لا يذكر اسم جرجى زيدان إلا وتذكر معه مجلة «الهلال». والعكس هو الصحيح أيضاً. إنهما رفيقا درب وعمر، ورفيقا نشأة ووظيفة ودور. لكن وحدتهما لا تلغى الطابع الخاص لكل منهما مستقلاً نسبياً عن الآخر.
فلجرجى زيدان مؤسس مجلة «الهلال» تاريخ كان يتكون فى داخل المجلة ثم تجاوزها، وصار يحمل اسمه مستقلاً عنها، حتى وهو يعطيها من روحه ومن عرقه ومن جهده كل ما كان يزيدها قوة ومتعة، ويعطيها الدور الذى صار خليقاً بمجلة ذات وظيفة تنويرية من الدرجة الأولى. لكن المجلة ذاتها ظلت تتطور وتأخذ شخصيتها التى تحمل اسمها تحت قيادة جرجى زيدان وصولاً إلى اثنين كان لى شرف الارتباط بصداقة جميلة معهما هما كامل زهيرى ومصطفى نبيل فى تسعينيات القرن الماضى.
وأشهد أن لمجلة "الهلال" بالذات فضلاً كبيراً علىَّ. فهى كانت فى مطالع أربعينيات القرن الماضى دليلى الأولى إلى المعرفة فى جوانبها المختلفة. إذ كنت مدمناً على قراءة أعدادها بانتظام. ومن خلالها تعرفت إلى كبار أدباء مصر من رواد النهضة الأدبية والفكرية. وسرعان ما انضمت إليها مجلة "الكاتب المصرى" فى النصف الثانى من الأربعينيات. ومن خلال مجلة "الهلال" بالذات تعرفت فيمن تعرفت إليهم جرجى زيدان الذى تابعت بشغف قراءة رواياته التاريخية التى عرفتنى إلى جانب مضيء من تاريخنا العربى العريق.
لم أكن أعرف وأنا أتابع مجلة "الهلال" وأتعلم منها أن مؤسسها جرجى زيدان هو لبنانى الولادة ومصرى الهوى والنشاط والإبداع. كانت المجلة بالنسبة إلىَّ أحد مصادر حبى لمصر، وأحد مصادر معرفتى بها وبتاريخها. ومنذ ذلك التاريخ بالذات ولد فى وجدانى الحب لمصر الذى هو أحد عناصر اعتزازى بها وبشعبها، وبالدور الذى ننتظر بفرح وأمل وقلق عودتها السريعة إليه.
ولأن "الهلال" لا تعرف من دون جرجى زيدان، ولا يعرف هو من دونها، فإنى معنى فى هذه القراءة لتاريخهما أن أتوقف عند ما يعنيه بالنسبة إلىَّ! الدور الذى اضطلع به جرجى زيدان بواسطة المجلة ذاتها وبواسطة نتاجه الثقافى المتعدد الجوانب.
لقد قرأت الكثير سابقاً، وأنا أقرأ اليوم الكثير مما كتب عن كليهما. وقد أهدانى ذات عام كل من صديقى كامل زهيرى ومصطفى نبيل أعداداً قديمة أعيد نشرها من المجلة. وتشير هذه الأعداد إلى رقى فى العمل الصحفى منذ ذلك التاريخ وإلى براعة ومعرفة مستقاة مما كانت قد اغتنت به المؤسسات العلمية فى أوروبا على وجه التحديد. ومن هنا أهمية الدور الريادى الذى اضطلع به اللبنانيون الذين هاجروا منذ وقت مبكر إلى مصر وأسسوا الصحف والمجلات التى لعبت وما تزال تلعب أدوراً مهمة فى مصر وفى العالم العربى.
فمن هو جرجى زيدان وكيف تكونت شخصيته بالتدريج ليصبح حامل هذا التاريخ الرائع؟.
ولد جرجى زيدان فى بيروت فى عام 1861 لأسرة مسيحية فقيرة، كان عائلها رجلاً أمياً يملك مطعماً صغيراً كان يرتاده بعض أهل الأدب واللغة والعديد من طلاب الكلية الإنجيلية (الجامعة الأميركية). ولما بلغ جرجى الخامسة من عمره أرسله والده إلى مدرسة متواضعة ليتعلم القراءة والكتابة والحساب، الأمر الذى يمكنه من مساعدة والده فى إدارة المطعم وضبط حساباته.
ثم التحق بمدرسة لتعلم الفرنسية، ثم تركها بعد فترة والتحق بمدرسة مسائية تعلم فيها الإنجليزية. لم ينتظم جرجى فى المدارس. فتركها جميعها الواحدة تلو الأخرى ليلتحق بمطعم والده. إلا أن والدته سارعت إلى إخراجه من المطعم وأرسلته لتعلم صناعة الأحذية، وكان فى الثانية عشرة. ولم يقض سوى عامين فى تعلم تلك المهنة. إذ اضطر للتخلى عنها لعدم ملاءمتها لصحته.
