رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


التمدن الإسلامي في فكر جرجي زيدان

8-9-2024 | 11:46


محمد سيد إسماعيل ,

وُلِدَ المؤرخ والأديب جورجي زيدان –جرجي زيدان- ببيروت في أسرة فقيرة، تعلم الإنجليزية واللاتينية والعبرية والسريانية، التحق بكلية الطب في المدرسة الأمريكية – الجامعة الأمريكية ببيروت- لمدة عام، ثم هاجر لمصر حيث تولى تحرير جريدة الزمان لمدة عام، بعدها رافق الحملة المصرية للسودان بوصفه مترجما في عام 1884م، وفي 1886م تولى إدارة مجلة المقتطف لمدة عامين، ثم تولى بعد ذلك إدارة مدرسة العبيدية في القاهرة لمدة عامين أيضاً، في أواخر 1892م أصدر «مجلة الهلال» والتي استمرت في إصدار أعدادها حتى عام 1914 حيث الحرب الكبرى الأولى(1914 - 1918)م. كما ألف مؤرخنا العديد من الكتب والروايات التاريخية مثل؛ تاريخ مصر الحديث، تاريخ الماسونية، الانقلاب العثماني، تاريخ العرب قبل الإسلام، وغيره.

كانت هناك عقيدة راسخة في عقل المستشرقين في ذلك الوقت ومن ثم كتاباتهم أن المسلمين والعرب قلما أفادوا العلم والحضارة؛ كون هؤلاء العرب – من وجه نظر المستشرقين- نقلوا العلوم من اليونانيين، ولم يضيفوا إليها شيئاً من حضارتهم. كما أن هناك مجموعة من هؤلاء المستشرقين تجاوزوا في قولهم أن العرب لم يقتصروا فحسب على الأخذ عن اليونانيين، بل قاموا بتشويه ما تم نقله عندما أخذوه دون إعمال النقد والتحليل والتحقيق. بل وإن كان هناك تمدن إسلامي فقد أشاع بعض المستشرقين أن العرب ليس لهم فضل حتى في تمدنهم الإسلامي، وحجتهم في ذلك أن تمدنهم أنشأوه على أنقاض التمدن البيزنطي ثم الفارسى. 

أمام تلك الهجمة الشرسة من قِبل هؤلاء المستشرقين، جاء الرد اللفظي من "جرجي زيدان" بقوله أن العرب ليس في أرومتهم ما يمنع استعدادهم للحضارة، كونهم في ذلك مثل الأشوريين والكلدانيين والفينيقيين، ولهم استعدادهم وأهليتهم، فالذي أقام من العرب في بلاد مثل ما بين النهرين أدهش العالم بمدنيته. كما كان للتجارة دور مهم في حضارة العرب وتمدنهم. بالإضافة إلى اللغة حيث كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الأمم المتمدنة حينها، إذ كانت اللغات السامية يومئذ متقاربة لفظاً ومعنى. وكل ذلك ساعد العرب على ظهور تمدنهم وثمار عقولهم في أعقاب قرن واحد من نشوء دولهم، ففي القرنين الثاني والثالث الهجري ملأوا الأرض علماً وأدباً ومدنية وحضارة.

أما الرد العملي – وهذا هو الأكثر أهمية- فنجد أن مؤرخنا أعلن عزمه الرد على تلك الافتراءات والأكاذيب عن طريق نشر بعض المقالات في مجلة الهلال، لذا أقدم جرجي زيدان على قراءة كتب التاريخ والفتوح والتقاويم؛ مثل مؤلفات المؤرخين والأدباء والجغرافيين كالبلاذري والمسعودي وابن الأثير وابن خَلِّكَان وأبي الفدا وابن خلدون وابن طاطبا والسيوطي والمقريزي من المؤرخين، وابن خرداذبة والأصطخري وياقوت الحموي ، أبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، ناهيك عن كتب التفسير والحديث والفقه والسياسة والخراج.  فضلًا عن المعاجم والفهارس مثل كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وكتاب كشف الظنون لحاجي خليفة. بالإضافة إلى اطلاع مؤرخنا على أكثر من (200 مجلد) من كتابات المستشرقين في الإسلام وتاريخه وآدابه منها ما هو مكتوب بالفرنسية والإنجليزية والألمانية، مثل كتاب جوستاف لوبون الفرنسي في تمدن العرب وكتاب ليبو في تاريخ الدولة الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية ومقالات في المجلة الآسيوية الفرنسية، وكتاب فون كريمر بالألمانية في تاريخ تمدن المشرق، وكتاب مولر الألماني في تاريخ الإسلام في الشرق والغرب، وكتاب ستانلي لين بول الإنجليزي في الدول الإسلامية وكتاب إدوارد جيبون الإنجليزي في اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها وغيرهم. ناهيك عن العديد من القواميس العامة والموسوعات على اختلاف اللغات والموضوعات.

