د. عبدالواحد النبوي,
لا توجد أمة شهد لها التاريخ بأنها تأبى الهزيمة مثلما شهد للأمة المصرية، ونرى ذلك واضحا وبارزا منذ تاريخ المصري القديم؛ فرفض المصريون وجود الهكسوس على أرضهم، ورفضوا كذلك وجود الفرس واليونانيين والرومان وفي التاريخ الحديث رفضوا الفرنسيون والإنجليز، ولا يعقل أن يقبل بالصهاينة على أرض مصر بعد الذي حدث في 5 يونيو 1967.
عندما حدث ما حدث في الخامس من يونيو 1967 لم يكن يتوقع أكثر المتشائمين ما حدث ولم يكن يخطر ببال كل من يريدون بمصر السوء أن يصل الأمر باحتلال أجزاء من ثلاث دول عربية بل إن قادة العدو نفسه في تصريحاتهم ومذكراتهم ووثائقهم السرية لم تصل طموحاتهم لما حققوه وتآمروا لتنفيذه.
وتوقعت كل الدوائر الغربية دخول مصر في دوامة من الاضطراب وعدم الاستقرار لمدى طويل لأنه كان في اعتقادهم أن ما حدث في الخامس من يونيو سيؤدي إلى تغيير في القيادة المصرية والدخول في عملية طويلة لإعادة ترتيب البيت المصري، الذي ولا شك ستستغرق سنوات عديدة لن تستطيع خلالها إعادة بناء قواتها المسلحة لاسترداد أرضها، وأن الرهان على حرب قريبة لاستعادة المصريين لأرضهم ليست في الزمن المنظور، وأن الزعامة المصرية للعالم العربي قد انهارت وأن الخلافات المصرية -العربية ستزداد شيئا فشيئا وأن العرب سوف يقفون على باب إسرائيل طلبا للسلام لاسترداد أرضهم أو جزء منها وهو ما يعني أن إسرائيل قد احتلت مكانها في المنطقة كقوة إقليمية مهابة الجانب.
الشعب المصري وقوته الناعمة في المقدمة
كانت الرهانات كبيرة وكثيرة ومن يقرأ الأدبيات والتحليلات السياسية لتلك الفترة يرى أن الطريق كان مظلما والحلول قليلة والأصدقاء أصابتهم الندرة، ولم تقف مصر كثيرا أمام ذلك أو أمام كل ماحدث، فبعد أن جددت الثقة في قائدها، ورفضت تنحيه عن رئاسة مصر كانت رسالته وكل المصريين واضحة أن "ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة"
كانت تضحيات الشعب المصري كبيرة؛ فانهالت منذ يونيو 1967 التبرعات النقدية والعينية على الحكومة المصرية من داخل مصر وخارجها وبمبالغ كبيرة لاتتناسب ونفقات أفراده اليومية؛ فقد آثر أبناء الشعب المصري بناء القوات المسلحة على تلبية احتياجاتهم المعيشية اليومية، وضرب المصريون العاملون بالخارج أروع الأمثلة في ذلك فمنهم من تبرع بإجمالي مرتب شهر كامل لصالح المجهود الحربي وكان منهم العمال والفنيين، وانتشرت صور تدفق المصريين نحو أماكن التبرع في كل أنحاء مصر الطفل والعجوز والمرأة والرجل السياسي والموظف والفنان والكاتب ورجال الدين من الكنيسة والأزهر، وكانت رسالة موجهة للخارج قبل الداخل أن مصر يد واحدة وأنها لا ترضى بما حدث في 5 يونيو 1967.
وتحمل الشعب ضريبة الدفاع التي فرضتها الدولة وسندات الجهاد وتخفيض البدلات والرواتب الإضافية التي تمنح للعاملين المدنيين والعسكريين ما بين 25 بالمائة و50 بالمائة وذلك في 25 يوليو 1967.
لم يقف الأمر عند ذلك بل حرص المصريون على أن يكون استتباب الأمن واستمرار الاستقرار ديدنهم أثناء التفرغ لإعداد الدولة لمعركة استرداد الأرض، حتى لا ينشغل رجال الحكومة بالالتفات للنواحي الأمنية على حساب المعركة، وتقارير الأمن العام تحمل حكايات كثيرة وروائع عن انحسار الجريمة في بر مصر بشكل واضح خلال تلك الفترة المهمة قبيل وأثناء أكتوبر 1973.
