جبران خليل جبران.. رمز لبنان الخالد
روح قلقة هادئة السطح، عنيفة الأعماق، كثيرة الأمواج، على شفتيه إبتسامة حائرة، وفى عينيه أحزان الإنسانية كلها، يحلق في فضاءات الروح، يتسامى فوق الماديات؛ يضع يد الحكمة على الجراح فتندمل، وينطق بكلمة الحق فتختفى وطأة الآلام، مريض بأدواء العمل والرحمة والكرم، يتسامح في كل شىء إلا التصنع، ويغفر لكل إنسان إلا المرائى، سريع الغضب، سريع الصفح، طاقة متجددة، محب للحياة؛ نهم للمعرفة بلا حدود، وديع كريم النفس، يعزى الحزانى، يعين المعوزين، رجل رزين، وطفل يلعب بالحياة، يرى أن قيمة الإنسان ليست فيما وصل إليه، ولكن فيما يحلم بالوصول إليه، مبدع خلاق، محارب عنيد للتقليد والتقاليد، يرى في الإبداع وحياً لا يفسر أبداً، ولكنه الإنشاد فقط، حلق في فضاءات الإبداع بجناحى الفن والمشاعر، فأنتج أدباً شديد البساطة والوضوح والعمق أيضاً، وأبدع لوحات تتدفق مكنونات النفس البشرية عبر زواياها، وكانت المرأة فى كل مراحل حياته عموده الفقرى، وعمود خيمة إبداعه، المرأة بكل تجلياتها، الأم والأخت والصديقة والحبيبة، إنه قصير القامة، عظيم القيمة، متعدد المواهب الشاعر والقاص والرسام والفيلسوف جبران خليل جبران؛ أشهر أدباء المهجر فى القرن العشرين، وأحد أهم الذين طوروا الشعر العربى الحديث، والرمز اللبنانى الخالد.
ولد جبران فى السادس من يناير 1883 فى بلدة بشرى، التى تقع فى شمال لبنان، ليجد نفسه إبنا لأب (خليل يوسف جبران)، سكير مدمن للخمر، يعمل راعياً للماشية، ويعمل أيضا ضمن حاشية راجى بك زعيم البلدة، الذى كان يستخدمه فى الأعمال المشبوهة، أما الأم فهى عمود الخيمة، وشجرة الآرز العملاقة (كاملة أسطفان يوسف عبدالقادر رحمة)، 1854 – 1903 من عائلة رحمة الثرية، والمحترمة اجتماعيا، تزوجت فى البداية من حنا عبدالسلام رحمة، وذهبت معه إلى البرازيل، وأنجبت منه ابنها بطرس، ولكنها عادت مع ابنها إلى لبنان، وتزوجت من خليل يوسف جبران، وأنجبت أبناءها الثلاثة.. جبران – مريان وسلطانة، وعندما ازدادت شكوى الناس من مظالم راجى بك زعيم البلدة، تم عزله، والقبض على خليل جبران وسجنه.
وكان الحكم العثمانى خلال تلك السنوات، قد زاد من قسوته ومذابحه، مما دفع عدداً كبيراً من اللبنانيين إلى ترك بلادهم، وخاصة الأدباء والمثقفين، فجاء جزء منهم إلى مصر (مؤسسوا الصحف والمجلات)، وذهب جزء منهم إلى أمريكا الشمالية، وخاصة مدينة بوسطن، وذهب جزء آخر إلى أمريكا اللاتينية، فقررت الأم كاملة (أو كميلة)، الهجرة بأولادها الأربعة، إلى بوسطن، ووصلوا إلى تلك المدينة الأمريكية فى الخامس والعشرين من يونيه 1895.
فور وصولهم إلى بوسطن اهتمت الجمعيات الخيرية بإدخال جبران إلى المدرسة، وراحت الأم تعمل بائعة متجولة فى الشوارع، وعندما تحسنت الأحوال المادية للأسرة، افتتحت الأم محلاً تجارياً ليديره ابنها بطرس، وبدأت مواهب جبران فى الرسم تتفتح، وأعجب مدير المدرسة بلوحاته، فاستدعى الفنان المصور الشهير (هولاند داى)، ليتبنى موهبة الفتى الصغير، مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنية، وزيارة المعارض، والاختلاط مع الطبقة الاجتماعية الأكثر ثراءً، والأهم التعرف من خلال هذا الفنان الكبير على علوم الميثولوجيا اليونانية، والآداب العالمية، وفنون الكتابة المعاصرة، والتصوير الفوتوغرافى.
