د. سيد علي إسماعيل,
مما لا شك فيه أن مصر رائدة العالم العربي في مجالات كثيرة، وهذه المكانة لا تحتاج إلى إثبات أو جدال، والريادة المقصودة هنا هي ريادة السبق والتأثير. وربما مجال المسرح يُستثنى من ذلك كون مصر الرائدة عربياً فيه من خلال تأثيرها في العالم العربي مسرحياً منذ بداية القرن العشرين حتى الآن! لكن ما قبل ذلك كانت الريادة للبنان من حيث البداية والأثر، وبمعنى أوضح أقول: إن مصر رائدة المسرح العربي والمؤثرة في مسرح جميع البلدان العربية، حيث لا يوجد بلد عربي لم يتأثر بالمسرح المصري، أو كان المصريون رواداً في هذا البلد وأنشأوا فيه المسرح! وعندما ننظر إلى مصر رائدة المسرح العربي، وبحثنا عن كيفية دخول المسرح العربي إليها، سنجده دخل عن طريق لبنان بأكثر من طريقة وأسلوب، منها على سبيل المثال:
أول كتاب مسرحي مطبوع باللغة العربية تم عرضه في مكتبات مصر للبيع إلى الجمهور، كان كتاب «أرزة لبنان» لمارون النقاش والمنشور في لبنان عام 1869، وكان يشتمل على مسرحيات: البخيل، وأبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد، والحسود السليط!! وهذا الكتاب، كان يُباع في مكتبة حبيب غرزوزي بفرعيها في القاهرة والإسكندرية، وكانت الصحف تعلن عن بيعه مثل: جريدة «الوقائع المصرية» و«الجوائب». وهذا الكتاب تحديداً كان السبب في إدخال المسرح العربي إلى مصر عن طريق لبنان!!
ففي عام 2012 نشرت الدكتورة «إيمان محمد عبدالله النمر» تقريراً في رسالة الماجستير الخاصة بها -وعنوانها «تاريخ المسرح المصري وأثره على المجتمع»- والتقرير كتبه العميل «زد» عام 1871، وقدمه إلى السيد «ناردي» مفتش بوليس القاهرة، وأشار فيه إلى كتاب «أرزة لبنان»، قائلاً: "اشتمل على مسرحيات مارون النقاش، وهي المسرحيات التي عُرضت في بيروت، ونُشرت باللغة العربية، ولاقت نجاحاً كبيراً. وهذا الأمر شجع سكان القاهرة على تقليد بيروت في أن يكون لهم مسرح عربي. ولإنشاء المسرح العربي في مصر، يُفضل الاعتماد على فنانين من بيروت، لمقدرتهم على ذلك". وبالفعل تم التواصل بين المسئولين في مصر وبين «سليم خليل النقاش» في بيروت؛ الذي حضر إلى مصر في أواخر عام 1874، وقام بجولة في القاهرة ومسارحها، وشاهد في الأوبرا «عايدة» بالإيطالية، فعاد إلى بيروت وقام بترجمتها، ونشرها في أبريل 1875، وأهداها إلى الخديو إسماعيل، وكتب في مقدمتها صراحة أن الحكومة المصرية طلبت منه رسمياً إنشاء المسرح العربي في مصر.