إلا أن تنقله فى أعماله تلك لم تشغله عن القراءة. فقد كان يبدى ميلاً قوياً إلى المعرفة والشعف بالأدب على وجه الخصوص. وتوثقت صلته بعدد كبير من المتخرجين من الكلية الأميركية من أهل اللغة والأدب من أمثال يعقوب صروف الذين كانوا يدعونه إلى المشاركة فى احتفالات الكلية. فترك العمل نهائياً. وانكب على التحصيل والمطالعة. ثم التحق بكلية الطب بعد اجتيازه بعض المواد العلمية التى عكف على تعلمها خلال ثلاثة أشهر.
إلا أنه لم يبق سوى عام واحد فى كلية الطب وانتقل إلى كلية الصيدلة. وقبل أن ينهى دراسته فى كلية الصيدلة قرر السفر إلى القاهرة لمتابعة دراسته فى كلياتها. ولم يكن معه ما يكفى نفقات السفر، فاقترض من جار له ستة جنيهات على أن يردها حينما تتيسر له الأحوال. ولدى وصوله إلى القاهرة فى عام 1883 صرف النظر عن الالتحاق بكلية الطب لطول مدة الدراسة. وأخذ يبحث عن عمل يتفق مع ميوله. فعمل محرراً فى صحيفة "الزمان" اليومية التى كان يملكها ويديرها رجل أرمنى الأصل يدعى علسكان صرافيان. كانت صحيفة "الزمان" الجريدة اليومية الوحيدة فى القاهرة بعد أن عطل الاحتلال الإنجليزى صحافة ذلك الزمن.
فى بيروت انضم جرجى إلى المجمع العلمى الشرقى الذى كان قد أنشئ فى عام 1882 للبحث فى العلوم والصناعات والإفادة منها بما يعود على البلاد بالنفع والخير. وتعلم اللغتين العبرية والسريانية. وأصدر فى عام 1886 أول كتبه "فلسفة اللغة العربية". وأعاد طبعة منقحاً ومعدلاً فى صيغة جديدة فى عام 1904 تحت عنوان "تاريخ اللغة العربية".
وصوله إلى القاهرة
استقر جرجى زيدان فى القاهرة وتولى عقب عودته من لندن إدارة مجلة "المقتطف". وظل يمارس عمله فيها عاماً ونصف العام. انتقل بعد ذلك إلى تدريس اللغة العربية فى المدرسة "العبيدية الكبرى" لمدة عامين. ثم تركها ليشترك فى عام 1891 مع نجيب مترى فى إنشاء مطبعة. إلا أن الشراكة بينهما لم تدم سوى عام واحد. واحتفظ جرجى زيدان بالمطبعة لنفسه وأسماها مطبعة "الهلال" وأتبعها بإصدار مجلة "الهلال" فى عام 1892. وكان يقوم بتحريرها بنفسه إلى أن كبر ولده إميل وصار يساعده فى تحريرها.
كان جرجى زيدان متمكناً من اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية. وكان واسع الاطلاع بهما لا سيما ما يتصل بالتاريخ وبالأدب العربيين. فأصدر فى عام 1889 كتاب "تاريخ مصر الحديثة" فى مجلدين، وهو كتاب يوجز فيه تاريخ قارتى آسيا وإفريقيا. ثم توالت كتبه التاريخية فأصدر الكتب التالية: "تاريخ إنجلترا" و"تاريخ اليونان" و"تاريخ الرومان" و"جغرافية مصر" وغيرها. إلا أن هذه الكتب لم تلفت إليه الأنظار ولم تلق نجاحاً يذكر إلى أن أنشأ مجلة "الهلال" التى ارتبطت حياته بها ارتباطاً وثيقاً.
الهلال لأول مرة
صدر العدد الأول من مجلة "الهلال" فى عام 1892. وكتب افتتاحية العدد الأول ليوضح فيها خطته وغايته من إصدار المجلة. وقد عكف على تحريرها بنشاط لفت إليه الأنظار. وكان ينشر فيها كتبه فى شكل فصول. وقد لقيت تلك الكتب قبولاً لدى القراء. ولم يكد يمضى على صدورها خمسة أعوام حتى أصبحت من أوسع المجلات انتشاراً. وكان يكتب فيها كبار أهل الفكر والأدب فى مصر وفى العالم العربى. وتوالى على رئاسة تحريرها كبار الكتاب والأدباء.
إلا أن جرجى زيدان قد اشتهر، إلى جانب عمله فى المجلة وإلى جانب كتاباته فى اللغة وفى تاريخ العالم، برواياته التاريخية التى بدأها برواية "المملوك الشارد" فى عام 1891. ثم تتابعت رواياته حتى بلغت اثنتين وعشرين رواية تاريخية، منها سبع عشرة رواية تعالج فترات من التاريخ الإسلامى، تمتد من الفتح الإسلامى إلى دولة المماليك أذكر منها "أرمانوسة المصرية" و"غادة كربلاء" و"فتح الأندلس" و"العباسة أخت الرشيد" و"الأمين والمأمون" و"شجرة الدر" و"استبداد المماليك". ويعتبر كتاب "تاريخ التمدن الإسلامى" الذى صدر فى خمسة أجزاء بين عامى 1902 و1906 من أهم كتبه.
