بقلم: السفير د. عزمى خليفة
تستعد الجامعة العربية لتدشين القمة العربية في نهاية مارس الجارى وسط أجواء عربية تتسم بأقصي درجات السيولة العربية، فالنظام الإقليمي العربي بوصفه نظاما إقليميا فرعيا اندثر منذ عقد كامل لأسباب متنوعة، والدولة الوطنية العربية التي عرفناها منذ توقيع اتفاقية سايكس - بيكو بعد الحرب العالمية الأولي وسقوط الخلافة العثمانية مهددة في وجودها في عدة دول عربية، والحد الأدني من التعاون العربي غائب عن الساحة العربية بتأثيرات عديدة، فهل نحن مدركون مصيرنا؟، وهل لدينا حد أدني من الأمل حول هذه القمة؟ وماذا نحن فاعلون كعرب؟ .
بداية يلاحظ أن حالة النظام الإقليمي العربي في حالة تراجع حاد منذ منتصف التسعينيات؛ لوجود تناقض حاد بين وضعية الدول التي تتولي قيادة النظام الإقليمي العربي والمؤشرات، التي تعبر عن وضعيتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فأكثر الدول العربية استقرارا من الناحية السياسية وفقا لمقياس عدم الاستقرار السياسي الصادر عن جامعة ميسون بالولايات المتحدة خلال الفترة ١٩٩٦ / ٢٠٠٨ كانت الإمارات والكويت وقطر وعمان وتونس، وأقلهم استقرارا هم العراق والسودان واليمن والصومال، أما حالات السعودية ومصر والبحرين فقد شهدت الفترة السابقة فى ١٩٩٦ تحسنا في مستوى استقرارها السياسي، ثم تراجع هذا الاستقرار تراجعا حادا.
وإذا تابعنا هذا المؤشر عام ٢٠١٠ وهو السابق على ثورات الربيع العربي، نجد وضعية مصر والسعودية وسوريا والمغرب والجزائر قد تراجعت مقابل زيادة الاستقرار السياسي في قطر وعمان والإمارات وليبيا والكويت، بمعني أكثر وضوحا أن دول القيادة العربية في النظام الإقليمي العربي وهي مصر والسعودية والجزائر وسوريا قد تراجعت علي مؤشر الاستقرار السياسي، ومن ثم فلا عجب في انهيار النظام الإقليمي العربي، فأي نظام إقليمي به مجموعة يستند إليها النظام مقابل دول أخرى هامشية تؤدي واجبات ومسئوليات محددة نسبيا واختلال الأهمية النسبية لهذه الدول لابد أن تؤدي إلى ضعف واضمحلال النظام وهو ما حدث بالفعل.
كذلك هناك مؤشر السلام العالمي الذي يضعه معهد الاقتصاد والسلام، لقياس الوضع النسبي للسلام من خلال أدوار الدول ومناطق العالم المختلفة، واستعراض هذا المؤشر في الأعوام ٢٠٠٧/٢٠١٠، يؤكد تدهور حالة مصر والسعودية والجزائر وسوريا، وهو ما يدفع المرء لاقتراح أن تدهور حالة النظام العربي ترتبط بتدهور حالة دوله.
كذلك يلاحظ أنه على الرغم من اضطراب العلاقات العربية العربية عامة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣، وإصابة الواقع العربي بحالة من العجز والشلل عبرت عن نفسها في عدم إمكان قيام الجانب العربي بأي تحريك للقضية الفلسطينية، أو إيجاد أي مخرج لمواجهة الأطماع والتحرشات الإيرانية في الخليج، التي استمرت ووضحت مؤشراتها بقوة في أحداث ١٤ فبراير في البحرين، والفشل في إيجاد أي حل إيجابي للحرب بين الحوثيين والحكومة اليمنية التي بدأت في يونيو ٢٠٠٤، وظلت أسبابها كامنة تحت الرماد إلى أن اشتعلت مرة ثانية في أغسطس عام ٢٠٠٩، واستمرار الصراع في دارفور، وحرب ٢٠٠٦، ثم ٢٠٠٨ على غزة، إلا أن هذه المرحلة شهدت تطورين لافتين للنظر:
التطور الأول : كان حرص مصر الدائم للتنسيق مع سـوريا وليبيا والسعودية والجزائر قبيل انعقاد القمم العربية بصفـة دائمة وذلك خلال الفترة من ٢٠٠٤/ ٢٠١٠.