وشيئا فشيئا راح الفتى الموهوب يشتهر، وينتشر فى الأوساط الفنية بمدينة بوسطن، فخشيت الأم، التى يسكنها وطنها الأصلى – على ابنها من آثار الشهرة المبكرة، فقررت إعادته إلى لبنان ليكمل تعليمه هناك، والأهم لكى يجيد اللغة العربية.
عاد جبران إلى لبنان عام 1898، وإلتحق بمدرسة الحكمة، وتواصل مع عدد من الطلاب وكان منهم داود سعادة، وديع عقل، ويوسف الحويك.
وقرر جبران ويوسف إصدار مجلة، أطلقا عليها اسم (المنارة)، وراحا يحررانها معاً، ويرسمها جبران، وقرر العودة إلى بوسطن عام 1902، خاصة بعد أن جاءته الأخبار بمرض والدته وشقيقته سلطانة، وعلى رصيف الميناء كان الحزن فى انتظاره، حيث علم بوفاة شقيقته الأحب، والغريب أنه عندما عاد إلى البيت لم يذكرها أبدا، خشية أن يغرق فى دموعه، ويحطم ما تبقى من قلب أمه، وأخفى الشقيق الأكبر بطرس آلامه عن الأسرة، وقرر تصفية المحل التجارى والسفر إلى كوبا لينفرد بآلامه، ولكنه لم يتحمل وعاد سريعا إلي بوسطن، حيث قرر أن يموت وسط أسرته، بدلا من أن يموت فى غربتين، غربة الوطن، وغربة البعد عن الأهل، وسرعان ما قضى المرض القاتل على بطرس، ليزداد حجم شرنقة الحزن حول الفتى الفنان، وضرب السرطان جسد الأم القوية بعنف وقسوة، فتم نقلها إلى المستشفى، لتموت هى الأخرى، وليدخل جبران فى شرنقة عملاقة من الحزن والأسى .. حيث لم يتبق له من أسرته إلا شقيقته مريانا، وقد أعطته أمه وهو فى السادسة من عمره كتاباً به رسومات ليوناردو دافنشى، فتأمل تلك الصور طويلا، ثم انتحى فى ركن بعيد، وراح يبكى تأثراً بتلك اللوحات، وبعد ذلك كتب عن تلك الواقعة (أمى كميلة رحمى .. كانت حكيمة فوق كل حكمة .. تدرك جيدا أن حب الحرية قد تغلغل فى دمى .. فتطلق لى العنان .. لا تقيدنى إلا قليلا، كنت أجلس طويلا أتأمل فى كتاب ليوناردو الذى أعطتنى إياه، ثم أفتح عينى محملقا فى ضوء الشمس أو دائرة الأفق وأمعن النظر، وكثيرا ما كنت أقضى معها ساعات صامتاً لا أفوه ببنت شفه، وهى تنشد لى أغانى لبنان الجميلة بصوتها العذب الحنون والساحر، أو تقرأ لى أقاصيص هارون الرشيد وقصائد أبى نواس، أجل كميلة رحمى كان صوتها العذب يضرب به المثل فى لبنان ولا يزال يضرب به الأمثال، ويعد موت الأم قال جبران لأصدقائه (لست حزينا عليها لأنها أمى، بل لأنها صديقتى)، ولشدة عشقه لأمه، اتهمه كثير من النقاد بأنه مصاب بعقدة (أوديب)، أى البحث عن الأم فى كل النساء، والحقيقة أن مثل تلك الأم تستحق العشق، وأن تكون النموذج الأبهى فى وجدان ابنها، وقد اتكأ جبران قبل رحيل أمه وبعد رحيلها على أربعة نساء، كان لهن دور فاعل وخطير فى مسيرته الإبداعية والإنسانية، وهن جوزفين بيبودى ومارى هاسكل ومى زيادة وبربارة يونج.
وقد تعرف على جوزفين التى تنحدر من أصول لبنانية، بعد عودته مباشرة من لبنان، وكان فتى فى التاسعة عشرة من عمره، وهى فتاة ناضجة فى السادسة والعشرين، مثقفة تطمح إلى تطوير المسرح الأمريكى، ولها أخت فنانة تشكيلية، وقد ساعدته كثيراً فى إتقان الكتابة باللغة الإنجليزية، وباعت أساورها الذهبية لكى تساعده مادياً، وكانت مبهورة بهذا الفتى، الذى يتدفق إبداعه مثل الشلال رسما وشعراً ونثرا.
