يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.
في عددها الصادر 1 سبتمبر 1982، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة بعنوان "الهندية الحمراء" تأليف ابيت كتلر، وترجمة حماد أحمد صبح، تدور القصة حول غرق سائح مجهول الهوية، بعد غرقه يرفض الفندق المقيم فيه استقبال جثته، مما يدفع السيدة داي، إحدى السكان، للتدخل بشكل غير متوقع، تأخذ السيدة داي زمام المبادرة وتحمل الجثة إلى منزلها.
نص القصة
الحقيقة أنها لم تكن تنطوي على قدر كبير من المأساة، إذ أنها لم تستحق من جريدة "مونتريال ستار" أكثر من أربعة أسطر، وذلك بعد يومين من وقوعها، إلا أنها كانت من أكثر الحوادث التي خبرتها المارة، وهذا بفضلل السيدة داي، كنت أغير ملابسي بعد أن انتهيت من السباحة حينما اندفعت أمي نحوي صائحة: حادث غرق! وعندما وقفنا خارج البيت ننعم النظر في الماء، رأينا على البعد عددًا كبيرًا من زوارق التجديف. قالت أمي: إنهم عائدون بالجثة الآن، إنها جثة شخص مقيم بالفندق قرب المحطة.
ولم يكن ثمة من يعرف الغريق الذي كان قد وصل إلى هنا في قطار الظهيرة، وأخبر صاحب الفندق أنه يريد أن يسبح في البحيرة قبل تناول طعام الغداء، فكان أن أخد زورق تجديف ومضى، ولما لم يرجع أرسل صاحب الفندق إليه ابنه الذي وجد الزورق قرب النقطة خاليا إلا من منشفة وحقيبة سفر وساعة يد.
قالت أمي: سنذهب إلى السيدة داي، فهي ستكون ملمة بكل شيء عن الموضوع، وعندما وصلنا إلى بيتها أخبرتنا ابنتها أنها في المحطة، كان ثمة حشد من الناس على الرصيف، فهبطناه لنلقى السيدة داي تتناقش مع ناظر المحطة، فتوقفت عن النقاش لتشرح لنا قائلة: رفض صاحب الفندق إدخال الجثة إلى فندقه، وقد جرى إتصال هاتفي مع والدي الميت في المدينة، وهما قادمان الآن في قطار المساء..
واستطردت السيدة داي شاكية: ليس لهم أن يتركوه على هذه الحال، لياتي أبواه ويجداه هكذا! وعلى مبعدة أقدام قليلة رأينا ما كانت تعنيه: إذ كانت الجثة العارية إلا من بنطال السباحة القصير ملقاة في عربة عفش، وكانت غصص الموت التي عاناها لا تزال واضحة في العينين المحملقتين والفم المتشنج، وبدا أن المنظر الوحشي لحديد العربة الضاغط على لحمه إنما يضاعف من شعور الناظر إليه بالرعب، ومثلما يحدث من الجمهور عند وقوع حادث ما، فإن الناس - وقد سيطر عليهم الشعور بالعجز والاضطراب - راحوا يتساءلون فيما بينهم: لماذا لا يدخله صاحب الفندق إلى فندقه؟ هل أخبروا راعي الأبرشية؟ ألا يستطيع راعي الابرشية أن يتحدث إلى صاحب الفندق؟ ويبدو أن أحدهم قد ذهب إلى راعي الابرشية، إلا أنه - الراعي - لم يظهر.
ورأت أمي الملك " لقب ساخر لإحدى الشخصيات" وسط الجمهور فمضينا إليه، كان يقف جانبا، يرقب المشهد وقد وضع إبهاميه تحت حزامي الكتف لبنطاله.
- قالت له أمي: صاحب الفندق لن يدخل الجثة عنده!
- فعلق الملك قائلا: يمكن لأقاربه أن يقاضوهم على ذلك.
- فقالت أمي بتردد: قد يدخلونه لو ذهبت أنت وقلت لهم ذلك:
- فهز الملك كتفيه وقال: هذا ليس من شأني!
وأخيرا - وفي حال من يأسه - دفع ناظر المحطة العربة إلى مكتب العفش وأمر الجميع بالانصراف، صعدنا التل مبطئين مع السيدة داي قاصدين بيتها، قالت مرارا وتكرارا: ليس لنا أن نترك الفتى على هذه الحال، فيجده أبواه هكذا!، وعندما وصلنا إلى باب بيتها، توقفت فجاة وأعلنت: سأحضره إلى هنا!
- فقالت أمي مشدوهة: لا تحضريه!
- قالت: سأحضره .