ولما كان البحث في تمدن الأمة يتناول تفاصيل دقيقة وكثيرة في تاريخ الأمة من حيث أرباب الحكم والنظم السياسية والعلم والأدب والأحوال الاقتصادية كالزراعة والصناعة والتجارة، وتأثير ذلك كله على  طبقاتها الاجتماعية، وذلك بالطبع يستلزم وصف عادات الأمة وآدابها الاجتماعية ومناحيها السياسية وإسناد ذلك إلى أسبابه وبواعثه. غير أن النظر في هذا التمدن على هذه الصورة، لا يكون واضحًا وافيًا إلا إذا تقدمه البحث عن حال تلك الأمة في بداوتها، وكيف تدرجت إلى الحضارة وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك، والبحث المشار إليه ضروري خصوصًا في تاريخ التمدن الإسلامي، لأن فيه عواملَ خاصةً به لا وجود لها في تمدن الأمم الأخرى.

لذا يٌحسب لمؤرخنا أنه قبل أن يُقدم على كتابة مثل هذا الكتاب، قام بتهيئة القارئ العربي وذلك بنشر المؤلف العديد من الروايات التاريخية الإسلامية مثل؛ "الانقلاب العثماني، استبداد المماليك، صلاح الدين الأيوبي، الأمين والمأمون، أحمد بن طولون، غادة كربلاء، ... إلخ) بما تحويه من حقائق تاريخية ولكن في سياق الحكاية الغرامية، ولما تهيأت أذهان القارئ العربي وشوقه إلى مطالعة التاريخ الإسلامي. عمد المؤلف إلى تأليف هذا الكتاب. 

جاء كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" – بأجزائه الخمسة- نتاج ما قرأه جرجي زيدان، فكان الجزء الأول عبارة عن مقدمة تمهيدية عن أحوال العرب قبل الإسلام. وأقسامهم وعلاقتهم بالفرس والروم، ثم تطرق إلى نشأة الدولة الإسلامية مع دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وعلاقة الدولة الإسلامية بالفرس والروم واليهود، ثم انتشار الإسلام من مكة للمدينة ونشأة الدولة الإسلامية وانتشار الاسلام في بقاع الجزيرة العربية ثم خارجها فيما بعد حيث فترة الخلفاء الراشدين. ثم يأتي الملك الأموي ثم العباسي وزيادة رقعة الدولة العربية الإسلامية. ثم جاء الحديث عن الدولة الفاطمية وغيرها من الدويلات الحاكمة التي ظهر فيها بعد الخلفاء كل من الملوك والسلاطين والأمراء والأتابكة والدايات و... الخ.  تحدث بعد ذلك رموز وشعارات ومناصب الدولة الإسلامية (الخلافة، الوزارة، ولاية الأعمال، ديوان المال، الجند، بيت المال، البريد، القضاء، ديوان الإنشاء، الحجابة، النقابة، وأخيراً مشيخة الطرق الصوفية. كما تطرق إلى إدارة تلك الدول وكيف نشأت وتشعبت إلى الوظائف المتعددة كالخلافة وما يتبعها والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم ذكرنا تاريخ كل هذه الإدارات والوظائف وما تفرع منها أو ألحق بها، وقد عانينا المشاق الكبرى في استخراج حقائق تلك التواريخ من كتب القوم، فربما قرأنا المجلد الضخم فلا نستفيد إلا فقرة أو فقرتين، وقد لا تتم الحقيقة الواحدة إلا بمطالعة المجلدين أو الثلاثة.

