في منفاه بإسبانيا (1915 – 1920) كان أمير الشعراء أحمد شوقي (1868- 1932) يحنُّ إلى سوريا ولبنان، حنينه إلى وطنه مصر، ويحن إلى أهل هذه البلاد، كما يحن إلى أهله في مصر. وكان يرى في سوريا ولبنان منتهى حسن الخلق، والكرم هناك ليس مختصرًا على أهل هذه البلاد، بل في أرضها وسمائها، فالسماء والأرض والناس كلهم في لبنان وسوريا باسمون.
ويتذكر شوقي أنه كان يزور بلدة "عالية" بلبنان، وذات نهار وقف أمام الفندق مع بعض أصدقائه، فتقدم ماسح أحذية واستأذن في تنظيف حذائه، فأذن له، وسأله أحد الواقفين بجانبه، وكلاهما لبناني: أتعرف السيد الذي تنظف له حذاءه؟ فأجاب ماسح الأحذية في زهو: طبعًا يا سيدي هو شاعر مصر الكبير الذي قال:
قبر الوزير تحية وسلاما ** الحلم والمعروف فيك أقاما
ثم أنشد القصيدة كلها دفعة واحدة، وهي المرثية التي كتبها شوقي في بطرس باشا غالي الذي اغتاله إبراهيم الورداني عام 1910.
شعر شوقي بالزهو وقتها، فشعره يصل إلى بسطاء الناس في لبنان، وأدرك أن الشعب اللبناني – بجميع طوائفه - شعب مثقف يحب الشعر والشعراء، شعب فنان يحب الفن والفنانين، والثقافة والمثقفين.
ولذا كان يُكثر شوقي من زياراته إلى لبنان، وكان يصحب معه دائما المطرب الشاب - وقتها – محمد عبدالوهاب الذي بدأ نجمه يسطع في مصر وفي لبنان.
وفي لبنان كتب شوقي قصيدته التي شدا عبدالوهاب بأبيات منها:
يا جارة الوادي طربت وعادني ** ما زادني شوقًا إلى مرآك
فقطعتُ ليلي غارقًا نشوان في ** ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثّلت في الذكرى هواك وفي الكرى ** لمّا سموت به وصنتُ هواك
ولكم على الذكرى لقلبي عبرةٌ ** والذكريات صدى السنين الحاكي
ويرى الشاعر حسن كامل الصيرفي (1908 – 1984) أن من أجمل ما خلَّفه شوقي من اللوحات التصويرية قوله يصف لبنان في تقسيم بديع للمشاهد وموسيقى عذبة تنسجم مع هذا التقسيم في قصيدته التي يقول في مطلعها:
السِحرُ مِن سودِ العُيونِ لَقيتُهُ ** وَالبابِلِيُّ بِلَحظِهِنَّ سُقيتُهُ
الفاتِراتِ وَما فَتَرنَ رِمايَةً ** بِمُسَدَّدٍ بَينَ الضُلوعِ مَبيتُهُ
الناعِساتِ الموقِظاتِ لِلهَوى ** المُغرِياتِ بِهِ وَكُنتُ سَليتُهُ
القاتِلاتِ بِعابِثٍ في جَفنِهِ ** ثَمِلُ الغِرارِ مُعَربَدٌ أصليتُهُ
الشارِعاتِ الهُدبَ أَمثالَ القَنا ** يُحيِ الطَعينَ بِنَظرَةٍ وَيُميتُهُ
ويشير د. زكي مبارك (1892 – 1952) إلى أن شوقي لم يذق طعم النعيم إلا في سوريا ولبنان، فقد كان في أبناء تلك البلاد الجميلة من يُسمع شوقي آلاف الأبيات من شعره في اليوم الواحد، (كما رأينا عند ماسح الأحذية) وكان فيهم من يُسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق، وكان شوقي يتلقى التحيات بالبكاء.
وحب شوقي للشام هو الذي جعل عواطفه أمويَّة.
ويذهب الباحث الفلسطيني عرفان شهيد (1926 – 2016) في كتابه "العودة إلى شوقي" إلى أنه في إطار الآداب السامية تكون "لبنانيات شوقي" فصلا آخر بعد "نشيد الإنشاد" في التغني بجمال لبنان.