فتبعناها عائدين إلى المحطة وقد نومتنا خطتها تنويما مغناطيسيا، هز ناظر المحطة كتفيه وقال لها: خذيه إن شئت! ثم فتح الباب وعاد إلى مكتبه، نظرت السيدة داي للميت ومدت يدها وأغمضت عينيه بقوة، ثم رفعت يدى العربة ودفعتها خارجة بها: فظهر ناظر المحطة مرة أخرى على الرصيف! إن العربة ملك للخط الحديدي، وهو لا يمكنه أن يجعلها تخرج من نطاق هذه الملكية، فنظرت إليه السيدة داي كما لو كانت تريد أن تتذكر محياه، ثم انحنت على الجثة ورفعتها من العربة، فاعترضت عليها أمي قائلة: لا تستطيعين حملها! ثقيلة جدا! فقالت: اذهبي للبيت ياسيدتي! أنا على صواب تام.. فراقبناها مشلولين عن كل كلام أو فعل.
تحركت في بطء تحمل بنى ضخم، بینما رأس الميت وذراعاه تتخبط أسفل ظهرها بصورة مرعبة، وهنا عاود الجمهور التجمع دون أن يتحرك أحد منه لمساعدتها، وعندما وصلت أخيرا إلى باب بيتها بدا عليها أنها تنفست تنفس الراحة.
***
سرنا إلى بيتنا صامتين، ثم ذهبت إلى حجرتي واستلقيت في فراشي أحدق في السقف إلى أن خيم الظلام ولم أسمع صوت دخول أمي إلى حجرتي حتى قالت: سأعود إلى السيدة داي، تأتي معي؟!
لم يكن مفتوحا من بيت السيدة داي - ونحن نصعد إليه في الدرب - إلا الباب الأيسر، وفي الداخل، جرى تحويل حجرة كي الملابس إلى شيء آخر، إذ غطيت المنضدة بملاءة بيضاء وسجى عليها الميت كامل اللباس .
وأني لأذكر الآن كرمشة بنطاله بعد أن سويت ولمعان حذائه الأسود، كانت ذراعاه مضمومتين على صدره، وكان فمه مغلقا، وبدا عليه أنه وسيم إلى حد ما وفي ميعة صباه، وعند رأسه استقر شمعدانان طويلان من النحاس جمّل نورهما باقي الحجرة غارق في الظلال، وكان قد أزيل منها كل الأثاث ما خلا مقاعد المطبخ، وعندما دخلنا، ابتسمت لنا السيدة داي ابتسامة خفيفة، وبدت في الشال الذي يغطي رأسها شبه أرملة عظيمة يلفها الحداد، ولم تعرف حتى اليوم التالي كيف جرى الأمر، وهو أن الفندق رفض اعطاءها ملابس الفريق فهددت بإخبار والديه ليرفعا دعوى ما لم تسلم لها الملابس، وكان أن کوت بدلته ولمعت حذاءة قبل الباسهما له.
وقد مثل قميصه بالنسبة لها مشكلة! فهو لم يكن يملك إلا القميص الذي جاء به من المدينة، وهذا كان متسخا، لذا كان عليها أن تقوم بغسله وكيه، وهذه مهمة بطيئة إلى حد يثير الغضب. أما بخصوص الشمعدانين فقد أرسلت ابنتها أماند إلى راعى الابرشية للحصول عليهما، قالت: قلت لها أن تخبره بأنه في حال رفضه إعطائي بعض الشمعدانات، فإنني سأذهب بنفسي إلى الكنيسة وأسرقها من هناك! إلا أن راعي الابرشية لم يعرهما لها فحسب، بل طلب من مديرة شئون بيته أن تنظفهما أولا، كما أنه أعطاها الشموع البيض.
***
وعندما وصل القطار، ازدحم رصيف المحطة أكثر من ذي قبل، بعد أن سمع المصطافون حول البحيرة بالقصة، ولما أطلت السيدة داي، انفتح عليها طريق عریض صامت، وتوقف القطار فتقدمت منه، وراقب الجمهور الحرس في هدوء وسكون وهو يساعد في نزول امراة متوسطة السن تضع على وجهها منديلا ويتبعها رجل في ملابس المدينة تبدو على سيماء الحيرة، تقدمت منهما السيدة داي في بطء، شبه من يقوم بطقس من الطقوس، فنظرا إليها وفي عيونهما تساؤل، انحنت انحناة خفيفة وبدا صوتها وكأنه آت من مذبح الكنيسة وهي تقول بالفرنسية: ولدكما عندي .
ثم راقبناهم وهم يصعدون الرابية إلى بيتها وقد ارتسمت ظلال اشباحهم الثلاثة إزاء الأضواء المنبعثة من الفندق والدكان، وصل ثلاثتهم إلى الباب المفتوح، وفي الضوء المنبعث من الداخل رأينا رأس المرأة يسقط على كتف زوجها ورأيناه وهو يطوقها بذراعه، وحين دخلت السيدة داي بدا للحظة أن جرمها الضخم قد حجب الضوء كله، ثم أوصد الباب عن العيون المتطلعة.