فى العريش .. أكثر من أسبوع آلام إرهابى
بقلم: خالد عكاشة
يمكن أن نرجع الاستهداف الممنهج للأخوة المسيحيين فى مدينة العريش، إلى المقطع المصور الذى بثه «تنظيم داعش» مؤكدا فيه مسئوليته عن عملية تفجير الكنيسة البطرسية، حيث احتوى هذا المقطع ما يمكن اعتباره بيانا للتنظيم حرض فيه بصورة مباشرة على استهداف المسيحيين، وهذا النوع من التحريض لا يكون عشوائيا ولا يتم استقباله عفويا بالمطلق، فهو فى جانب رئيسى منه تكليف مباشر من قيادة التنظيم إلى عناصره، ليس قاصرا على مصر وحدها أو سيناء بالأخص، إنما هى تتوجه بهذا التكليف لكافة عناصر التنظيم الهائمة فى كافة دول العالم التى استطاعوا الوصول إليها أو التواجد فيها. تماما كما قام التنظيم فى منتصف العام ٢٠١٥م بالإشارة إلى ضرورة استهداف الدول الأوربية التى شاركت فى تحالف الحرب على الإرهاب حينئذ، فإذا بالدول «فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، الولايات المتحدة» تسجل أعلى نسبة عددية لعمليات إرهابية تقع على أراضيها، نفذتها خلايا نائمة تم زرعها مسبقا فى تلك الدول أو بواسطة ظاهرة الذئاب المنفردة التى ظلت حديث أوربا بكاملها طوال عامى ٢٠١٥م و٢٠١٦م.
لذلك كان من المفترض أن تلتقط الأجهزة الأمنية الإشارة الواردة فى المقطع الذى تم بثه باعتباره سيناريو الاستهداف القادم، لكن يبدو أن هذا لم يحدث بالقدر المطلوب أو أنه انصب على التكثيف الأمنى حول دور العبادة، باعتبار حادث البطرسية هو الحدث الأبرز فى هذا المقطع المصور، فى الوقت الذى كانت شمال سيناء على موعد مع أسبوع معقد بالحزن والألم خاصة فى مدينة العريش. سيناريو التهديدات كان منطقيا أن يضع فى اعتباره أن النجاحات التى تتحقق فى الحملة العسكرية على منطقة «جبل الحلال»، لن يكون هناك مجال للرد عليها من قبل التنظيم الإرهابى سوى باختيار هدف غير متوقع فضلا أن يكون أكثر إيلاما، وهذا ما أمكن توافره داخل مدينة العريش باستهداف المدنيين بعمليات اغتيال منتظم والتركيز على المسيحيين من أبناء المدينة، حتى يمكن وصف تلك العمليات فى حال النجاح فى تكرارها بأنها موجة ستطال الجميع منهم. المدنيون عادة هم أكثر ما يمكن اعتبارهم مصدرا للقلق والإحباط فى حال إصابتهم جراء عمل إرهابي، فهم الهدف السهل الموجود فى المناطق الرخوة بالشوارع وفى بيوتهم وأعمالهم ويتنقلون بين تلك النقاط بحرية مفترضة وبشكل عشوائى يصعب ضبطه من الناحية الأمنية. فى ذات الوقت الذى يشكلون المهمة الأصعب لدى أجهزة الأمن التى تلاحق التنظيمات الإرهابية وتجمع المعلومات وتصل إلى معاقل العديد منهم وتضبط أسلحتهم ومتعلقاتهم المستخدمة فى العمل الإرهابي، وربما تابع الرأى العام خلال الفترة الماضية هذا الجهد المتميز والنجاحات التى مكنت الجميع من الحديث عن استقرار ملحوظ، بدأ ينخفض بمعدل العمليات الإرهابية إلى أدنى مستوياته بالمقارنة بفترات سابقة كان الخطر فيها يتجدد يوميا، لكن بالإشارة إلى الأهداف السهلة نعود بالنماذج الأوربية كدلالة على تعقيد المواجهة فى حالات مشابهة، ففى شوارع مدينة «نيس الفرنسية» على سبيل المثال لم يكن الأمر يحتاج سوى شاحنة يقودها عنصر إرهابي، ليسير بها «داهسا» مواطنين وسياحا يقضون أوقاتهم الطبيعية فيوقع ما يزيد على ٧٠ ضحية فيما لا يتجاوز دقائق معدودة، وفى تكتيك غير متوقع بالنسبة للأمن الفرنسى الذى كان يشهد حينها استنفارا غير مسبوق.
