رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


التحليل العلمي يكشف أسرار تقليد العنبر في العصور القديمة

21-10-2024 | 01:30


قطعة من العنبر

إسلام علي

تمكن الباحثون من الكشف عن استخدام تقنيات متقدمة في شبه الجزيرة الأيبيرية خلال العصر البرونزي لاستنساخ مادة العنبر النادرة، وذلك في ضوء الاكتشافات الحديثة التي قدمها علماء الآثار.

 

كانت هذه المادة ذات قيمة عالية لدى النخب الاجتماعية، وكانت تعتبر رمزًا للقوة والهيبة، ونظرًا لندرة العنبر في بعض المناطق مثل شبه الجزيرة الأيبيرية مقارنة بمناطق أخرى مثل البلطيق أو صقلية، ظهر فن التقليد ليملأ هذه الفجوة، حيث نجح الحرفيون في إنتاج نسخ شديدة الدقة تشبه العنبر الأصلي.

 

العنبر في العصور القديمة: أساطير وتفسيرات

كان العنبر دائمًا مادة محاطة بالغموض والأساطير، في القرن الثاني الميلادي، أطلق عليه ديموستراتوس في أثينا اسم "لينكوريوم" ظنًا أنه مصنوع من بول الوشق.

ومع مرور الزمن، تطورت التفسيرات، ففي القرن الخامس الميلادي، اعتقد الناس أن الشمس عندما تلامس البحر تتحول أشعتها إلى كهرمان، ولم يكن هذا مجرد فضول علمي، بل كانت لهذه المادة خصائص سحرية في أعين الكثيرين، حيث اعتقدوا أنها تجلب الحظ وتمنح القوة، وحتى المصارعون قاموا بخياطة قطع منها في ملابسهم كمصدر للقوة والحماية.

 

عاش بليني الأكبر، الذي في روما القديمة، كان من أوائل من فسر العنبر على أنه ذو أصل نباتي، وأشار إلى أن رائحته الشبيهة بالصنوبر عند حرقه قد تكون دليلاً على طبيعته النباتية.

 

وكتب تاسيتوس، المؤرخ الروماني، في عام 98 م "العنبر هو في الواقع عصير الأشجار"، وهو ما أثبتته الدراسات الحديثة، فالعنبر هو في الأساس راتينج نباتي يتطلب آلاف السنين وظروفًا بيئية خاصة ليتحول إلى حجر صلب عبر عملية تُعرف باسم البلمرة.

 

تقليد العنبر في شبه الجزيرة الأيبيرية.. تقنية قديمة واكتشاف حديث

 

كان العنبر مادة نادرة في شبه الجزيرة الأيبيرية، مما دفع الحرفيين إلى تطوير تقنيات مبتكرة لتقليده، في دراسة حديثة نُشرت في مجلة العلوم الأثرية، كشف الباحثون عن تطور أول طلاء مركب من صنع الإنسان تم استخدامه لتقليد العنبر منذ ما يقرب من 5000 إلى 3000 عام.

 

وكان هذا الطلاء المركب يتكون من مزيج من راتينج الصنوبر، شمع العسل، وزيت بذر الكتان، مما أعطاه مظهر العنبر البرتقالي اللامع.

 

كان الحرفيون في تلك الفترة يستخدمون قلبًا مركزيًا من الصدف أو الحجر، ثم يقومون بتغطيته بهذه المواد لإضفاء مظهر العنبر الحقيقي عليه، ولربط هذه المواد معًا، استخدموا غراء مصنوعًا من الكولاجين وبقايا حيوانية أخرى، هذه التقنيات كانت غير مسبوقة في ذلك الوقت، حيث أظهرت مستوى عاليًا من الحرفية والابتكار.

 

العنبر كرمز للهيمنة الاجتماعية: بداية الهرمية في المجتمعات القديمة

 

في العصر البرونزي، لم يكن استخدام العنبر مقتصرًا على الجمال والزينة فقط، بل كان له دلالات اجتماعية وسياسية، فقد كان العنبر، خاصة في شكله المزيف، يستخدم كرمز للهيمنة الاجتماعية.