ووفقاً للوثائق -المنشورة في رسالة «إيمان النمر»- علمنا أن الاتفاق رسمياً تمّ بين «سليم النقاش» و«باولينو درانيت باشا» مدير التياترات المصرية؛ على أن يقوم سليم بتجهيز فرقة مسرحية في بيروت، ويأتي بها إلى مصر، كي تعرض مسرحياتها في مسرح الكوميدي الفرنسي بالقاهرة لمدة خمسة وأربعين يوماً، خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1875. وجاءت الفرقة إلى مصر، ونشرت جريدة «الأهرام» خبر قدومها في ديسمبر 1876، قائلة: "لأمر غني عن البيان، أن تشخيص الروايات يُعدّ من الوسائل الأولى، التي بها أدمجت الهيئة الاجتماعية، وأحكم نظامها. وما نجم عن هذا المبدأ الحسن من الفوائد الجليلة، يقصرنا عن الإسهاب في الشرح لتثبيت ما أوردناه. فضلاً عن أن جميع البلاد المتمدنة، تراعي هذا العمل أتم مراعاة، وتسهل السُبل لإتقانه. وبناءً على ذلك، يسرنا أن نرى من أبنائنا نحن العرب، شباناً أقدموا إلى ساحة هذا المضمار، وخاضوا في جوانبه، وتعلموا جميع أبوابه. فأدركوا ما أدركوا، بحزم أقرن بالثبات. وأحكموا ما أحكموا، بجهاد قومته الفطنة، فرجعوا إلينا فوارس محنكين. وكان ممن نبغ فيهم، وحاز قصب السبق بينهم، ذاك الفتى اللبيب والحاذق الأديب سليم أفندي نقاش، الذي تلقى هذا الفن عن عمه، المرحوم الخواجا مارون النقاش الشهير، مبدع هذا العلم في الأقطار السورية، ثم عاناهُ بعدهُ مُجدّاً، وراجع فيه مدققاً، واطلع على مخباءتهِ ببحثه عنهُ في كتب الأقوام، الذين لهم فيه باع طويل. وما لبث أن برهن عما كان هنالك من اكتسابه، بتقديمه روايات عديدة في مدينة بيروت وخلافها. شهد له بإتقانها، وحُسن استكانها، كل من له إلمام تام بهذا الفن. ويسرنا الآن أن نعلن بأنه حضر في هذه الأثناء إلى مدينتنا الإسكندرية، مع رفقته المؤلفة من رجال ونساء، مُتِمين حقوق التشخيص، ليقدم للجمهور ثمرة تعبه، مؤملاً أن يكون سعيه مشكوراً. أما نحن، فبالنظر إلى ما نعهده من درابته ودرايته، وما نعرفه من مهارة المشخصين، وتعودهم على ذلك، فلا شك بأنه سيقدم ما يسر. فلا يقنعك يا صاح بعدم التصديق ظنك بهم أنهم عرب. وقد قيل: كل من سار على الدرب وصل. فالمرجو من الجمهور أن يتلقى مشروعه هذا بالقبول، ويشجعه بواسطة تشريفه، ويعضده بمسانداته الأدبية. حتى يكون لهذه الجمعية آثار حسنة، تفتح في أقطارنا العربية أبواباً لنجاح هذا الفن المرغوب عن كل أمة. أما المحل الذي يجري فيه التشخيص فتياترو زيزينيا". وهكذا شاهد جمهور الإسكندرية ولأول مرة في التاريخ مسرحاً عربياً بفضل سليم خليل النقاش اللبناني!!
إذا انتقلنا إلى أثر لبناني مسرحي آخر في مصر، سنجد «سليمان القرداحي» الذي افتتح أول «مدرسة للتمثيل» في مصر وتحديداً في الإسكندرية عام 1877. فمنذ عدة سنوات، أرسل لي إسكندر القرداحي من فرنسا -وهو ابن أحد أحفاد المسرحي بولس القرداحي، ابن عم المسرحي سليمان القرداحي- عدة خطابات مكتوبة بخط يد جده (ألفريد بولس قرداحي 1888 : 1988). وفي أحد الخطابات، قال جده: إن والده بولس "انضم إلى ابن عمه سليمان القرداحي الممثل الشهير.... اتفق والدي مع عمي سليمان في عمل جوق للتمثيل ليتفرغ عمي سليمان للتمثيل ووالدي للإدارة والأسفار والمالية كلها في يده. سكنا في الدور الثالث العلوي وعملنا «مدرسة للممثلين» في الدور الثاني وفتحت والدتي مدرسة للبنات في الدور الأرضي وكان عمي سليمان يعلم التمثيل للممثلين. وبعد كم أسبوع نجح الممثلون والممثلات في دورهم في تمثيل رواية «أوتللو»، أي القائد المغربي تأليف الشاعر الإنكليزي شكسبير".
تحققت من صدق ما جاء في هذا الخطاب عن طريق الأخبار المنشورة في الصحف المصرية، والتي أكدت أن «كرستين» زوجة سليمان القرداحي افتتحت مدرسة للبنات في العطارين بالإسكندرية، وتحديداً بجوار قراقول العطارين، كما نشرت جريدة «الأهرام» عام 1877. وفي نهاية العام الدراسي نشرت الجريدة نفسها يوم 16/8/1878 كلمة تحت عنوان «امتحان المدرسة الوطنية بالإسكندرية»، جاء في نهايتها الآتي: "وقد جُملّن الامتحان بأن ختمنه بروايتين فرنسوية وعربية، وذلك في الساعة الثالثة من بعد ظهر الأربعاء، فحضر من عمدٍ ومتوظفي حكومة، وعائلات عديدة، غصت بهم ساحة تلك المدرسة الرحبة. والحق يقال إن الروايتين كانتا على غاية ما يرام". وهذا الخبر لو أضفناه إلى أن مادتي الموسيقى والتصوير، كانتا ضمن المقررات الدراسية، فهذا كله يعضد ما جاء في خطابات الجد ألفريد، بأن هذه المدرسة كانت تُدرس التمثيل! لأن من غير المعقول أن تقوم الطالبات بتمثيل مسرحيتين باللغة العربية وبالفرنسية دون دراسة أو تدريب على تمثيلهما!!
