الأقصر.. في قرية نائية، تم إرسال محقق لكي يعمل على قضية غريبة، والتي كانت عبارة عن مجموعة كبيرة من الصرخات تصدر ليلا من حضن الجبل الذي يحيط القرية من كل الجهات ويحميها من أعدائها، في الليل اتجه المحقق إلى ذلك الجبل، واختبأ فوق شجرة كبيرة منتظرا ظهور تلك الوحوش الضارية، أو ربما العفاريت التي تصدر تلك الصرخات العنيفة، بعد مرور ساعة ظهر شخص من بعيد.. إنه بائع الخضروات صاحب الدكان الموجود في بداية القرية، كان يتحرك ببطء، اختبأ بين مجموعة من النباتات الكثيفة ليتأكد أنه لا يوجد من يشاهده، ثم حرر صرخة عنيفة مرعبة حقا استمرت لنحو نصف دقيقة ثم عاد أدراجه، في تلك الليلة شاهد المحقق من فوق شجرة الحقيقة التي كان يختبئ فوقها سبعة وثلاثون رجلا من رجال القرية.. يأتون في تخف ثم يصرخون بنفس الطريقة، كان مذهولا ولا يفهم ما الأمر.
في اليوم التالي اتجه إلى عجوز القرية، والتي كانت تحكمها منذ زمن وأخبرها بما شاهده، ذهلت العجوز مما سمعته لدرجة أنها قررت أن ترافق المحقق فوق شجرة الحقيقة حتى تتأكد مما يقوله، وخلال أسبوع كامل من المراقبة عرف المحقق شخصيات جميع هؤلاء الصارخين، كانوا خمسين رجلا، ولأن أمن البلاد هو الهدف الأول دائما فقد تم إلقاء القبض على هؤلاء الصارخين للتحقيق معهم ومعرفة لماذا يقومون بتعكير الجو العام وبث الرعب في نفوس المواطنين؟ ولكن السيد المحقق أرفق في تقريره أنه من الحكمة عرضهم على مجموعة من الأطباء؛ لأنه يعتقد أنهم يعانون من مشكلة ما، وليس كما يظن البعض أنهم خونة، وعليه تم إيداعهم تحت الدراسة في أحد المستشفيات وعرضهم على الأطباء لتحديد ما هي علتهم، الليلة الأولى في المستشفى كانت مرعبة للجميع، فهم من خلالها الفريق الطبي أن هؤلاء الرجال يعانون بحق ويجب مساعدتهم.
وعليه بدأت الفحوصات من صباح اليوم التالي، والتي كانت تبدو نتائجها ممتازة للغاية، ولكن المفاجأة كانت حينما سأل الأطباء كل فرد من الصارخين على حدة عن ما يشكو منه، كانت إجابتهم جميعا واحدة... كل منهم كان يجيب بعد تمنع شديد قائلا بوجه مستغيث "لم يعد بإمكاني البكاء"، استمرت الفحوصات لمدة شهر خضع فيها الصارخون لكل أنواع الاختبارات والتحليلات النفسية، ولكن الأطباء كان يثبت لديهم مع نهاية كل اختبار وتجربة يجرونها على الصارخين أنهم لا يعانون من شيء عضال، أو على الأقل لا يعانون من شيء قد مر عليهم من قبل فقط مجرد اكتئاب والذي لم يعرفوا أبدًا أنه قد سبب هذه الحالة لأي شخص من قبل، وهذا ما كتبوه في تقاريرهم، والتي على أساسها رأى المسؤولون أنهم ليسوا مجرمين بل فقط مجرد مرضى لم يعرف الأطباء كيف يعالجونهم.
من هنا تم إطلاق سراحهم مرة أخرى، ولكن بعد إجبار كل منهم على بناء غرفة عازلة للصوت في بيته بحيث يمكن لأي منهم الصراخ دون أن يثير الرعب في قلوب العامة، بالطبع لم يستطع أي منهم الاعتراض؛ فهم وطنيون للغاية وسوف يوافقون على ذلك تفضيلا للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وليستمروا في الصراخ طالما أن الأمر لم يعد مثيرا للبلبلة، ولكي ينهي المحقق تلك القضية وينهي تقاريره بشكل كامل كان يتوجب عليه أن يشاهد تسجيلات هؤلاء الصارخين حتى يسجل أقوالهم في تقاريره، وهذه كانت بعض من أقوالهم.....
في أحد التسجيلات قال رجل أربعيني " لم يعد بإمكاني البكاء منذ زمن طويل، في البداية ظننتُ أن هذا شيء جيد فلم أعد أظهر ضعفي أمام أحد، ولكن بعد مرور سنتين لم أعد أستطع أن أحتمل"، في تسجيل آخر قال رجل يحمل بؤس العالم على وجهه "قد يظن أحدهم أن الرجال كائنات عنيفة ليس لها لحظات ضعف أو لا تحتاج البكاء، ولكن هذا ليس صحيحًا، الأمر فقط أن غرف نوم الرجال دائما ما تكون ساترة للحظات ضعفهم وبكائهم"، أما التسجيل الأخير الذي أرفقه المحقق في تقاريره فهو لعجوز قارب على السبعين من عمره، قال " قد تظن النساء أن الرجال يُكرِهُونَهنَّ وهُنَّ يبكين، ولكن الحقيقة أن الرجال تكره البكاء بشكل عام؛ لأنه الشاهد الوحيد على ضعفهم"، ثم أردف "تعلمنا ونحن صغار أن الرجل لا يجب أن يبكي، ولكن الحياة فيما بعد علمتنا أنه يحق للرجل أن يُخرج حزنه بأي طريقة ما، المهم ألا يشاهده أحدهم، كنت أقوم بذلك لمدة خمسة وستين عامًا في صمت داخل غرفة نومي، ولكن حينما فقدت البكاء لم أجد عوضا عنه سوى الصراخ".