ويبحث نضال عليان عن الحنين إلى الأماكن في شعر شوقي، مثل بلاد الشام، خاصة لبنان، حيث يقول شوقي:
لبنان يا ملك الجبال تحية ** رقَّت وأزلفها لك الإكبارُ
عاليه تحملها إليك وصوفر ** ومناهل بالجنتين غزار
من نازح الدار التقى بك داره ** ساح الأكارم للكريم ديار
ويؤكد عليان أن شوقي لم يترك مكانًا في لبنان إلا كان لافتًا للأنظار تاركًا بصماته في قلب كل من نظر إليه وتمتع بخيراته وكتب عنه. بل يكتب قصيدة تحمل عنوان "نكبة بيروت" يقول فيها:
بَيروتُ ماتَ الأُسدُ حَتفَ أُنوفِهِم ** لَم يُشهِروا سَيفاً وَلَم يَحموكِ
سَبعونَ لَيثاً أُحرِقوا أَو أُغرِقوا ** يا لَيتَهُم قُتِلوا عَلى طَبَروكِ
ثم يقول:
الحُسنُ لَفظٌ في المَدائِنِ كُلِّها ** وَوَجَدتُهُ لَفظاً وَمَعنىً فيكِ
نادَمتُ يَوماً في ظِلالِكِ فِتيَةً ** وَسَموا المَلائِكَ في جَلالِ مُلوكِ
يُنسونَ حَسَّاناً عِصابَةَ جِلَّقٍ ** حَتّى يَكادُ بِجِلَّقٍ يَفديكِ
ويذكر اسم بيروت صراحة فيقول:
بَيروتُ يا راحَ النَزيلِ وَأُنسِهُ ** يَمضي الزَمانُ عَلَيَّ لا أَسلوكِ
واعتزازًا من الثقافة اللبنانية والشعب اللبناني بشوقي أطلقوا اسمه على أحد الشوارع الكبيرة في بيروت. وسبق ذلك صناعة تمثال نصفي لشوقي بواسطة فنان لبناني اسمه الحويك، صنعه في باريس، عندما التقى شوقي هناك، وقَبِلَ شوقي هذا الأمر بعد ترددٍ طويل؛ إذ كان يُبغض الجلوس طويلا لهذا الغرض. وهو التمثال الذي كان يتصدر دار الأوبرا الملكية بالقاهرة خلال الاحتفال بمبايعة أحمد شوقي أميرًا للشعراء عام 1927. وهو الآن موجود في بهو "كرمة ابن هانئ" بالجيزة.
شاعر القطرين خليل مطران
ومن شعراء لبنان الذين كان يعتز بهم شوقي شاعر القطرين خليل مطران (1872 – 1949)، فهو رجل ذو أخلاق سامية، طيب القلب، لم يتذكر شوقي مرة أنه سمعه يغتاب أحدًا أو رأى عليه حقدًا لإنسان، ولا ينسى شوقي أنه لازمه مرة أياما عدة، وهو مريض بالرمد في أحد فنادق الإسكندرية.
وقد لُقب خليل مطران بشاعر القطرين لأنه ولد في لبنان أول يوليو عام 1872 وعاش معظم حياته في مصر، وتوفي فيها في أول يونيو عام 1949. وقد ترك لبنان هربًا من تعسف الحكم التركي وذهب إلى باريس وعاش هناك بعض الوقت وأتقن اللغة الفرنسية وتأثر بالثقافة الفرنسية، ثم ذهب إلى مصر وعمل بالصحافة، وعُين في جريدة الأهرام، وصادق الشعراء المصريين من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وعلي الجارم، ووضح تأثر مطران بالثقافة الفرنسية في شعره، حيث تحرر من قوالب الشعر القديم، وترجم للمسرح المصري مسرحيات شكسبير، أمثال: عطيل وتاجر البندقية (تاجر فينسيا) وماكبث وهاملت.
كان شوقي يكنُّ لخليل مطران مودة لا تنتهي وهناك الكثير من المواقف الإنسانية والدعابات الفكاهية بينهما. يقول أحمد محفوظ – سكرتير شوقي - في كتابه "حياة شوقي": "كان شوقي يألف مطران، كانا صديقين، وإنّ أدب مطران وكريم خلقه جعلاه صديق الجميع". وكان شوقي يحبّ مداعبة مطران، في حين كان الأخير يُعجب بالجمال، وله صديقات كثيرات من فُضليات اللبنانيات والأجنبيات، وكان ربّما يصحبهنّ إلى المشارب العامة والمنتديات. وقد بَصَرَ به شوقي يومًا داخلًا مشرب "صولت"، وفي صحبته غادة هيفاء فائقة الحسن، فناداه فجاء وسلّم، وكان شوقي يغار من الشيوخ المتصابين المغرمين، فقال بالعامية المصرية: "يا خليل بك، إنت لسّه ما همدتش؟"، فضحك مطران، وكان كيّسًا لبيبًا، وقال: "إنما اصطحبتها لأدلّها على عليّ ابنك"، فضحك شوقي، وقال: "اطلع من دُول"!