وعلى مسار مواز كانت الثقافة أداة مهمة في معركة تحرير الأرض؛ فأعادت ترتيب أولوياتها وزاد نشاطها المتعلق بالتوعية بطبيعة المرحلة وإعداد القوات المسلحة ودور الجميع في تلك المعركة بل وأيضا المشاركة في دعم بالمجهود الحربي ماديا ومعنويا فنظمت المعارض والحفلات والأنشطة التي كان دخلها يخصص للمجهود الحربي.
إلا أن أهم ما قامت به الثقافة أن أهلها حرصوا على أن يكونوا أداة في شحذ الهمم وتقوية العزائم والتذكير بأن مصر ذات التاريخ العريض من جولات النصر والبناء لا يمكن أن تقبل بخسارة معركة من العصابات الصهيونية، وظهرت فرقة أولاد الأرض التي كانت تعمل على رفع الروح المعنوية للجنود وخرجت أعمال فنية مازالت باقية حتى يومنا كانت جميعها تسير في طريق استعادة الروح المعنوية للجميع وتدفع نحو تقصير مدة الإعداد للحرب واستعادة الأرض ومنها أغاني "حبيب الشعب" لصالح جودت وغنتها أم كلثوم و"عدى النهار" للأبنودي وغناء عبد الحليم و"مدد مدد مدد" لإبراهيم رضوان وغناء محمد نوح و"خلي السلاح صاحي" لأحمد شفيق كامل وغناء عبد الحليم و "أحلف بسماها وترابها" للأبنودي وغناء عبد الحليم "وابنك يقولك يا بطل" للأبنودي وغناء عبد الحليم، ومنها أيضا أغنية "المسيح" وأبدع صلاح جاهين فى العديد من الأغاني التي اشتهرت برباعيات جاهين، ورغم أن السينما المصرية أخرجت أعمال فنية في ذلك الوقت دون المستوى إلا أن بعضها كان على مستوى ما حدث عام 1967 فأخرجت لنا أعمالا مهمة تتناول ما يمر به المجتمع المصري وتقدم رؤية للتشخيص في أعمال مثل أفلام "الزوجة الثانية" و"السمان والخريف" و"قصر الشوق" "الأرض" و"قنديل أم هاشم"، " شىء من الخوف" والذي منع من العرض لفترة بسبب اعتقاد الرقابة وسمح عبد الناصر بعرضه وفيلم "بئر الحرمان"، و"القضية 68" و"اللص والكلاب"، و"ميرامار"، و"نحن لا نزرع الشوك و"ثرثرة فوق النيل"، و"غروب وشروق"، "يوميات نائب في الأرياف"، وفي العام الذي سبق عام النصر – 1972 – أخرجت السينما المصرية فيلما يتناول بشكل مباشر ما حدث في يونيه 1967 وهو فيلم "أغنية على الممر".
على الجانب الآخر عرف المسرح المصري أعمال مهمة تتعلق بما حدث بعد 5 يونيه 1967 وقبيل 6 أكتوبر 1973 فكان منها أعمال مسرحية تناضل من أجل تقديم حال المجتمع المصري وآماله في إزالة ما علق به في يونيه وكان من أهم هذه الأعمال المسرحية "كوابيس في الكواليس" لسعد الدين وهبة و"رسالة إلى جونسون" لعبد الرحمن الشرقاوي و" النار والزيتون" "لألفرد فرج" أغنية على الممر" و"ثورة الزنج" و"زهرة من دم" و"السلطان الحائر" و"سكة السلامة" و"أنت اللي قتلت الوحش" و"شمشون ودليلة" و"الغول" وغير ذلك من الأعمال التي كانت تضع يدها على حال المصريين وأحلامهم في الخلاص مما أصابهم في يونيه 1967.
وتغير الإعلام وأعيد صياغة رسالة الإذاعة والتليفزيون والصحافة وبدا أن هناك خطا جديدا لتناول جميع القضايا الداخلية والخارجية بما يتفق وتخطيط الدولة لجولة جديدة من الصراع مع الكيان الصهيوني لاستعادة الأرض وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ الأمة المصرية، أدت إلى تحقيق نصر 6 أكتوبر 1973 الذي كسر هيبة الكيان الصهيوني واستعاد الأرض، وحفظ الكرامة.
الحكومة المصرية تعيد ترتيب البيت المصري لتحقيق الانتصار
منذ 11 يونيه تولى عبد الناصر رئاسة الحكومة على فترتين حتى وفاته في 28 سبتمبر 1970 وكان ذلك مؤشرا على طبيعة المرحلة والعمل الذي يتم فيها، وأطلق على ميزانية الدولة اسم "ميزانية إعداد الدولة للحرب"، وقد تولى السادات الحكم بعد عبد الناصر، حيث استكمل الاستعداد للمعركة وقاد مصر نحو نصر عزيز استردت به الأرض والكرامة.