خاض جرجى زيدان على صفحات مجلة "الهلال" وخارجها معارك عديدة وتعرض للهجوم بسبب ما جاء فى بعض كتبه وكتاباته من آراء ومواقف. وكان أكثرها إيلاماً بالنسبة إليه ما تعرض له بسبب كتابه "تاريخ التمدن الإسلامى" الذى كان قد اعتمده فى التدريس فى الجامعة. إذ قامت حملة ضده من قبل الإسلاميين مطالبة بمنعه من تدريس تاريخ الإسلام بسبب انتمائه إلى الدين المسيحى.
أول من نادت بالمساواة بين الرجل والمرأة
ودارت على صفحات "الهلال" مناقشات واسعة حول حقوق المرأة وحريتها، وهى أول من نادت بالمساواة ودعت إلى رفع الظلم عنها.
لم يترك جرجى زيدان فى قيادته لمجلة "الهلال" أى موضوع من المواضيع التى كانت مدار سجال ونقاش فى مصر وفى العالم العربى وفى العالم إلا وأفرد له فى المجلة ما يستحقه من الاهتمام. فنشر الكثير مما كان يرد إليه من الكُتَّاب بشأنها، فضلاً عن ترجمة المقالات التى كانت تشير إلى تلك القضايا. وكان من بين تلك القضايا قضية الاشتراكية التى أفرد لها زيدان صفحات عدة تضمنت مقالات لكُتاب مصريين وترجمات لمقالات كتبها من كانوا يدافعون عن الاشتراكية أو كانوا ينتقدونها.
إذ كان يهدف من نشر تلك المقالات نشر الوعى لدى القراء بالقضايا التى هى مدار نقاشات فى مصر. وهكذا تقوم مجلة "الهلال" بالدور الذى قامت به فى عهد قيادة جرجى زيدان لها وفى العهود اللاحقة قد شكلت مدرسة بكل المعانى، ومركزاً من أهم مراكز تعميم المعارف فى المجتمع المصرى وفى المجتمع العربى. ساعدها فى دورها ذاك كونها كنت منتشرة فى كل البلدان العربية.
التوأمان
جرجى زيدان ومجلة "الهلال" توأمان لا يمكن الحديث عن أى منهما بمعزل عن الآخر. وهكذا يكون لجرجى زيدان مؤسس هذه المجلة العظيمة الشأن فضل على القارئ العربى فى نشر العلم والمعرفة، ليس عبر مجلة "الهلال" وحسب، بل عبر كتبه التى كانت مدرسة مكملة لمدرسة "الهلال".
كان إميل فى الحادية والعشرين من عمره عند وفاة أبيه. ولد فى القاهرة تلقى دروسه فى مدارس الفرير. وبعدما نال البكالوريا أرسله أبوه إلى الجامعة الأمريكية فى بيروت. وفور تخرجه عاد إلى القاهرة ليساعد أباه الذى ما لبث أن توفى وترك الدار بين يديه.
تولى إميل إدارة المجلة وأعان أخاه الأصغر شكرى على استكمال دراسته. وفى عام 1924 أصدر مجلة "المصور" سياسة أسبوعية مصورة. وأصدر فى السنة التالية مجلتا "كل شيء، والدنيا" أسبوعية أدبية اجتماعية منوعة، واستمرت فى الصدور حتى عام 1939. ثم أصدر "الفكاهة" فى عام 1926 و"الدنيا المصورة" فى عام 1929 و"الأبطال" فى عام 1932. وفى عام 1934 صدرت مجلة "الإثنين" التى تولى مصطفى أمين رئاسة تحريرها.
وفى عام 1949 أصدرا العدد الأول من سلسلة "روايات الهلال" الشهرية. وفى العام ذاته صدرت مجلة "الكواكب" فنية أسبوعية تعنى بشئون السينما والمسرح والغناء والفنون عامة وفى عام 1951 بدأ نشر كتاب الهلال شهرياً، ما أفسح فى المجال للعديد من الكتاب المصريين والعرب لنشر إبداعهم فيه. وفى عام 1953 صدرت مجلة "حواء" النسائية الأسبوعية وتولت أمينة السعيد رئاسة تحريرها. ثم صدرت مجلة "سمير" للأطفال فى عام 1956.
وهكذا أصبحت دار الهلال التى أُنشئت فى الفجالة، ثم نُقِلت إلى السيدة زينب فى مقرها الحالى إحدى علامات الصحافة المُتخصِّصة فى الوطن العربى كله.