أما الجزء الثاني فجاء موضوعه عن ظواهر التمدن وحقيقته، إذ جاء الحديث عن "ثروة المملكة الإسلامية"، وتم تقسيم ذلك إلى "ثروة الدولة الإسلامية" حيث ثروة الحكومة ورجالها منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - فبني أمية والعباسيين، وإلى "ثروة المملكة الإسلامية"؛ أي ثروة البلاد وأهلها. وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء في مجالسهم وألعابهم واهتمامهم بالعلم والعلماء والشعر والشعراء والدخول عليهم وجلوسهم للناس وقصورهم وبذخهم وركوبهم وضيافتهم وكرمهم والأبنية الإسلامية والمدن الإسلامية، ... إلخ.  في الوقت الذي تطرق فيه الجزء الثالث إلى علوم العرب باعتبار العلم أعظم أركان الحضارة وأقوى أسبابها، فالبحث في علوم الأمة وآدابها من أهم واجبات المؤرخين وخصوصاً في الإسلام، لعلاقة العلوم الإسلامية بأحوال الدولة وسياستها، فجاء الحديث عن العلوم  قبل الإسلام، لأن المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما أنتجته عقول البشر من أول عهد المدنية إلى أيامهم في العقليات والنقليات، ومن هذه العلوم (النجوم، الميثولوجيا، الكهانة، العرافة، الشعر، الأنساب، التاريخ ، ... إلخ).  بالإضافة إلى علوم العرب بعد الإسلام وتم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام (الأول: العلوم الإسلامية، العلوم العربية الجاهلية، العلوم الدخيلة التي نقلت من اللغات الأخرى).

أما الجزء الرابع فقام المؤلف بتسليط الضوء عن بعض سياسات الدولة الإسلامية كانتقال الخلافة من دولة إلى دولة، وتأثير الاختلاف الجنسي أو المذهبي في ذلك. ثم قام بتقسيم تاريخ الإسلام إلى دورين كبيرين: الدور الأول: دور التمدن الذي نحن بصدده، يبتدئ بظهور الإسلام وينتهي بذهاب الدولة العباسية من العراق، وتدهور المملكة الإسلامية وتسلط المغول عليها. أما  الدور الثاني: هو النهضة السياسية التي حدثت بعد ذلك التدهور، بتغلب الدولة العثمانية وإحياء الخلافة الإسلامية، بجمع شتات المسلمين السُّنِّيِّين في ظلها، وظهور الدولة الصفوية الفارسية، وجمع شتات الشيعة تحت رايتها.

أما الجزء الخامس فكان عبارة عن دراسة مستوفاة عن العادات والآداب والتقاليد الاجتماعية حيث مناقب البدو كالعصبية والأنفة والسخاء و.. إلخ. ناهيك عن الموضوعات العمرانية (سواء في المدن أو في القصور كالقصور والمباني في دمشق وبغداد والقاهرة وغرناطة. وكذلك الأحوال العائلية وحضارة المالك ثم أبهة الدولة؛ والتي تطرق فيها المؤلف إلى الحديث على الخلفاء والحكام والملوك من تقشف الخلفاء الراشدين إلى بذخ العباسيين. وأخيراً تطرق المؤلف إلى نظام الاجتماع والذي كان أساسه طبقات العرب قبل الإسلام في جزيرتهم، ثم طبقاتهم بعد الإسلام وما طرأ عليها من التغيير في أيام الراشدين فالأمويين فالعباسيين. ناهيك عن تقسيم الشعوب إلى طبقتين كبيرتين: الخاصة (الخليفة وأهله، وأهل دولته، أرباب البيوتات، أتباع الخاصة: كالجند والخدم) والعامة؛ وهم معظم الأمة (أهل القرى وعامة أهل المدن). ثم ختم الجزء الخامس بجدول به أسماء الكتب التي ذكرت في هوامش الأجزاء الخمسة مع اسم المؤلف وسنة نشر الكتاب ومحل طبعه. وهو ما يمكن تسميته الآن بقائمة المصادر والمراجع.
ختاماً؛

 يمكن القول بأن تاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها،لا تاريخ حروبها وفتوحاتها، لذا فقد كان تاريخ التمدن الإسلامي" عبارة عن فترة انتقالية بين تمدن العصور القديمة وتمدن العصور الحديثة؛ وهو بذلك حلقة من تاريخ تمدن العصور الوسطى، فجاء جرجي زيدان بكتابه "تاريخ التمدن الإسلامي" مدافعاً عن العرب والمسلمين وعن تمدنهم، ومن أهمية هذا الكتاب - بأجزائه الخمسة- افتقار المكتبة العربية إلى مثل هذه المؤلفات. كما أنه لاقى في وقته وقعا خاصا عند أدباء اللغات الأخرى، فأخذوا في نقله كله أو بعضه إلى ألسنتهم، فنقل إلى أهم اللغات العديد من اللغات كالإنجليزية والفرنسية والفارسية والأوردية والتركية.