وعندما يطلب رأي شوقي في خليل مطران يقول ضاحكًا: "الواقع أنه رجل "صالون" مهذب رقيق رقةَ شعره، ولكن يغيظني منه أحيانا تصابيه فهو دائما مع فتاة جميلة".
إن مصر الشاعرة كانت تعرف قيمة خليل مطران وثقافته الرفيعة، وقد كرمته في 18 يونيو 1913 بدار الجامعة المصرية، وأنعم عليه الخديوي عباس حلمي الثاني بوسام رفيع، وكتب شوقي يومها قصيدة في لبنان وفي مطران يقول فيها:
هذا أديبُك يُحتفى بوسامِهِ ** وبيانُه للمَشْرقَيْنِ وِسامُ
ويُجَلُّ قدْرُ قِلادةٍ في صدره ** وله القلائدُ سِمطها الإلهامُ
فمنِ البشِيرُ لبعْلَبَكَّ وبينَها ** نسبٌ تُضيءُ بنوره الأيامُ؟
يبْلَى المكينُ الفخْمُ من آثارها ** يومًا، وآثارُ الخليل قيامُ!
وكان خليل مطران أحد الشعراء الكبار الذين حضروا حفل تنصيب أحمد شوقي أميرًا للشعراء في دار الأوبرا الملكية عام 1927 وألقى قصيدة همزية يقول فيها:
قبسٌ بدا من جانبِ الصحراءِ ** هل عاد عهدُ الوحي في سيناءِ؟
يا باعثَ المجدِ القديمِ بشعره ** ومجدِّدَ العربية العرباءِ
أمّا جزالته فغايةُ ما انتهت ** شرفًا إليه جزالةُ الفصحاءِ
وتكاد رقّته تسيل بلفظِهِ ** في المهجة الظمأى مسيلَ الماءِ
لولا الجديدُ مِنَ الحِلَى في نظمه ** لم تعزُهُ إلّا إلى القدماءِ
ناهيك بالوشيِ الأنيقِ وقد زَها ** ما شاء في الديباجة الحسناءِ
يا من صفا لي وُدُّهُ وصفا له ** ودّي على السّراء والضراءِ!
فأعزّني يوم الحفاظ ولاؤهُ ** وأعزّه يومَ الحفاظِ ولائي
ولم يكتف خليل مطران بقصيدة المهرجان، ولكنه رثى شوقي إثر وفاته يوم الجمعة 14 أكتوبر 1932 بهمزية أخرى من طوال قصائده إذ بلغت 108 أبيات، فيها إشارات أيضا لحافظ إبراهيم الذي رحل قبل شوقي بشهور قليلة (12 يونيو 1932). يقول مطران:
عجبًا أتوحشني وأنت إزائي ** وضياءُ وجهك مالئٌ سودائي؟
لكنّه حقّ - وإن أبَتِ المُنى -** أنّا تفرّقنا لغير لقاءِ
جرحوا صميم القلب حين تحملوا ** الله في جرح بغير شفاء
الطيب المحمود من عمري مضى ** والمفتدى بالروح من خلصائي
لا بل هما مني جناحا طائر ** رميا ولم يك نافعي إخطائي
الصاحبان الأكرمان توليا ** فعلام بعد الصاحبين ثوائي
لم يتركا برداهما غير الشجى ** لأخيهما ما دام في الأحياء
ولعل العلاقة بين شوقي ومطران بدأت مبكرا، لأننا نرى أن شوقي أثناء دراسته في فرنسا كان يكتب قصائد للأطفال ويحث الشعراء العرب على إيجاد شعر لهم وللنساء، ويثبت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى من "الشوقيات" التي صدرت عام 1898. ويخصُّ صديقه خليل مطران بالذكر فيقول: "لا يسـعني إلا الثناء على صديقي خليل مطران صاحب المنن على الأدب، والمؤلف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشـعر وبين نهج العرب. والمأمول أننا نتعاون على إيجاد شعر للأطفال والنساء، وأن يساعدنا الأدباء والشعراء على إدراك هذه الأمنية".