وفى الواحدة والعشرين من عمره إلتقى جبران بالفتاة المفصلية فى حياته مارى هاسكل، مديرة مدرسة فى الحادية والثلاثين من عمرها، ليست على قدر كبير من الجمال، ولكنها شديدة الثقافة، والأهم أنها شديدة الإيمان بمواهب وقدرات ذلك الشاب النحيل قصير القامة، الذى لا يزيد طوله عن 160سم، وكان لقاؤهما الأول فى العاشر من مايو 1904، وظلت علاقتهما نموذجاً غريباً متفرداً حتى وفاته، وقد دفعته للسفر إلى باريس على نفقتها الخاصة، لكى يدرس الفن على يد عمالقته، وقد تتلمذ فى تلك الرحلة على يد الفنان العالمى (رودان)، وقد تبادل جبران ومارى عشرات الرسائل، التى يعدها كثير من النقاد من أهم رسائل الحب فى القرن العشرين، ويقول فى إحداها (أود لو أقول لك يا حبيبتى مارى، كم تعنى رسائلك لى، إنها تخلق نفساً فى نفسى، اقرؤها كرسائل من الحياة، تأتينى عندما أكون فى أمس الحاجة إليها، تحمل إلى العنصر الذى يجعلنى أنا وأنت نرغب فى مزيد من الأيام والليالى والحياة، كلما أحسست فى قلبى بالفراغ والاضطراب، فإننى أشعر بأمس الحاجة لشخص يذكرنى أن ثمة غداً معداً لجميع فارغى القلب المضطربين، وذلك ما تصنعينه لى يا مارى)، كما كتب إهداء كتابه المهم الأجنحة المتكسرة إلى مارى قائلا (إلى التى تحدق إلى الشمس بأجفان جامدة، تقبض على النار بأصابع غير مرتعشة، وتسمع نغمة الروح (الكلى) من وراء ضجيج الصبيان وصراخهم إلى مارى هاسكل أرفع هذا الإهداء).
ذلك الكتاب الذى استوحى فكرته من أمه وكتب عن ذلك، (كانت أمى تقول إنها قبل أن تتزوج كانت تريد أن تدخل الدير، وظلت تردد أنها أخطأت لأنها لم تفعل ذلك، فقلت لها ولكنك لو دخلت الدير لما جئت أنا إلى هذه الأرض، فقالت يا بنى أنت لم يكن منك بد، كنت إذا ستكون ملاكا من الملائكة، قلت ولكننى ملاك على أية حال، قالت دعنى ألمس أجنحتك، ووضعت يديها على كتفى وتحسستها وقالت (أجنحة متكسرة)، ولم يفارقنى هذا التعبير قط).
سافر جبران إلي باريس فى عام 1908 ومكث لمدة عامين يدرس الفن ويمارسه، وعاد في عام 1910 ليعرض الزواج على مارى، والانتقال إلى نيويورك هرباً من أجواء الجالية اللبنانية فى بوسطن، وبحثاً عن مجال فكرى وأدبى وفنى أرحب، واعتذرت مارى لفارق السن، وشجعته على الذهاب إلى نيويورك مع شقيقته ماريان، وفى نيويورك عرف الاستقرار والتركيز فى أعماله الفنية والأدبية، وقد كتبت مارى هاسكل مذكراتها فى ثلاثة أجزاء بعنوان (نبيي الحبيب)، إشارة إلى الكتاب الأهم فى إصدارات جبران (النبى).
وارتبط جبران خليل جبران منذ عام 1912 وحتى وفاته عبر الرسائل بعلاقة قوية مع الأديبة اللبنانية مى زيادة، التى كانت تقيم صالونا أدبياً فى القاهرة، يحضره كل رموز الأدب والفكر فى مصر، وغالبيتهم يخطبون ودها، ولكنها اختارت هذا الموهوب الغريب، لتجعل مراكب قلبها ترسو على شطه، وفى إحدى رسائله إلى مى زيادة يقول جبران (أنا مدين بكل ما هو (أنا) للمرأة، منذ أن كنت طفلا حتى الساعة، المرأة تفتح النوافذ فى بصرى، والأبواب فى روحى، لولا المرأة الأم، والمرأة الشقيقة، والمرأة الصديقة، لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين، الذين ينشدون سكينة العالم بغطيطهم).