التطور الثاني: وجود علاقة من نوع خاص بين مصر والسعودية على المستوى السياسي، حتى إنه في ٣٠ يونيه ٢٠٠٩ عقد الرئيس المصري الأسبق حسنى مبارك اجتماعا مع الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بمدينة شرم الشيخ، وكان هذا الاجتماع هو الثاني خلال ٤٨ ساعة إضافة إلى سابق عقد قمة أخرى في السعودية بينهما فور انتهاء زيارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما للقاهرة في ٥ يونيو ٢٠٠٩ بهدف دعم التنسيق العربي.
وقد انعكست هذه الأوضاع السياسية على العلاقات المصرية - السعودية في المجال الاقتصادي؛ إذ تحتل السعودية المرتبة الأولي في التبادل التجاري بين الدولتين وأيضاً في المجال الاستثماري مع الدول العربية.
ورغم انتقال النظام العربي إلى أسوأ مراحله وهي مرحلة تعرض الدولة الوطنية نفسها للاندثار نتيجة تفككها إلى عدة دويلات كما هو الوضع في العراق، نتيجة قيام واشنطن بوضع دستور جديد للعراق يحمل بذور الانقسام الطائفي، وكما هو الوضع في سوريا نتيجة احتكار روسيا عملية صياغة الدستور السوري، ونتيجة تفاقم دور الإرهاب الذي يحرض المتغير الطائفي في الإقليم، إلا أن هذا لم يمنع هذه العلاقة الخاصة بين السعودية ومصر من التقدم وهو ما تجسد في محور ٣٠ يونيه الذي ربط بين مصر من جانب وكل من السعودية والإمارات والبحرين والكويت، مما أدى لمشاركة قوات مصرية في بعض المناورات بالخليج.
مما سبق يتضح بصورة جلية أن العلاقات المصرية - السعودية تؤسس لنموذج تعاوني كاتجاه عام، وعلى الرغم من وجود فترات تتسم بالاختلاف وتباين الرؤى مثل الموقف من الثورة اليمنية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلا أن هذه الفترات تمثل استثناء يؤكد القاعدة العامة القائمة على التعاون بين البلدين؛ بل إن الدافع الرئيسى لهذا التعاون المصري السعودي كان دعم الأمن القومي العربي بالدرجة الأولي، وهو ما تجسد في التعاون المصري السعودي ١٩٦١ ضد موقف عبد الكريم قاسم تجاه أزمة الكويت الأولى.
هذا الاستعراض للعلاقات المصرية - السعودية يؤكد مركزيتها لحماية الأمن القومي العربي ودعمه، فلا غنى لمصر عن السعودية ولا غنى للسعودية عن مصر، قد يصدر تصريح هنا قد لا يعجب الجانب السعودي، أو تصرف سعودي يثير عدم رضاء الجانب المصري، فهذه مسائل معتادة في العلاقات بين الدول، فالدولتان متجاورتان، والدولتان كبيرتان، وكلتاهما تلعب أدوارًا مهمة لدعم الأمن القومي العربي، فلا غني عن مصر في حل إشكالية العلاقات الخليجية الإيرانية، وفي حل الأزمة الخليجية اليمنية، ولا غني عن دول الخليج عامة والسعودية خاصة في حل الأزمة السورية حاليا ومستقبلا وفي حل الأزمة العراقية.
بل إنني على المستوى الشخصي أعتبر مصر دولة خليجية بالمفهوم الاستراتيجي وليس الجغرافي، لأن أمن البحر الأحمر لا يمكن تحقيقه بمعزل عن تعاون مصر والسعودية معا، ولما لا ومصر تطل على ساحله الغربي بأكثر من ١٠٠٠ كيلومتر والسعودية في نفس الوضعية ولكن على الساحل الشرقي، فهل يمكن تحقيق أمن هذا البحر بإحدي الدولتين دون الأخرى؟، خاصة في وقت عبرت فيه دول عديدة مثل قطر وإسرائيل والإمارات والسعودية نفسها عن طموحات لإنشاء قواعد عسكرية ثابتة في بعض دول البحر، في وقت أنشأت فيه مصر جيشها الجنوبي بالفعل، وهذا الجيش عقيدته العسكرية هي نفس العقيدة العسكرية لمجمل القوات المسلحة المصرية، التي تقضي بأن هذه القوات هي درع وسيف للأمن القومي العربي من البحرين شرقا إلى المغرب غربا.