وعند عودة شوقي من منفاه إلى أسبانيا عام 1920، كان في استقباله في ميناء الإسكندرية عدد من الأقارب والأدباء والشعراء والصحفيين، وكان من بينهم خليل مطران، "وعندما أطل شوقي من السفينة قبل رسوِّها، أخذ الجميع يحيونه برفع المناديل البيضاء، وكان شاعر القطرين خليل مطران أشدهم تحريكًا لمنديله، وقد بادله شوقي التحية إذ رآه". وكتب مطران قصيدة يرحب فيها بعودة شوقي يقول فيها:
أهلا بنابغة البلاد ومرحبا ** بالعبقري الفاقد النظراء
شوقي أمير بيانها شوقي فتى ** فتيانها في الوقفة النكراء
مصر بشوقي قد أقر مكانها ** في الذروة الأدبية العصماء
لم ينس شوقي غابات الأرز اللبناني التي تغطي قمم لبنان، وتمتد على مساحات شاسعة، فلا تكاد تُقطع أشجار في منطقة ما، حتى ينبت جديد في منطقة أخرى. ولابد لكل إنسان يجول في سفوح لبنان من أن يكحّل ناظريه بمهشد الغابة، ويسجل ما تجود به قريحته من انطباعات عنها.
في لبنان كان وحي الشعر يهبط على شوقي، فيكتب وهو في زَحلة:
شيعتُ أحلامي بقلبٍ باكِ ** ولممتُ من طُرق الملاحِ شِباكي
ورجعتُ أدراجَ الشباب وورده ** أمشي مكانهما على الأشواكِ
لم تبقَ منا يا فؤادُ بقيةً ** لفتوّةٍ أو فضلةً لعراكِ
واليوم تبعثُ فيَّ حين تهزّني ** ما يبعثُ الناقوسُ في النساكِ
لم يكن خليل مطران هو اللبناني الوحيد الذي عاش في مصر وتأثَّر بثقافتها وأثَّر فيها، ولكن هناك عددا كبيرا من الأدباء والكتاب والصحفيين والمثقفين والفنانين اللبنانيين عاشوا في مصر من أمثال: جورجي زيدان (مؤسس دار الهلال عام 1892)، يعقوب صروف، سليم النقاش، جورج شحادة، أندريه شديد، مي زيادة، فرح أنطون، وفتوح نشاطي، إسكندر فرح، وجورج أبيض، وغيرهم.
بشارة الخوري (الأخطل الصغير)
أما عن الشاعر بشارة الخوري - الأخطل الصغير (1885 - 1968) – فقد أسس جريدة "البرق" في بيروت عام 1908، وكانت منتدى أهل الأدب وشرارة النضال الوطني، وفيها التقى الشعراء: جميل صدقي الزهاوي وأحمد شوقي ومعروف الرصافي وبدوي الجبل وسواهم.
وقد نادى بعض الشعراء في 4 يونيو عام 1961 بقصر الأونيسكو في بيروت، بتنصيب الأخطل الصغير أميرًا للشعراء، بعد شوقي، وكان من بينهم: محمد مهدي الجواهري، وعمر أبو ريشة، وصالح جودت، وعبدالمنعم الرفاعي، وسعيد عقل. وأمين نخلة الذي قال في صديقه:
أيقولون أخطلٌ وصغيرُ؟ ** أنتَ في دولة القوافي الأميرُ
والأخطل الصغير هو صاحب القصائد المغنَّاة المعروفة: "الصِّبا والجمال" و"جفنه عَلَّم الغزل" و"اسقنيها"، وغيرها.
وعند وفاة شوقي فجر الجمعة 14 أكتوبر 1932 هبَّ الشعراء العرب لرثائه وتأبينه وكان من بينهم الأخطل الصغير (بشارة الخوري) الذي هتف من أعماقه قائلا:
قفْ في رُبا الخُلْدِ واهْتفْ باسمِ شاعرِهِ ** فسدرةُ المنتهى أدنى منابرِهِ
وامسح جبـينك بالركن الذي انبلجت ** أشعة الوحي شعراً من منائره
إلهة الشعـر قـامت عـن مـيامنه ** وربَّة النثـر قامـت عـن مياسره
والحـور قـصَّت شــذوذاً من غـدائرها ** وأرسلتهـا بديلاً من ستائره
أتراب مريم تلهـو في خمائله ** ورهـط جبريل يحبو في مقاصـره
والملهمـون بنـو هـومير ما تركوا ** لما أهـل لهم سجعًا لطائره
قال الملائك: من هذا؟ فقيل لهم: ** هذا هـوى الشرق هذا ضـوء ناظـره
هذا الذي نظم الأرواح فانـتظمـت عـقداً ** من الحب سلك من خواطره.