«عبرنا الهزيمة» .. كان ذلك تعبير «توفيق الحكيم» يوم السادس من أكتوبر 1973، حين نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف الحصين.. وصار ذلك التعبير شعارا لتلك الأيام ولا يزال إلى يومنا هذا.. الحكيم نشر مقالاً تعبيرا بالأهرام، على الصفحة الأولى، بنفس العنوان وهناك أغنية أطلقتها وقتها الفنانة شادية بألحان بليغ حمدى اسمها أيضا «عبرنا الهزيمة».
"عبرنا الهزيمة" .. لم يقل توفيق الحكيم حققنا النصر، ولكن استعمل تعبير "العبور"؛ ليربط بين المعنى المادي المباشر وهو عبور جيشنا قناة السويس والاستقرار على الضفة الشرقية للقناة؛ بالمعنى النفسى والمعنوي وهو عبور الهزيمة.
عبور الهزيمة يرادف النصر؛ لكنه الأهم نفسيا وكذلك وجدانيا والحق أن معنى الهزيمة في الخامس من يونيه 1967 كان قاسيا على الجميع في مصر وفى العالم العربي كله؛ في مصر كان السؤال الكبير بعد يوم 10 يونيه 1967 هو.. لماذا وقعت الهزيمة .. كيف حدث ذلك. أين قوتنا من المسئول..؟! كانت هذه التساؤلات تشغل الجميع بدءا من رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر وصولا إلى أي مواطن في الشارع العام؛ وكان السؤال شاغلا ويمثل هما ثقيلا للكتاب وللمثقفين؛ للثقافة العربية كلها.
سياسيا وعسكريا نعرف ما قام به الرئيس عبد الناصر شخصيا والقائد العام للقوات المسلحة الفريق محمد فوزى والفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان من إعادة بناء القوات المسلحة؛ حتى صارت قادرة على أن تبادر بحرب الاستنزاف ثم بخطة العبور.. والحق أن الإنجاز الذى تحقق في القوات المسلحة يجب أن يدرس بعمق كنموذج لإعادة بناء مؤسسة والنهوض بها لتكون مؤسسة محترفة بالنسبة لدورها وقادرة على مواجهة كل التحديات المطروحة عليها.
للوهلة الأولى بوغت المفكرون والكتاب -مثل كل الشعب- بما جرى يوم الخامس من يونيه؛ وانتابهم الشعور بالذهول وإحساس عميق بالصدمة؛ صحيح أن نجيب محفوظ في روايته "ثرثرة على النيل" الصادرة سنة 1966 أشار إلى كثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي ما كان يجب أن تحدث في ظل ثورة يوليو 1952؛ وكذلك توفيق الحكيم في روايته المسرحية "بنك القلق" ؛ لكن لا يمكن القول إن أي منهما تنبأ بالهزيمة على هذا النحو ولا توقعها؛ من هنا كان السؤال الأول والهم الأكبر هو.. لماذا هزمنا ومن خلال الإجابة سوف نتجاوز ونعبر الهزيمة.
الاستجابة الفكرية كانت اسرع؛ لذا وجدنا العديد من الكتابات الفكرية.. لمفكرين وعلماء الاجتماع والنفس تحاول الوصول إلى فهم ما جرى؛ نعرف جميعا كتاب د. صادق جلال العظم "نقد الفكر الدينى" .. ظهر كتاب د. جمال حمدان "شخصية مصر"؛ نشر في كتاب الهلال عدد يوليو 1967؛ أي بعد الهزيمة بشهر؛ واعتبره كثيرون محاولة في هذا الاتجاه؛ لكن الحقيقة أن الكتاب كان في الأصل مقالات نشر بعضها في مجلة "المجلة" التي كان يرأس تحريرها يحي حقى؛ نشرت الفصول منذ سنة 1962، لكن طريقة جمال حمدان واعتزازه بمصر كان باعثا على التماسك فى تلك اللحظة الفارقة.
روائيا وإبداعيا لا بد أن نتوقف عند نجيب محفوظ؛ لأنه كان يتابع جيدا ما يجرى على أرض الواقع هو صاحب الثرثرة وميرامار وقبلهما اللص والكلاب، الأعمال الثلاثة وكذلك السمان والخريف؛ كانت تحمل نقدا اجتماعيا وسياسيا لكثير مما كان يجرى في مصر الستينيات.. زمن محفوظ ما اعتبره البعض فساد الطبقة الجديدة التي تكونت مع الثورة؛ التناقض بين المبادئ والشعارات المرفوعة وتطبيقها على الواقع؛ مما أدى بالمشير عامر سنة 1966، إلى إصدار أمر باعتقاله وفى اللحظة الأخيرة تدخل الرئيس عبد الناصر وحال دون تنفيذ أمر المشير وعادت القوة المكلفة بالتنفيذ؛ وكانت على بعد خطوات من منزل نجيب على شاطئ النيل بحى العجوزة.
