رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


مذكرات جرجي زيدان| الفصل الثالث «مجالس أهل الفتوة» (7-2)

11-9-2024 | 15:24


جرجي زيدان

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

هذا هو الفصل الثالث من هذه المذكرات القيمة التي ننشرها لتكون درسا في العصامية لشباب الجيل، وقدوة حسنة للذين يحبون العمل ويميلون إلى الكفاح للوصول إلى المجد، وقد بدأ مؤسس الهلال في هذا الفصل بالحديث عن الآداب العامة في بيروت، وكان قد تناول جانبا منها في الفصل السابق.

 الفصل الثالث: مجالس أهل الفتوة

وكانت هناك مجالس تجمع بين رجال الفتوة وأبناء الهوى أو أحد الفريقين دون الآخر، أعني مجالس الشراب، وقد كانت كثيرة جدا، يشترك فيها العاقل والجاهل، إذ مر على البيروتيين دهر وهم يعتقدون فائدة العرقى قبل الطعام، والنبيل مع الطعام، ويندر من لا يتعاطاهما أو يتعاطى أحدهما، ولا أهمية لمجالس الشراب في موضوعنا، إلا لأن أهله كانوا من أهل الفتوة، الذين إذا دارت الخمر في رؤوسهم عربدوا وصاحوا وتفاخروا.

وكان في جملة الذين عاشرتهم في أثناء تلك الفترة جماعة من هؤلاء، ولم أكن أجالسهم على الشراب، ولكني كنت أشاهدهم وهم يشربون في الحوانيت، وفيهم من يدعى الصحبة، وأنا أحترمه لشهامته وبسالته، أو لتفوقه في شيء من الأشياء، فأحب مجالسته، ولكني لم أكن أقدر على الشرب، وكانت العادة إذا جلس ثلاثة أو أربعة للمعافرة، أن يطلب أحدهم خمسينية، فيأتوه بها، فيصب له ولأصحابه، حتى إذا فرغت طلب الآخر غيرها، والثالث وهكذا، حتى لا يكون لأحدهم على الآخرين فضل، وقد يستأثر أحدهم بالدفع للكل إذا كان وجيها أو ذا فضل، وقلما يعترفون لأحد منهم بذلك، وربما قامت القيامة من أجل السبق في هذا المضمار.

وإذا دارت الخمر في رؤوسهم غنى أحدهم موالا بغداديا، فيتنبهون لمعناه، وقد يؤولونه بشيء أراده منهم إما مدحا وإطراء أو انتقادا وتعريضا، فينبغي للآخر أن يجيب على الموال، هو أو أحد رفاقه، فإذا كان الغناء مدحا انصرفت الجلسة في خير، وإذا كانت انتقادا أو تعريضا تحولت إلى خصام ينتهي باستلال السكاكين أو شهر العصى

فكنت إذا شاهدت مثل هذه الجلسة أحسد أولئك الشبان على بديهتهم في الأجوبة، وأشعر بقصوري عن مجاراتهم في التحمس والصياح بالغناء أو نحوه، لأني لم أكن شاهدت وسطا غير هذا، فأحسب الفضيلة أن يتفوق الإنسان في مثل ذلك

تلك كانت آداب عامة البيروتيين في ذلك الحين، فإن عامتهم كانوا من الجهلاء لقلة المدارس عندهم، ويغلب في أحاديثهم هجر القول والألفاظ البذيئة، ولم يكن ذلك الهجر خاصا بالفقراء والعامة، ولكنه كان يتناول الأغنياء أيضا، فقد كان أهل بيروت يومئد حلقتين: العامة ومنهم الرعاع والصناع وسائر أهل الصنائع الدنيئة والتجارة الصغيرة، والخاصة وهم رجال الحكومة وأهل الثروة، والآداب الاجتماعية كانت واحدة في أساسها من حيث العيشة العائلية، وآداب الحديث والمؤاكلة والمشاربة وموائد الطعام والمسكر وغيرها، فكانت الألفاظ البذيئة غالبة على ألسنة الأغنياء، كما كانت على ألسنة الفقراء، وقس على ذلك المسكرات ونحوها، مع اعتبار التفاوت في الوسائل والأسباب.