بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.
هذا هو الفصل الخامس من هذه المذكرات القيمة، وهي كما يرى القارئ درس لشباب الجيل في العصامية، وقد وقف مؤسس الهلال في الفصل الرابع عند أمنيته وهو صغير في أن يصبح من أهل العلم، وفي هذا الفصل يروي كيف تحققت له هذه الأمنية.
الفصل الخامس: تشجيع والدي ووالدتي
ولما أطلعت شريك والدي على هذا الذي اعتزمته، أخذته الدهشة وتملكه الأسف، ولم يستطع إخفاء ما في نفسه فقال لي وعيناه تدمعان لفرط تأثره: أنت تعلم أنك عندي بمنزلة ولدي، بل أنت أعز منه، وليس يخفى عليك أنني بذلت كل جهدي حتى أشركته معك في المطعم، لما أعلمه من اجتهادك واخلاصك لعملك واستقامتك، فالآن وقد اعتزمت ترك هذا العمل، ضاع كل أمل في إصلاح ولدي!
وشق على نفسي ما لمسته من تأثر ذلك الوالد الشيخ، فأبديت له أسفي الشديد على ما سببته له من الألم، واعتذرت بأنني لم أعد أستطيع العدول عن تنفيذ ذلك المشروع، برغم ما أشعر به من أنه مشروع خطير تكتنفه الصعاب والمشاق، وشاورت والدي في الأمر، فلم يبد معارضة. وكانت فرحة والدتي شديدة حينما أخبرتها في تلك الليلة بما اعتزمته، وشجعتني كثيرا، برغم علمها بأني لا أملك كثيرا من النفقات اللازمة لتعلم الطب، وبأني لن أطلب إلى والدي أن يمدني بشيء من هذه النفقات، بل أعتزم الإنفاق على نفسي في المدرسة من القيام بأي عمل خارجي، أترك تحديده للظروف وسألتني والدتي عن القسط الأول الذي يجب أن أدفعه من مصروفات مدرسة الطب، فلما أخبرتها بأن هذا القسط سبع ليرات عثمانية، قالت لي: «عندي هذا المبلغ، وقد ادخرته منذ حين، وسأعطيك إياه، وأرجو أن تواصل الاجتهاد وتتوكل على الله، وهو يوفقك للنجاح) . فكان لكلامها في نفسي تأثير كبير.