بعد عامين، أغلق سليمان القرداحي المدرسة في الإسكندرية، واتجه إلى المسرح، فكوّن فرقة مسرحية تحمل اسمه وانتقل بها إلى القاهرة، فلاقى دعمًا كبيرًا من كل الجهات، كي يعرض مسرحياته في الأوبرا الخديوية -المخصصة فقط للفرق الأجنبية- فأصبحت فرقته أول فرقة مسرحية عربية -أو مصرية إن وُجدت- تعرض مسرحياتها باللغة العربية في دار الأوبرا الخديوية! وكانت جريدة «الأهرام» تتابع نشاط القرداحي وفرقته؛ حيث نشرت أخباره في مارس 1882 قائلة: "أذكر لكم حضور جناب الشاب النبيه سليمان أفندي قرداحي إلى عاصمتنا لإعداد ما يقتضي تقديمه بعض تشخيصات في تياترو الأوبرا، وبلغني أن نظارة الأشغال وعدته بذلك، ولا شك بأن الحكومة ستنظر بعين الالتفات وبعنايتها المعتادة إلى مساعدة هذا الفن العربي الجزيل الفائدة". وبناء على ذلك أعلن القرداحي عن برنامج عروض فرقته في الأوبرا الخديوية، ونشر ذلك في جريدة «الأهرام» يوم 28/3/1882، تحت عنوان «أوبرا عربية»؛ قائلًا: "بعد الاحترام المعروض لمقامكم أنني بعد الاتكال عليه تعالى وطلب أولي الفضل قد تقدمت إلى العمل بفن الروايات الذي له من المزية الفكاهية والفائدة الأدبية ما لا يخفى عليكم، فنظمت جوقًا عربيًّا راعيت في انتقاء أشخاصه ما تجب مراعاته من حيثية التشخيص، ورخامة الصوت، وحسن الإلقاء، كما أني قد اخترتُ لهذا الفن أجلّ الروايات وألطفها، وبذلتُ الدرهم، وأحييت الليل والنهار في سبيل إتقانه. ولما كان مشروعي هذا لا يقوم إلا بعضد أولي الحمية والغيرة اخترتُ أن أقدم أربع روايات مختلفة المواضيع على ست ليال... «الروايات المعينة للتشخيص»: فرسان العرب، وتليماك، وزفاف عنتر، والفرج بعد الضيق".
نجحت الفرقة نجاحًا كبيرًا في جميع عروضها المسرحية العربية، التي عرضتها في الأوبرا الخديوية، بفضل دعم الخديو لها! وظل هذا النجاح شبه متواصل من عام 1882 إلى أواخر عام 1888، لأنه في عام 1889 تعاقد مع متعهد إنجليزي للسفر بفرقته إلى باريس للاشتراك في معرضها الصناعي الدولي، واحتفالاً بافتتاح برج «إيفيل»، وهذا يعني أن سليمان القرداحي اللبناني كان له الفضل الأول في اشتراك مصر بفرقة فنية مسرحية في معرض باريس في أول مشاركة مصرية مسرحية خارج مصر وتحديداً في أوروبا. ومن خلال متابعتي لأخبار سليمان القرداحي وفرقته في الصحف الفرنسية، وجدتُ جريدة الفيجارو -(LE FIGARO) بتاريخ 24/8/1889- نشرت خبراً تحت عنوان (COURRIER DE L’XPOSITION) «أخبار معرض إكسبو العالمي»، أوضحت فيه إن خديو مصر -وللمرة الأولى- منح الإذن للفرقة الوطنية بدار الأوبرا الخديوية بالسفر خارج مصر لتقديم عروضها في فرنسا بقيادة سليمان القرداحي، الذي انتقى ثلاثين فنانًا وفنانة بعناية شديدة. وهذه الفرقة سافرت من الإسكندرية يوم السبت، ومعها ملابس التمثيل ومناظر عروضها في الأوبرا الخديوية. وينتظر قدومها في ميناء مارسيليا السيد «سيمور واد Seymour Wade» مدير مسرح المعرض الدولي. وفي اليوم التالي 25/8/1889، نشرت جريدة الوقت الفرنسية (LE TEMPS)، خبر وصول الفرقة إلى باريس، وحدَّدت أن الفرقة ستعرض على مسرح المعرض الدولي ثمانية وعشرين موضوعًا! وبعد ثلاثة أيام -أي في 28/8/1889- نشرت جريدة (Le Gaulois) أن الفرقة ستبدأ عروضها يوم 30 أغسطس على مسرح المعرض العالمي في شارع (Suffren) قرب مبنى الكرة الأرضية ومعرض المكسيك. كما حددت الجريدة أن العروض نهارية وليلية، وتستغرق ثماني ساعات كل يوم.