إضافة لذلك فإن ثلثي إنتاج الخليج العربي من البترول ينقل إلى أسواق المستهلكين في العالم الغربي عبر قناة السويس، وهذه الوضعية ليست وليدة اليوم؛ ولكنها مرتبطة منذ اكتشاف البترول بدول الخليج العربي، وأدت إلى ترابط اقتصادي مصري خليجي في الاستثمار والتبادل التجاري، وأيضا هذه العلاقات ليست وليدة اليوم ولكنها أخذت في التطور مع قيام ثورة ١٩٥٢ .
هذه الأوضاع كانت النواة التي تبلورت حولها أكبر جالية مصرية في الخارج، فالجالية المصرية في الخليج ككل هي الأكبر في العالم، حيث تفوق ٥٠٪ من الجالية المصرية بالخارج أساسا، وبطبيعة الحال تمثل تحويلات المصريين مصدرا من مصادر الدخل القومي المصري إلى جانب السياحة والبترول والصادرات السلعية والخدمية.
أيضا هناك سببان استراتيجيان يجعلان من مصر دولة خليجية بالمفهوم الاستراتيجي، أولهما أن الممرات البحرية الاستراتيجية في المنطقة تعالج على المستوى الاستراتيجي كتلة واحدة في جميع المؤتمرات الدولية وهي مضيق هرمز، وبحر العرب، ومضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وقناة السويس، وبطبيعة الحال لا غني لمصر عن البحر الأحمر ومضيق باب المندب وقناة السويس طبعا.
والسبب الثاني خاص بمصر ويتمثل في ميل سياسة مصر الخارجية – لأسباب جغرافية وتاريخية - نحو الخليج والمشرق العربي، رغم مشاركة دول شمال إفريقيا لها في الانتماء الإفريقي،
إذن الأمن القومي العربي يستند أساسا وبصفة رئيسة إلى مصر والسعودية والجزائر وسوريا أو العراق، والأخيرتان الآن خارج معادلة القوة العربية، فلم يبقَ للعرب سوى مصر والسعودية والجزائر، والأخيرة عليها أعباء ثقيلة لحل الأزمة في ليبيا ومواجهة الإرهاب على جانبي خط التماس العربي الإفريقي، ومواجهة الضغوط الأجنبية التي تمارس ضدها للانخراط الأمني في إقليم الساحل والصحراء على حساب التزاماتها العربية، ومن ثم لم يبقَ عمليا للعرب والأمن القومي العربي سوى مصر والسعودية؛ مما يتطلب ضرورة رأب الصدع بينهما خاصة
أنه ناتج عن خلاف في المدركات أكثر منه خلافا عربيا في الاستراتيجيات، والعالم كله يتحرك نحو نظام عالمي جديد مفتوح يستند إلى شبكات عالمية نجحت في العبور السلس إلى النظام الجديد، بعيدا عن الأمم المتحدة التي أضحت بالفعل أثرا تاريخيا وهذا النظام أهم ملامحه انتشار القوة وعدم وجود قيادة له، فمسألة القيادة ومسألة القوة الأعظم أصبحت من مخلفات الماضي عالميا وإقليميا، ومن ثم فمواجهة تحديات المستقبل أهم من مجرد التمسك بالماضي.
ولذا أجدني أكثر ميلا لاقتراحين أختتم بهما مقالي:
الاقتراح الأول: إقامة حوار استراتيجي على مستوى وزيري خارجية الدولتين للتخلص من المدركات الخاطئة المتراكمة لدى كل طرف عن الآخر.
الاقتراح الثاني: أن هذا الحوار قد يأخذ وقتا؛ ولذا أقترح أن يتواكب مع هذا التحرك الحكومي تحرك شعبي وتحرك الدبلوماسية العامة الحديثة، ولذا أتقدم باسم منتدى مستقبل مصر وهو منظمة مدنية مصرية - تحت الإنشاء- برعايتي وصديقين عزيزين بدعوة ستة مثقفين وإعلاميين سعوديين لزيارة القاهرة لمدة يومين أو ثلاثة فقط، وينتظم معهم ست شخصيات عامة مصرية في دائرة مستديرة تناقش في ٦ محاضرات من شخصيات علمية مقومات سياسة مصر العربية ويتم نشر الحوار في إحدي الصحف المصرية وإحدي الصحف السعودية في وقت واحد، والاجتماعات يمكن أن تتم برعاية دار نشر الصحيفتين وليكن أول أنشطة المنتدى هذا الحوار، وأرجو أن يدعم الدعوة السفير السعودي بالقاهرة والإخوة المثقفون في السعودية، فإذا كان للحكومات قيودها فمن المؤكد أن للشعوب خياراتها، وليكن لهذه الشعوب دورها الفعّال في التمهيد لتقارب الدولتين من خلال الحوار الاستراتيجي.