كانت النخب الحاكمة تستخدمه لإبراز مكانتها بين باقي أفراد المجتمع، وبسبب ندرة العنبر في المنطقة، كان من الضروري تطوير بدائل لتلبية احتياجات هذه الطبقة الحاكمة.

 

يشير كارلوس أودريوزولا، أحد الباحثين المشاركين في الدراسة، إلى أن التقليد الأول للعنبر تم اكتشافه في الأندلس وبرشلونة بفارق ألف عام بينهما.

ويرى الباحثون أن هذا النمط المتكرر يعكس أهمية العنبر المزيف في المجتمعات القديمة، وعلى الرغم من أن العنبر الحقيقي كان يُعتبر رمزًا للقوة والهيبة، إلا أن تقليده أصبح شائعًا جدًا لدرجة أنه استمر لمدة ألف عام عبر شبه الجزيرة الأيبيرية.

 

التحليل العلمي والتكنولوجي.. تقنيات غير مسبوقة لتقليد العنبر

 

اعتمدت الدراسة الجديدة على تقنيات حديثة مثل التحليل بالأشعة تحت الحمراء والتصوير المقطعي المحوسب لفهم تعقيد تقنيات تقليد العنبر في العصور القديمة.

سمحت هذه الأدوات العلمية الحديثة للباحثين بتحليل العناصر الكيميائية والمواد المستخدمة في إنتاج العنبر المزيف بدقة غير مسبوقة، وساعد هذا الكشف العلماء على إدراك مدى التقدم التكنولوجي الذي كان قد تم تحقيقه في تلك الفترة، حيث يظهر أن الحرفيين كانوا قادرين على تقليد ليس فقط مظهر العنبر، بل حتى خصائصه الحسية.

 

التقليد والطبقات الاجتماعية: دراسة جديدة لعلم الآثار المزيف

 

يشير خوسيه أنخيل جاريدو، باحث آخر من جامعة إشبيلية، إلى أن دراسة تقليد العنبر فتحت مجالات جديدة في علم الآثار، وهي دراسة المواد التي كانت تحاكي أو تقلد العناصر القيمة في المجتمعات القديمة، ويركز علم الآثار المزيف، كما يُطلق عليه، على فهم كيفية تصنيع وتوزيع هذه المواد المزيفة، وكيف كانت تستخدم لتعزيز القوة والنفوذ.

 

أهمية المظاهر في المجتمعات القديمة: من المساواة إلى الهيمنة

 

يشير الباحثون إلى أن المجتمعات في العصر البرونزي كانت تشهد تحولات اجتماعية هائلة. فقد كانت الهياكل المساواتية تتحول تدريجيًا إلى هياكل هرمية، حيث كانت الطبقات الحاكمة تعتمد على استخدام عناصر معينة مثل العنبر لإبراز قوتها. يرى الباحثون أن المظاهر كانت تلعب دورًا كبيرًا في هذه المجتمعات، حيث كان استخدام العنبر المزيف وسيلة للقادة لإظهار هيبتهم ونفوذهم.

 

العنبر في الثقافات المختلفة.. رمز عالمي للرفاهية

 

كان العنبر كان دائمًا رمزًا عالميًا للرفاهية، في كل مكان ظهر فيه، من أوروبا إلى آسيا، كان يستخدم للأغراض الفاخرة والتجميلية. الدراسات الحديثة تشير إلى أن تقليد العنبر كان شائعًا بين النخب الناشئة التي كانت تسعى إلى تعزيز نفوذها الاجتماعي والسياسي.

 

الأبحاث المستقبلية: دراسة الحرفيين والقادة في المجتمعات القديمة

 

ويعمل الباحثون حاليًا على وضع سجلات تقليد العنبر في سياقها التاريخي، لفهم من كان وراء هذه الابتكارات، ويعتقد الباحثون أن النخب الاجتماعية كانت تكلف حرفييها بتقليد العنبر، إلا أن الأدلة المباشرة على ذلك ما زالت غير كافية، وكان الهدف المستقبلي هو تحليل بقايا الأفراد الذين كانوا يرتدون هذه الحلي، لمعرفة ما إذا كانوا ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية العليا.