وكانت بربارة يونج آخر النساء فى حياة جبران، حيث صادقته السنوات السبع الأخيرة من حياته، وكتبت كتابا عنه بعد وفاته.
إلتقى جبران فى نيويورك بعدد كبير من أدباء المهجر مثل ميخائيل نعيمة، إيليا أبى ماضى، وانشأوا (الرابطة القلمية)، وانتخبوا جبران رئيسا لها، بينما كان ميخائيل نعيمة محركها الأكبر، وأصدروا مجلة لنشر إبداعاتهم.
وقد بدأ جبران تقديم اصداراته إلى القارىء فى سن مبكرة جداً، حيث كتب المسودة الأولى لكتابه الأهم النبى، عندما كان فى لبنان، وهو دون العشرين، وعندما عرض ما كتبه على أمه قبل وفاتها قالت له (رائع يا بنى، ولكن لم يأت أوانه بعد)، وأصدر كتابه الأول عام 1905 عن الموسيقى، ويقول فيه (الألحان أشباح الذات الحقيقية، فيها يتعلم الإنسان كيف يرى بسمعه ويسمع بقلبه)، وأصدر كتابه الثانى (عرائس الروح) فى عام 1906، ويحتوى ثلاث قصص يختلط فيها الشعر بالواقع بالأسطورة بالحكمة والموعظة، فى تركيبة شديدة التميز والخصوصة، وفى القصة الثالثة (يوحنا المجنون)، يستلهم ذاته وينتقد التدين الشكلى قائلا (الذين يحركون ألسنتهم بالصلاة، وقلوبهم جامدة كالصخر، لا تحزن، لا تعطف، ولا تأسى للمعذبين المتعبين أصحاب الآلام والآهات، المثقلين بأعباء الحياة).
وتمثل شخصية المجنون نقطة إرتكاز فى إبداع جبران، حيث يقول فى كتابه (رمل وزبد)، (لا يكسر الشرائع البشرية إلا إثنان المجنون والعبقرى، فهما أقرب الناس إلى محبة الله)، وله كتاب بالإنجليزية عنوانه (المجنون)، ويأتى قناع المجنون فى إطار رفضه للتقليد والتقاليد، حيث تكمن قضيته الاجتماعية فى التمرد على التقاليد، بإطلاق طاقة الإنسان من خلال حب الحرية، وحرية الحب، يدعو إلى أن تهب العواصف، لكى تقتلع جذور التقاليد من نفوس وعقول الناس، وظل طوال الوقت يدعو إلى الثورة على التقاليد والتنميط، والأفكار البالية، والنظم السياسية المتسلطة، والقوانين العرجاء، والأحكام الجائرة، وفى المقابل كان يؤمن بالعدالة الاجتماعية والحرية، وكانت ثورته على التقليد والتقاليد موجهة إلى الشرق، ولذلك اتهمه البعض بالكفر وطالبوا بحرق كتبه، ولكنه كان يعرف أسباب مأساة تخلف الشرق فيقول (أبكى على الشرق، لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مطبق، والضحك على الأمراض جهل مركب، أنوح على تلك البلاد المحبوبة، لأن الغناء أمام المصيبة غباوة عمياء، أنا متطرف لأن من يعتدل فى إظهار الحق يظهر نصف الحقيقة، ويبقى النصف الآخر محجوباً وراء خوفه من ظنون الناس وتقولاتهم)، ولذلك راح يحارب التخلف بنور الفن والجمال، وقبل أن يتم عامه الخامس والعشرين أنجز كتابه الثالث (الأرواح المتمردة).
