرك بقيمة المكان، وروعة الزمان المتراكم، والتماثيل التى تتزين بها أركان المبنى، وحتى المصعد الحديدى الذى يؤثرك لماضى عتيد فنسترجع قصور أجدادنا التراثية. وحين تمر فى قاعاته، وبهو المبنى يسترق قلبك بالشوق والاشتياق لأناس شكلت كتاباتهم وإبداعاتهم، روافد حقيقية للمعرفة، فتتناسى برهة من الزمن، أأنت بين عراقة الماضى، وتلك الذكريات التاريخية!! أم بين حاضر نغزله جميعاً بضمير يقظ!! أم أن هناك رسالة نحملها فى أعناقنا لاستمرار هذا العطاء الثقافى لمستقبل لا نعرفه، سيكون بين أيادى أبنائنا وأحفادنا فى غضون سنوات ليست ببعيدة، لكن صناعته هى واجب يحتم علينا جميعاً أن نفكر فى تشكله على النحو الأكمل!!
مولودى الأول عن دار الهلال..
ظلت تلك الدار تحمل فى نفسى الكثير، ولم يكن تشبعى منذ الطفولة بإصداراتها هو ما يجعلنى أنحاز لها دوماً، وإنما ما هالنى حباً بل وسعادة وفخراً، حين تتصدر صورى بعض صفحاتها القيمة أو يكتب عنى أحد كتابها الأجلاء، واستمر الوضع كذلك حتى عام 2012، والذى أعتبره عاماً مفصلياً لانضمامى لأسرة هذه الدار الأبية، حيث بدأت كتاباتى المتعددة فى إصداراتها الكواكب، والهلال، وسمير. منحتنى هذه الدار خبرات متواصلة، وعلاقات إنسانية توغلت داخلى بصداقات أعتز بها وتحيا فى وجدانى بإخلاص وحنين بالغ. كانت الاثنى عشر سنة الأخيرة فى علاقتى بدار الهلال تمثل الثمرة التى أفرزتها هذه السنوات الطويلة حتى أينعت فى محراب قدسيتها التى تشكلت فى تكوينى، وأضحت كياناً لصيقاً بذاتى لا يمكن انفصاله، كما كان لها دور فى نبتة أول كتبى "غذاء الروح.. إبحار فى الموسيقى الكلاسيكية" والذى صدر عن هذه الدار باعتباره مولودى الأول فى مجال الثقافة والكتابة.
كتيبة إنسانية ملهمة
وفى الواقع لا أبالغ إذا اعتبرت نفسى واحدة من هذه الكتيبة الصحفية الوطنية الملهمة، وإن كنت لم أدرس الصحافة، أو أمتهنها، لكننى بحكم تخصصى النقدى أمارس الكتابة التى أحببتها، وأتشرف أن أكون بين أقلام نبضت بحب مصر، أجيال متعاقبة جيلاً بعد جيل، شباب يحلمون بصنع مستقبل لوطن يستحق، بدافع الحب والغيرة والاقتداء بقامات حملت تاريخه على عاتقها فى لحظات فارقة من عمر هذا البلد، شغلهم أوضاعه وآماله، معارك خاضوها بإيمان المهنة وعشق الوطن، أيام وليالى تجسدت عبر صفحات إصدارات ترتقى بوعى القارئ، صادقت واقتربت من شخصيات كثيرة، تعلمت واستفدت، تبادلنا المعلومة والخبر، وتناقلنا مشاعر إنسانية حكمت علينا بالبقاء الحسى، فى عصر اتسم بالسرعة والمادية، إلا أننى وبكل صدق، أحببت تلك الدار بمن فيها، وسأظل أحمل أرقى المشاعر مع كثيرين منها ينتمون إليها بحبهم، لذا كان لمشاركاتى تلك عميق الأثر فى نفسى منذ أكثر من عقد من الزمان يمثل ربع عمرى الذى أحياه وأنا أكتب على صفحات مجلات الكواكب وحواء والهلال، وحتى مجلة سمير التى نشأت على قصصها منذ صغرى، فكنت أكتب قصصاً لأطفالها وروادها ممن سعدت بمقابلتهم مع الدكتورة العزيزة شهيرة خليل رئيسة التحرير، والتى حرصت على تلبية دعوتها لأبنائى فى سنواتهم الأولى ليكونوا ضمن رواد تلك المجلة، فحاولت أن أغرس داخلهم حب القراءة، وولاءهم لتلك الدار التى أحببتها سيراً على نهج والدىَّ الذَين تركا فىَّ عظيم الأثر.
مركز التراث وصون الذاكرة التاريخية
ولا يفوتنى أن أذكر قيمة مركز الهلال للتراث والذى أدركته من خلال الصديق العزيز الأستاذ أشرف غريب والذى تولى مسئوليته لعدة سنوات، وهو دائماً الباحث عن التوثيق، فأدركت قيمة ما يحويه المركز من ذاكرة الأمة عبر مراحل تاريخية وتوثيقية وأرشيفية غاية فى الأهمية، يرجع لها ويستحضر تلك الذاكرة كل من يبحث بالمعلومة والوثيقة، سواء ذاكرة مكتوبة أو مصورة، أعلام وقامات، قد لا تجد لهم صورة أو حوار سوى ما تبقى فى هذه الدار العريقة، التى أعُدها منظومة ثقافية وعلمية متكاملة تصون ذاكرتنا الثقافية وهويتنا الحضارية عبر مسيرتها محافظة على بناء الإنسان فكرياً وتنويرياً.
الفضل للمؤسس جُرجى زيدان
لقد حفرت دار الهلال اسمها في وجدان جميع المصريين وإلى الآن رغم اختلاف أعمارهم وأطيافهم وتوجهاتهم لامتلاكها المصداقية، فكانت لسان حال المصريين، بل والعرب، تعبر عن أحلامهم وآمالهم، قضاياهم وهمومهم، ولا يمكن ونحن نحتفى بالعام 132 ألا نذكر صاحب الفضل فى هذا الإرث العظيم الكاتب والمثقف العربى اللبنانى الجنسية العاشق لمصر جرجى زيدان، الذى أسس هذه الدار وأسس أول مجلاتها العريقة مجلة الهلال التى حملت اسم المؤسسة، والذى استطاع أن يجعلها فى فترة وجيزة شعلة تنوير باعتبارها واحدة من أهم المجلات الثقافية العربية فى الوطن العربى، ولا تزال هذه المجلة لها قيمة تاريخية وثقافية نستحضرها بقيمة مؤسسها الراحل العظيم الذى ترك دنيانا فى عام 1914، فلنترحم على هذا الرمز الثقافى المعطاء، بقيمة كل معلومة وكل إفادة استقاها كل طفل وشاب ومواطن مصرى وعربى عاشقاً لوطنه. لقد عمل بكل إخلاص على بناء الإنسان ثقافياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً، رحم الله جرجى زيدان، وكل من يعمل بصدق وإيمان تاركاً بصمة حقيقية فى الوجدان بعيداً عن المذاهب والأديان والأعراق والأجناس، ولتبقى الإنسانية.