بإلقاء نظرة مدققة على (إيبراشية شمال سيناء) نجدها تضم (٦ كنائس) وعدد (٣ مبان خدمية ملحقة)، هم «كنيسة السيدة العذراء مريم والملاك ميخائيل» وتقع بمدينة العريش كمقر لمطرانية شمال سيناء، ومعها «كنيسة السيدة العذراء مريم وأبى سيفين» و»كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس» حيث مقرهما مدينة العريش أيضا واثنان من المبانى الخدمية، وفى حى المساعيد المجاور لمدينة العريش العاصمة يوجد «كنيسة الشهيد العظيم مارمينا» وأحد المبانى الخدمية التى تقدم إمكانية للإقامة فيه للزائرين من المحافظات الأخرى، وهذا التجمع للمنشآت الدينية فى عاصمة المحافظة تخدم الكتلة الأكبر من المسيحيين الذين يسجلون أعلى تواجد لإقامتهم فى هذه المدينة، ويقتصر ما هو خارج العاصمة على كنيستين «كنيسة العائلة المقدسة» بمدينة رفح شرقا و»كنيسة السيدة العذراء والشهيد أبانوب» بمدينة بئر العبد غربا. وتقدر الأعداد الإجمالية فى محافظة شمال سيناء للمسيحيين بنحو (٦٠٠ أسرة) بإجمالى قد يصل إلى (٢٥٠٠ مواطن) كما أشرنا الغالبية العظمى منهم يقيمون فى العاصمة العريش، وأعداد محدودة تقدر بالعشرات فى كل من رفح وبئر العبد بالنظر إلى أن كلتا المدينتين هما بالأساس مدن صغيرة محدودة السكان بشكل عام، ولا يوجد مسيحيون فى أى من المناطق الأخرى بشمال سيناء نظرا للطبيعة القبلية والعشائرية التى تشغل باقى الأماكن حيث يندر أن يكون هناك سكان من غير أعضاء القبيلة أو العشيرة التى تقطن هذه الأماكن النائية. الذين غادروا مدينة العريش خلال يومى الخميس والجمعة الماضيين وتوجهوا إلى مدينة الاسماعيلية، قدر عددهم بـ (٢٤٦ فردا) تم استقبالهم فى (٤ مواقع تسكين) داخل مدينة الإسماعيلية، بالإضافة إلى (٦ عائلات) وصلت إلى محافظة أسيوط ويقيمون مع أقاربهم بتلك المحافظة، ومثلهم بمحافظة القليوبية (٤ عائلات) بمنطقة عزبة النخل و(٣ عائلات) بمدينة الخصوص.