يقف جبران خليل جبران فى مقدمة رواد تجديد الشعر العربى، ذلك الشعر الذى عانى طويلا من الركاكة والتقليدية، نتيجة الحكم العثماني، الذى جثم على صدر العرب طويلا، وراح الشعر العربى يصحو من غفوته الطويلة، على يد رواد مدرسة الإحياء والتجديد محمود سامى البارودى – أحمد شوقى – حافظ إبراهيم .... إلخ، ومع بداية القرن العشرين ظهرت ثلاث مدارس شعرية، عملت على تجديد الشعر العربى، مدرسة الديوان على يد العقاد والمازنى، ومدرسة أبوللو على يد عدد كبير من الشعراء منهم إبراهيم ناجى وأبوالقاسم الشابى، ومدرسة شعر المهجر فى أمريكا الشمالية، الذى كان جبران رائدها ومعه إيليا أبو ماضى وميخائيل نعيمة .... إلخ، وقد وصل شعراء المهجر إلى أمريكا فى ذروة إنتشار حركة (المتسامين) فى الشعر الأمريكى، وكانت (روحانية الماديات)، عند جبران صدى لمدرسة المتسامين، ورغم ذلك استطاع جبران وصحبه مقاومة إغراء العالم الجديد، واحتفظوا بأصالتهم العربية فكراً وثقافة ولغة، ولم يذوبوا فى ثقافة الآخر، واستطاعوا قيادة تيار أدبى يجدد الثقافة العربية وهم فى الغربة، ويذهب عدد من النقاد إلى أن الشعر العربى الحديث قد بدأ مع جبران، فهو ثورة على المألوف فى الحياة والأفكار وطرق التعبير، ومشغول بها جس التغيير حتى لو كان ذلك منطلقا من إحساس بتضخم الذات، حيث يقول فى رسالة إلى مارى هاسكل عام 1914 (فى الأدب العربى أشياء كثيرة أعظـم من أثارى، لكن أقول بصراحة إن أثارى أكبر الآثار فى اللغة العربية اليوم)، ومن المؤكد أن جبران صاحب إسهام كبير فى تجديد الشعر العربى، من قوة التعبير، وشدة التدفق الوجدانى، وسرعة انطلاق خياله الجوال، ومن خلال أفكاره الإنسانية، عالمية الأسلوب فى العرض والتصوير، ويؤكد النقاد على أنه قد وصل فى شاعريته إلى التعبيرية الرمزية، فله أسلوب شعرى يتميز بالصور المبتكرة والألوان الزاهية، نتيجة مخيلة خصبة، غنية بالصور والخيالات الجميلة، التى تسبح فى أذهان المصورين المبدعين.
وكان للرسم دور كبير فى استقراره المادى، مما ساعده على مواصلة الإنتاج الأدبى شعراً ونثراً، وكانت كتاباته مثل البحر الهائج دائما، الهادىء أحيانا، وأفكاره بلا ضفاف، بها بعض المتناقضات الهدوء والصخب، الشك والإيمان، ولكنها تحض دوماً على الخير والجمال، وتعانق المستحيل، خليط نادر من الرقة والصلابة ، والألم والبهجة، ولذلك لم يكن غريباً أن يقول عن نفسه (خطتنى يد الزمن كلمة فى كتاب هذا العالم الغريب الهائل)، ولم يكن غريباً أن يشعر دوماً بالغربة المكانية والإنسانية (كم من أيام أحس فيها أننى هبطت هذه الحياة الدنيا من أحد الكواكب، إننى إنسان أعيش على هذه الأرض بغير أمس، وبغير ماض، إن كل ما حولى من مظاهر البشر وأشكالهم وأضواءهم غريب عندى)، ويمثل إبداع جبران أحد أهم الجسور، التى تجعل اللقاء بين الشرق والغرب ممكناً ، وقد أعاد الغرب تقديم هذا الإبداع فى سبعينيات القرن الماضى، بحثا عن الخلاص والحب، على اعتبار أن جبران رسول الرومانسية ومصارع المادية، وفى جامعة ميرلاند الأمريكية يوجد الاتحاد العالمى لدراسة حياة جبران وآثاره، كما ترجمت أعماله إلى كل اللغات الحية فى العالم.
ولم يكن جبران مجرد مبدع كبير، حيث يحمل هذا الابداع فلسفة إنسانية شديدة الرقى تقوم على دعامتى المحبة والحرية (الحق أقول لكم إن الحياة ظلمة حالكة، إذا لم ترافقها الحركة، والحركة عمياء إن لم ترافقها المعرفة، والمعرفة عقيمة سقيمة إن لم يرافقها العمل، والعمل باطل وبلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة).
ويقول فى كتابه الأجنحة المتكسرة (دخل الحب عالم المعرفة وفتح أبوابه وأنار زواياه، الحب أعتق لسانى فتكلمت، وفرق أجفانى فبكيت، وفتح حنجرتى فتنهدت وشكوت)، فقد عاش حياته يحاول التعبير عن الحب، الحب بمعناه الخالد الشامل، ومن تلك النظرة للحب الإنسانى، نبعت نظرته للدين (الدين فى القلب وليس فى الملل والطوائف)، وكان أكثر الناس تدينا رغم بعده عن الكنائس والطوائف والمراسم الدينية، وعندما وجد مادية الغرب تطغى على كل شىء قال (لو أن المسيح الناصرى التقى يوما بالمسيح كما يعرفه العالم المسيحى اليوم لقال له أنا لا أعرفك).
