ظهر الهلال في سماء الثقافة العربية والأدب العربي في مصر على يد رائد الرواية التاريخية جرجي زيدان (14 من ديسمبر 1861ـ21من يوليو 1914) ، هذا الشاب الذي أعدّه القدر ليكون رائدا في مجال الصحافة، ورائدا في مجال الرواية التاريخية؛ فقد مال منذ بداية حياته إلى القراءة وحب الأدب والثقافة؛ فانجب إلى سماع القصص الشعبي من الحكواتي، وممن حوله، وأتاحتْ له نشأته في لبنان رؤية أعلام الفكر والنهضة الفكرية والثقافية والأدبية الحديثة آنذاك من أمثال: إبراهيم اليازجي، أو اليازجيين، وعبد الله البستاني، وذلك في المطعم الذي يملكه أبوه، فأتاح له ذلك الاقتراب من المفكرين وزعماء النهضة الأدبية الحديثة أن ينهل من معينهم، ويفيد من علمهم، ومكّنه انتظامه في جمعية (شمس البرّ) الأدبية التي أنشئتْ في بيروت سنة 1869، واختلاطه بأعضائها طلبة الكلية الأمريكية من الإصرار على الالتحاق بها في مدرسة الطب، ثم انصرف عن دراسة الطب إلى إتمام دراسة الصيدلة، ودراسة اللاتينية، وانتسب إلى الماسونية، مثل كثيرين غرّر بهم في عصره. بل ألّف كتابا عنها، ثم شاء القدر أن يهاجر إلى مصر سنة 1883، ضمن أفراد الموجة الثانية من المهاجرين الشوام؛ وذلك فرارا من ممارسات السلطان العثماني، منضما إلى الموجة الأولى ممن أسسوا النهضة الصحفية والسياسية، وهنا بدأتْ تجليات الصحافة؛ فحين هبط مصر عمل محررا في صحيفة الزمان اليومية لصاحبها "علكسان صرافيان" سنة 1884، وعمل مترجما في قلم المخابرات البريطاني، ورافق الحملة الإنجليزية النيلية إلى السودان سنة 1884، وأنعم عليه بالميدالية الإنجليزية، والنجمة المصرية، ولما عادت الحملة إلى مصر سنة 1885سافر إلى بيروت فتعلم السريانية، واختير عضوا بالمجمع العلمي الشرقي، وزار لندن سنة 1886، فنمتْ ثقافته وتنوعتْ، مترددا على المتحف البريطاني والمكتبات والمجامع العلمية هناك، وفي نطاق شغفه بالرحلة عاد إلى مصر في شتاء العام نفسه فتولى إدارة أعمال صحيفة المقتطف 1986حتى استقال منها سنة 1888؛ ليشتغل بالثقافة وقراءة التراث العربي والغربي، وليواصل الكتابة والتأليف، ثم عمل بالتدريس، كما تابع إسهامات المستشرقين ونشاطهم، وفي عام 1891 أنشأ (مطبعة التأليف) مع مواطنه اللبناني نجيب متري،ولما انفضتْ الشركة بينهما احتفظ بالمطبعة
وأسماها (مطبعة الهلال)، وهنا، وفي عام 1892 أصدر العدد الأول من مجلة الهلال في الأول من شهر سبتمبر 1892، وتكوّن العدد الأول من 32 صفحة، وما لبث عدد الصفحات أن تتضاعف حتى تخطى المائتيْ صفحة وقام على تحريرها، وتولى الإجابة على أسئلة القراء، قام بذلك كله في معاناة في أجواء سياسية ووطنية خطيرة، حيث كانت مصر تحت سيطرة الاحتلال البريطاني، وفي وقت تعطلتْ فيه الصحف الوطنية، وتوقفتْ عن الصدور كاللطائف المصوّرة لعبد الله النديم، والمفيد للشمسي، وغيرهما، كما تحولتْ الوقائع المصرية إلى نشرة رسمية فحسب، وظل جرجي زيدان راعيا لنجم الهلال في سماء الثقافة العربية الحديثة حتى فارق الحياة بين أوراقه في شهر يوليو 1914.
ونشطتْ الهلال وذاع صيتها، وصارت منبرا للكلمة والثقافة والحداثة، تتناول قضايا الأدب والثقافة، وفيما بين سنوات 1932 و1942 أصدرت الهلال 18 عددا خاصا حول موضوعات محددة؛ فأصدرتْ عددا خاصا في الأول من فبراير سنة 1966 عن طه حسين، وجزءا خاصا عنه أيضا في أبريل 1975، وأعدادا خاصة عن كبار الأدباء من أمثال: عباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وأمير الشعراء أحمد شوقي، ونجيب محفوظ، وغيرهم ، كما أصدرت عددا ممتازا بمناسبة مرور 60 عاما على عملها بالثقافة وذلك في يناير 1953، وأصدرتْ العدد الذهبي سنة 1942 مؤرخا لخمسين عاما من تاريخها الحافل، وظهر العدد الماسي في يناير 1967، وأرخ العدد الصادر في يناير 1991 لتاريخها عبْر 99 عاما.
وأقبل كبار المفكرين والكتّاب على الهلال، فكتب فيها مشاهير العصر، وكان من أوائل كتّابها: طه حسين، والعقاد، ومحمد عوض محمد، وعبد العزيز البشري، وزكي مبارك، وعبد الرحمن شكري، وزكي طليمات، ومحمود تيمور، وشوقي ضيف، وشكري عياد، ورجاء النقاش، وغيرهم ممن يطول حصره.
وقد ارتبطتْ الهلال ـ كسائر الصحافة والمطبوعات ـ بالمطبعة وظهورها وانتشارها بمصر منذ أنشأ محمد علي مطبعة، قامت على أنقاض المطبعة الفرنسية، التي كانت بواكير منشوراتها في نشرة عربية نشرتها الحملة الفرنسية سنة 1799، ويمكن القول إن محمد علي أنشأ المطبعة إنشاء، وطورها تطويرا فيما بين سنة 1819، وسنة 1930.
ارتبطتْ نهضة الفنون الأدبية بالصحافة، وهكذا كان حال الهلال؛ فكما نشر محمد حسين هيكل روايته الرائدة (زينب) بجريدته السياسة الأسبوعية، نشر طه حسين كتابه الشهير ( الأيام ) في مجلة الهلال، وأسهمت مجلة الهلال مع شقيقاتها المجلات الأخرى في نهضة الفنون الأدبية، ومنها فن الشعر فكتب أنطون الجميل عن ديوان خليل مطران في عدد يونيو 1908، وخصص الهلال الجزء العاشر كله من السنة الرابعة والأربعين الصادر في أول أغسطس سنة 1936 عن الشاعر أبي نواس، ومثل ذلك في أعداد أخرى، وحمل هلال أكتوبر 1957 ذكرى مرور 25 عاما على رحيل أمير الشعراء أحمد شوقي، ومثل ذلك مع أدباء آخرين، ومثلما أسهمت الصحافة الأدبية ـ ومنها الهلال ـ في النهضة الأدبية أسهمتْ في النهضة اللغوية، فتبارى علماء اللغة في الكتابة فيها، وأطلّتْ الحداثة من خلال نوافذ الصحافة، وقامت الهلال بدور بارز في تلك المجالات جميعها، ولا يزال الهلال نجما ساطعا في سماء الثقافة العربية حتى الآن.