ومن خلال هذا الخبر -وغيره من الأخبار- نعلم أن فرقة سليمان القرداحي، ستعرض عروضها الفنية على خشبة مسرح أُقيم خصيصًا للعروض المسرحية والفنية العالمية، التي ستعرض أمام جميع زوار العالم في معرض إكسبو في باريس عام 1889. ولو علمنا أن فرقة القرداحي عرضت عروضها داخل هذا المعرض، الذي أُقيم أسفل برج إيفل الشهير -ذلك البرج الذي تمّ افتتاحه في هذا المعرض وفي هذا العام تحديدًا- سنعي جيدًا أهمية ظهور أول عروض مسرحية شعبية فنية مصرية، تُعرض أمام العالم من خلال هذا المعرض. هذه الأهمية، فطن إليها مدير المسرح «سيمور واد Seymour Wade»، الذي تعامل مع الأمر بصورة تجارية بحتة -وربما بالاتفاق مع سليمان القرداحي وبموافقته- حيث صمّم أول إعلانٍ - أو أفيشٍ.. مُلصقٍ.. بوسترٍ– ملونٍ لفرقة مسرحية عربية؛ حيث وضع بطول الإعلان رسمًا كبيرًا لامرأة شرقية ترقص بالسيف العربي، وترتدي ملابس شرقية فاتنة، وشعرها يتطاير، وكأنها إحدى بطلات ألف ليلة وليلة. وفي أسفل الإعلان صورة صغيرة لرجلين يتبارزان بالسيف والدرع، وفي أعلى الإعلان صورة صغيرة لأبي الهول والأهرامات. أما العبارات المكتوبة، فهي اسم الفرقة المصرية المكونة من: الراقصين والمغنيين والمصارعين والمبارزين بقيادة سليمان القرداحي. أما أهم عبارة مكتوبة وبخط كبير في الإعلان أن الفرقة: هي فرقة الأوبرا الخديوية! ويُلاحظ على هذا الإعلان؛ إنه موجه إلى جمهور فرنسا وشعوب العالم -من زوار المعرض- لمشاهدة الفنون الشعبية المصرية الشرقية العربية، التي ستعرض على خشبة المسرح لأول مرة في أوروبا، ومنها: الرقص الشرقي، والغناء العربي، والمصارعة، والمبارزة بالسيف والرمح.. إلخ. وهذا بالفعل ما حدث، حيث نشرت جريدة (LE MENESTREL)، في 1/9/1889 وصفًا مسهبًا، أبانت فيه أن فرقة الأوبرا الخديوية تشتمل على أربعة عازفين من النوبة في صعيد مصر، وثلاث فتيات مطربات، وأربع عازفات سودانيات، وثلاثة موسيقيين من القاهرة.
كما تشتمل الفرقة على ست راقصات جميلات مصريات، مثل: شوق أفندي، وهانم أفندي. وثلاثة مصارعين، والمغنية الشهيرة زينب، والمغني الشهير الشيخ علي عثمان. كما ذكرت الجريدة أن خديو مصر منح الفرقة 400 جنيه دعمًا لها، وأشارت الجريدة كذلك إلى أن (سيمور واد Seymour Wade) هو أول إنجليزي ينجح في إقامة هذا المسرح الكبير داخل المعرض خلال خمسة وثلاثين يومًا، وهو مسرح يتسع لـ2500 متفرج.