ويسير جبران فى فلسفته تلك على درب القطب الصوفى الشهير محيى الدين ابن عربى عندما قال فى أشعاره:
وقد صار قلبى قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيــت لأوثان وكعــبة طـــائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب دينى وإيمانى
وقد جمع جبران خلاصة فلسفته فى كتابه الأهم (النبى)، ذلك الكتاب الذى صدر وهو فى الخامسة والثلاثين من عمره، وقد كتب مسودته الأولى فى سن مبكرة، وعرضها على أمه فقالت له (عظيم يا بنى ولكن هذا لم يحن وقته بعد)، وبعد ذلك أعاد كتابته خمس مرات باللغة العربية، وفى كل مرة كان يسمع صوت أمه (لم يحن وقته بعد)، ثم نحى كل هذه المسودات وأعاد كتابته باللغة الإنجليزية ودفعه إلى الناشر، وكتاب النبى خلاصة حكمة جبران ودستوره، وكل رؤاه وأفكاره، وفيه ذلك انوع من الإيمان الذى يدعو إليه، الإيمان بالحقيقة الكلية والقيمة المطلقة للإنسان، وقد أنجز هذا الكتاب المهم بعد أن تصالحت الروح مع المادة فى وجدانه، وراح يكتب عن روحانية الماديات، وناقش ذلك مع شاعر الهند العظيم طاغور، ومع الروائى الفرنسى (بيير أوتى) صاحب التأثير الأكبر على د. محمد حسين هيكل مؤلف رواية زينب.وكتاب النبى 25 موعظة فى
شتى موضوعات الحياة والموت، يحاول أن يجيب على أسئلة كانت تحير المريدين من حوله ويسألونه عنها، ويقول فى هذا الكتاب (المحبة لا تعطى إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها – المحبة لا رغبة لها إلا أن تكمل نفسها – العمل يكون باطلا وبلا ثمن إن لم يقترن بالمحبة، التى تجعلك تحيك الرداء بخيوط مسحوبة من نسيج قلبك) وقد طبعت ملايين النسخ من كتاب النبى، وتمت ترجمته إلى أكثر من أربعين لغة حول العالم، وتقدم كنيسة سانت مارك فى نيويورك فى كل عام مسرحية مأخوذة عن كتاب النبى، ذلك الكتاب الذى يقدم حالة صوفية سامية (الجمال هو ما تراه فتود أن تعطى لا أن تأخذ، علينا الامتزاج بالكون كله، الفناء المطلق فى كل ذرة من كائناته وموجوداته، لنرى أنفسنا فى كل شىء، ونرى كل شىء فى أنفسنا)، وكان كتاب النبى يقرأ فى الكنائس وجبران على قيد الحياة، وقال عن هذا الكتاب (بينما كنت أكتب النبى، كان النبى يكتبنى)، وكان من المقرر أن يطلق على كتابه اسم (الوصايا)، ولكنه استقر على اسم (النبى)، ولا ندرى إن كان جبران قد اطلع قبل كتابة هذا الكتاب المهم، عل واحدة من أهم درر الصوفية، وهى كتاب (المواقف والمخاطبات)، للقطب الصوفى الشهير محمد بن عبدالجبار النفرى، وذلك لأن كتاب النبى يسير على ذات الدرب، ورغم أن كتاب المواقف أكثر عمقاً إلا أنه لم يحظ بذات الشهرة والذيوع التى حصل عليها كتاب النبى .
وقد ترك جبران إرثا عظيما شعراً ونثراً وحكمة ورسماً، ولكنه قبل أن يكمل الثامنة والأربعين من عمره أصابه المرض اللعين، يقال إنه السرطان الذى كان متفشيا فى عائلته، ويقال إنه السل، فتم نقله إلى المستشفى، ليموت فى العاشر من أبريل 1931، بعد أو أوصى أن يدفن فى قريته، وأن يكون ريع كل أعماله لصالح تلك القرية، فعملت شقيقته ماريان وصديقته مارى هاسكل على نقل جثمانه إلى قرية بشرى فى لبنان، وقامتا بشراء دير مارسركيس ليدفن فيه، ويصبح متحفاً لجبران وأعماله، الذى كان وسيظل رمز لبنان الخالد.