بعد الهزيمة نشر نجيب محفوظ سنة 1969 مجموعتين قصصتين هما "خمارة القط الأسود" و"تحت المظلة"؛ في قصص المجموعتين؛ ميل الأبطال نحو الجانب الصوفى حينا والإغراق في الضياع واليأس أو اللا جدوى فى موقف آخر؛ تأملات ميتافيزيقية في الحياة والموت ومصائر البشر، عبثية الصراع في الحياة.. لكنه في عام 1971 ينتهى من رواية "الكرنك" وفى سنة 1972 يقدم "المرايا".
"الكرنك" نشرت سنة 1974؛ تأخر نشرها بسبب الرقابة؛ وقتها كانت هناك رقابة على الكتب والمطبوعات.. الرواية حول أجواء الهزيمة؛ ما سبقها مباشرة وما بعدها أيضا.
كثيرون؛ خاصة الذين عرفوا الرواية من خلال الفيلم السينمائى المأخوذ عنها ولم يقرأوا نصها؛ يتصورون أن "الكرنك" كانت عن المعتقلات وما يجرى فيها فقط؛ سنوات الستينيات؛ إنها أوسع من ذلك وأعمق.. قبل الهزيمة بفترة؛ نسمع زين العابدين – أحد أبطال الرواية- يقول "عجبت لحال وطنى. إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق؛ يملك القوة والنفوذ؛ يصنع الأشياء من الإبرة حتى الصاروخ؛ يبشر باتجاه إنسانى عظيم؛ ولكن ما بال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة..؟" على هذا النحو وغيره كانت الأحاديث والحوارات طوال الرواية.
بعد الهزيمة بأسبوعين؛ تشير الرواية إلى اثنين من العاملين بالمقهى؛ "مقهى الكرنك" الذى كان يقصده جمع من المثقفين والكتاب والسياسيين، مجموعة من المهمومين بالشأن العام، كان ذلك النموذج من المقاهى منتشرا فى القاهرة.. لكن العاملين هما رمز عموم الناس يقول الراوى عنهما".. يرفضان الهزيمة ويصدقان الراديو ويحلمان بيوم النصر" أما عن السياسيين القدامى؛ يشير الراوى إليهم بالقول.. "أما جماعة الشيوخ فقد ارتدت مع الأيام إلى الماضى".. الماضى لديهم هو ما قبل ثورة 1952؛ ثم الماضى الإسلامى إلى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
تشير الرواية بوضوح إلى انتعاش التيار الذى سيصبح خميرة الإسلام السياسى بعد هزيمة يونيه 1967؛ وانجذاب البعض إلى ذلك المزاج وارتفاع صوت ذلك التيار.
ترصد الرواية الحوار المشتعل بين المثقفين آنذاك وتختلف الأفكار والآراء المطروحة بينهم؛ على هذا النحو؛ رأى يقول "الحرب.. لا سبيل إلا الحرب"؛ رأى آخر يذهب إلى ".. العمل الفدائى ونركز على الدفاع".. موقف ثالث "الحل السياسى ممكن أيضا"؛ لكن رأى رابع يذهب إلى أن "الحل الوحيد الممكن هو ما تفرضه الدول الكبرى مجتمعه ويحدث جدل حول "الحل السلمى" .. على هذا النحو "المفاوضة تعنى التسليم"، لكن الرد يأتى فورا "المفاوضة ضرورة، كل الأمم تتفاوض، حتى أمريكا والصين وروسيا وباكستان والهند"؛ في تلك السنة- 1971- كانت المواجهات العسكرية وقعت بين الهند وباكستان.. وكانت هناك خلافات حادة بين روسيا والاتحاد السوفييتى، والصين، ثم كانت الأزمات الكبرى بين روسيا والولايات المتحدة؛ كما في أزمة "خليج الخنازير" أيام الرئيس كيندى ورئيس الوزراء السوفييتى خروتشوف، كل تلك المواجهات والأزمات انتهت إلى التفاوض ثم السلام.
على هذا النحو كان النقاش والحوار بين المثقفين.. حتى على مستوى القضايا الداخلية؛ إذ أن التفكير في الهزيمة أدى إلى ظهور موقف يقول أن المسألة ترتبط "بالعلم وبالحضارة" .. وسوف نجد رأيا غير مرحب، لنقل يحذر شن حرب الاستنزاف؛ لأنها يمكن أن تستمر إلى مالا نهاية وفى النهاية "استنزاف دائم لنا".. على المستوى الداخلى؛ هناك رأى ينادى بالاشتراكية وآخر بالشيوعية ونالت بالديمقراطية ورابع بالدين " الدين هو كل شيء .. ويثور الخلاف "لنبدأ الحرب ثم نتفرغ للإصلاح"؛ في مقابل "بل نبدأ بالإصلاح ثم تتقرر الحلول في المستقبل.