هذا الخروج المشار إليه لتلك العائلات جاء بشكل طوعى وبقرار تم تداوله بين تلك الأسر بعضها بعضا، ولم يتحدثوا مع أى جهة رسمية أو حتى كنسية فى شأن ترتيب هذا الانتقال المفاجئ، ربما تحت وطأة الخوف الذى انتاب معظمهم جراء توالى العمليات الإرهابية بحقهم خلال أسبوع واحد (٦ ضحايا)، مع وجوب الالتفات إلى أن تنفيذ عمليات الاغتيال جاء بأكبر قدر من أشكال القسوة والترويع لذويهم الذين شاهدوا تلك العمليات، فلم تكن الجرائم فقط بقصد القتل مثلما جرى حرق منزل أسرة بعد قتل مواطن وابنه وترك الأم على قيد الحياة لتقص وتروى فظاعة ما شاهدته، وتكرر المشهد مع قتل رجل ثم العودة للأسرة المكلومة والمصدومة ليقوم الإرهابيين بقتل إحدى بنات الضحية أمام أفراد الباقى من أفراد الأسرة.. لذلك فاستهداف خلق مساحة واسعة من الترويع حاضرة بقوة فى معظم جرائم الإرهابيين، والمعلومات الاستباقية، التى كان مفترضا حضورها لدى أجهزة الأمن يبدو أنها لم تكن فاعلة كى تستطيع توقع مثل تلك العمليات، فرغم صعوبة مواجهتها كونها تتم داخل الكتل السكنية لمدينة العريش، لكن التعاون الواجب من أهالى المدينة غاب هو هو الآخر ليزيد المشهد الأمنى صعوبة وتعقيدا.. وفى هذا يقع لوم كبير على سكان تلك الأحياء من مدينة يفترض أنها تشهد حربا مفتوحة ضد الإرهاب، سؤال الحواضن، التى تؤوى هؤلاء الإرهابيين يدور على ألسنة من غادر ويدور فى عقولنا نحن معهم أين دورهم وموقفهم مما يحدث فى مدينتهم؟
ما لا يمكن إغفاله من مكونات هذا الأسبوع الدامى من حياة مدينة العريش ذات الألف وجه، أن هناك على الجانب الآخر من كان يقف بالمرصاد ينتظر تلك اللحظة كى يستثمرها لصالح أطراف أخرى تقتات على دماء الوطن والمواطن، فالناشط القبطى «مجدى خليل» ومعه مجموعة من أقباط مصريين يعيشون فى الولايات المتحدة ويحملون جنسيتها، لم يدع المشهد المعقد من دون أن يفصح عن وجهه الآخر، حيث دعا على صفحته الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعى، التى يبثها من الولايات المتحدة وعبرها دعا المصريين المقيمين بالولايات المختلفة للتواصل معه، بغرض تنظيم تظاهرة أمام البيت الأبيض بالعاصمة واشنطن أثناء زيارة الرئيس المصرى المرتقبة إلى هناك، وإطلاق كل أشكال ودعاوى الإساءة للدولة المصرية وللنظام فى مصر فيما يخص التعامل مع مواطنيها الأقباط. ورغم مساحة الرفض المسيحى الهائل لتلك الدعوة، التى أجهضت من قبل بعض تحركات مماثلة، كان يراد لها الترويج لصورة مسيئة هى غير واقعية على الإطلاق، لكن هؤلاء المرتزقة يحاولون هذه المرة استثمار حالة الفزع لدى الرأى العام العالمى والأمريكى بالخصوص تجاه التهديدات الإرهابية، كى يحاولوا الربط ما بين الإرهاب وما بين استهداف المسيحيين المصريين على اعتبار أنهم هم المستهدفون وحدهم بذلك، وأن الدولة مقصرة فى توفير الحماية اللازمة لهم، فى مغالطة فاضحة للمشهد الكلى للحرب على التهديد الإرهابى، الذى تخوضه مصر لحماية أبنائها جميعا من دون تمييز، فسيناء وحدها ارتوت بدماء الضباط والجنود المسيحيين والمسلمين فى القوات المسلحة والشرطة، ورصاص وسيوف التنظيمات الإرهابية وهى تطال المدنيين لم تستثن أبناء سيناء ولا شيوخ قبائلها ولا المقيمين على أراضيها من أبناء محافظات أخرى.. والذى يضع هذا الاستهداف المفتوح بغرض إيصال رسائل رعب وخوف لكل من يقطن تلك المنطقة، التى يقاتل فيها الإرهاب بشراسة، فرغم كل ما نحمله من إدانة ورفض لأى تهديد يطال مسيحى واحد، لكنه يأتى ضمن حرصنا على أرواح كل المدنيين الأبرياء فى تلك المنطقة الملتهبة.. وهى فى ذلك عنوانا رئيسيا لابد أن تعمل عليه أجهزتنا وقواتنا الموجودة فى سيناء الآن بخطط تأمين بديلة ومستحدثة، وبتقديم كل أشكال الدعم التقنى والتعزيزات المطلوبة من أجل تحقيق انتصار كامل هلى هذا الخطر المعقد، والذى سيضع المدنيين لا محالة فى بؤرة أهداف المراحل القادمة مراهنة من تلك التنظيمات على ما يتسبب الأذى بحقهم من إصابة المجتمع بكامله بدوامة لا تنتهى من الآلام.