بدأت القرارات المتسارعة، لاسترداد الأرض والثأر من الكيان الصهيوني، فتم تعيين أمين هويدي وزيرا للحربية في 22 يونيه 1967، وحظر ارتداء أزياء وشارات مشابهة للقوات المسلحة والشرطة، ورفعا للروح المعنوية تم صرف مكافأة ميدان للعاملين بالقوات المسلحة، وتعويضات ومعاشات وإعانات وقروض للمصريين الذي تضرروا من الاعمال الحربية أو أصيبوا أو استشهدوا أو فقدوا أثناء العلميات الحربية، وإعفاء ذويهم من بعض شروط القبول بالمدارس، وصرف تعويضات للمجندين الحاصلين على مؤهلات عليا أو متوسطة، ورعاية أسر المجندين.
ومع توالى الأعمال الحربية الناجحة للوحدات العسكرية تم منح الأفراد والوحدات الأوسمة والنياشين والأنواط نظرا لمجهوداتهم وكان من هؤلاء بعض الأفراد من الدول العربية الشقيقة الذين حضروا إلى مصر مع بداية العدوان.
كما تم إعادة بعض الطيارين للخدمة للحاجة إليهم، فسلاح الطيران فقد الكثير من معداته ورجاله، وصارت هناك حاجة لاستعواضهم، كما تم مد الخدمة بالقوات المسلحة لبعض القيادات من ذوي رتبة اللواء.
على الجانب الآخر وضعت وزارة التخطيط استراتيجية لإدارة الاقتصاد المصري أثناء الحرب طبقا لمبادئ علمية دقيقة، ووضعت الدولة تحت تصرف وزارة الشباب في عام 1968 ميزانية لتنفيذ خطة الإعداد العسكري للشباب بلغت نحو 1314388 جنيها مصريا، كما قامت الدولة بتشكيل منظمات الدفاع الشعبي ممن لا يخدمون في القوات المسلحة وذلك لحماية الخطوط الخلفية للقوات المسلحة وأعمال الدفاع المدني، وطلبت المؤسسة العامة للكهرباء في ديسمبر 1971 توفير مبلغ 922500 دولار و1728500 جنيها في خطتها للعام التالي، كما طلبت وزارة التموين 62974 ألف جنيها لتوفير احتياطي استراتيجي لمدة ثلاثة أشهر من السلع الغذائية وغير الغذائية، واحتاجت وزارة الصحة لعدد 255 سيارة إسعاف، ولم تستطع الحكومة سوى توفير اعتمادات لـ 50 سيارة فقط، وعانت وزارة الصحة من نقص في الأطباء وهيئة التمريض فعملت على الاستعانة بمن هم في سن المعاش والأطباء غير العاملين في الحكومة وأوقفت اعارات الاطباء للخارج، ووفرت الحكومة أكبر قدر ممكن من الاعتمادات لشراء الأدوية اللازمة لوزارة الصحة، ورصدت الحكومة المصرية لتنفيذ مشروعات إعداد الدولة للحرب عام 1971/1972 ميزانية لكل الوزارات بلغت 314632900 جنيها مصريا.
وعندما انشغل الطلاب بالمظاهرات مطالبين بالحرب وبقبول تجنيدهم في القوات المسلحة وافق مجلس الوزراء على تطوع طلاب الجامعات اعتبارا من فبراير 1972 على ألا تقل فترة التطوع عن 6 أشهر على أن تخصم من خدمة تجنيدهم الأساسية، كما وافق مجلس الوزراء على تنظيم زيارات لأفراد الشعب إلى جبهة القتال على أن يبدأ أولا بطلاب الجامعات للاطلاع على استعدادات القوات المسلحة للمعركة.
وفي 26 أكتوبر 1972 أعفى السادات الفريق أول محمد أحمد صادق من منصب وزير الحربية وعين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية، ومنذ يناير 1973 بدأ تحديد فصائل دم العاملين بالوزارات استعدادا لطوارئ المعركة، ومع دقات الساعة الثانية من ظهر يوم السادس من أكتوبر 1973 بدأ النصر يرفع راياته على أرض مصر لتشهدها كل أركان المعمورة ولتعلن محو هزيمة 5 يونيو بدماء جيل 6 أكتوبر 1973.