هذا الرصد الدقيق والتكثيف الشديد معروف فى أدب نجيب محفوظ؛ وتمثل الحالة الفكرية والثقافية وقتها.
كان الجديد عما هو سائد حينها ارتفاع نبرة التيار الدينى وكذلك التيار المنادى بالسلام.. على مستوى الواقع يمكن أن تجد الكثير من التطابق بين الرواية وما جرى؛ كان الراحل أحمد بهاء الدين رئيس مجلة المصور ورئيس مجلس إدارة دار الهلال صاحب مقولة أننا نعيش أزمة حضارية في المقام الأول وعلمية كذلك؛ وكان رأى د. طه حسين أنها أزمة عسكرية ولابد من الحرب أولاً لاسترداد الكرامة، أعلن د.
طه رأيه فى حوار معه نشر بمجلة الإذاعة والتليفزيون وفى سنة 1972 صدر ما عرف باسم بيان توفيق الحكيم وكان نجيب محفوظ أحد الموقعين عليه؛ أغضب البيان الرئيس السادات بشدة.. كان البيان يعبر عن السأم الشديد من حالة اللا سلم واللا حرب؛ ويريد الموقعون على البيان من الرئيس أن يحسم الموقف بالحرب أو بالسلم؛ أي أن فكرة السلام؛ كانت مطروحة فعليا على مستوى قطاع التحية السياسية والثقافية.
إذا كان نجيب محفوظ رصد فى روايته "الكرنك" الجدل الثقافي بعد يونيه 1967 وكذلك قبلها؛ فإنه في "المرايا" يقدم لنا مثلا آخر.
"المرايا" تقدم صور او بورترية كامل ل 55 شخصية أحتل بهم في حياته؛ حتى كتابة الرواية سنة 1972؛ وكان طبيعيا في ذلك أن لا تختفى حرب 1967 وتعامل هذه النماذج معها.. وقد قدم لنا عدة حالات، على النحو التالى:
هناك بعض وليس كل الذين أضيروا من ثورة 23 يوليو؛ من خضعت أطيانهم الواسعة لقوانين الإصلاح الزراعى ومن مستهم قرارات يوليو الاشتراكية والتأميمات.. هؤلاء شعروا بشماتة في الثورة ونظامها مع هزيمة يونيو 1967.
هناك أيضا بعض أولئك الانتهازيين الذين سايروا الثورة واستفادوا منها وبها لكنهم في أعماقهم ضد كل ما قامت به؛ هؤلاء أيضا استعدوا لتغيير البوصلة نحو القادم الجديد؛ نموذج هؤلاء في المرايا "سرور عبد الباقى" الذى تخرج من كلية الطب سنة 1936 وكانوا يشكو وهو طالب من غياب العدالة بين الغنى والفقير؛ لكنه حين صار طبيبا ناجحا، لديه ثروة طائلة وصاهر أسرة اقطاعية؛ تغيرت أفكاره؛ وبعد سنة 1952 ساير الثورة؛ وتكشفت الحقيقة؛ يقول الراوى " وشد ما جزعت عندما آنست في نبرته شماتة عقب هزيمة 5 يونية 1967؛ عندما لم يحسن مدارة فرحته بما ظنه النجاة" .
هناك ثالثا نموذج أولئك الذين يمكن تسميتهم بالعدميين؛ لم يزعجهم أن تحتل إسرائيل جزءا من أرض مصر؛ حجتهم أننا من قبل كنا محكومين بالانجليز وقبلهم الأتراك.. وهكذا طوال التاريخ . باختصار لا جديد فيما جرى وليس فيه غريب لديهم.
أيضا يوجد نموذج رابع وكانوا من الشباب؛ الذين يفضلون الهجرة خارج مصر؛ كامل رمزى أحد شخوص المرايا يشخص تلك الحالة بالقول " تغير مفهوم الوطن ومضمونه، لم يعد أرضا ذات حدود معينة ولكنه بيئة روحية تحدها الآراء والمعتقدات .
كانت هذه النماذج تمثل الحالات الاستثنائية والغريبة التي ظهرت أو تبدت بعد الهزيمة؛ وكان ظهورها لافتا؛ لكن المجموع العام كان مع أن نحارب؛ بالأحرى أن "نعبر الهزيمة"، وعند البعض أن "تأخذ بثأرنا" مما جرى في يونيه 1967؛ وهو ما تحقق بالفعل؛ بدأت مصر حرب الاستنزاف؛ التى استمرت ألف يوم ..وكانت اختبارا لقدراتنا ثم وقف إطلاق النار فى صيف سنة 1970، استجابة لمبادرة روجرز ..ودخلنا الاستعداد لمعركة العبور.. وفى السادس من أكتوبر سنة 1973؛ اكتملت الملحمة وتحقق العبور؛ لذا كان تعبير توفيق الحكيم دقيقاً وعميقاً "عبرنا الهزيمة".