رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


رحلتي مع القراءة

9-11-2024 | 14:21


محمد جبريل,

يقول الأمريكي جيرالدين بروكس: إن التعرف إلى مكتبة شخص ما، يعني التعرف إلى عقل الشخص وفكره. 

أذكر شقة الشاعر عبد الله أبو رواش بمدينتي الإسكندرية، تحولت إلى مخزن للكتب. كان يعرف أن معظم ما تضمه ربما لن يسعفه العمر بقراءته.. لكنه كان يجد في اقتناء الكتب سعادة شخصية.

وبرغم اشتداد المرض على صديقي الراحل أحمد حسين الطماوي، فقد فاجأني – وأنا أعبر بوابة معرض القاهرة الدولي للكتاب – وهو يعاني حمل ربطتي كتب، اقتناها من المعرض.

قال لنظرتي المشفقة: أعرف أن صحتي قد لا تساعدني على قراءتها، لكنني سأحزن لو لم أحصل عليها!
بل إن السارد في رواية صديقي الروائي اليمني الغربي عمران" بر الدناكل" يذهب إلى أن" القراءة فقط هي ما يذكرني بأنى على قيد الحياة".

ثمة من يحرص على المكتبة في بيته، لا للإفادة مما تحويه في القراءة، وإنما لما يمكن تسميته بالمظهرية. 

ظلت مكتبة صالة "المساء" في موضعها منذ آلت ملكية مبنى شركة الإعلانات الشرقية إلى دار التحرير، مئات الكتب المجلدة، على أغلفتها أسماء بالإنجليزية والفرنسية، أعمال مهمة لمبدعين ومفكرين عالميين: زولا وبلزاك وديكنز وهوجو وتولستوي وديستويفسكي وفلوبير وغيرهم. أجد في الكنز الإنساني الضخم باعثًا للألفة والمؤانسة. 

بالطبع، فإن القراءة ليست الهدف من شراء الطبعات القديمة، أو النادرة، من الكتب. إنما الهدف هو الاقتناء. تمامًا مثلما نقتني الأيقونات والعملات والطوابع القديمة.

إذا عدت بالذاكرة إلى فترة الصبا، فلست أذكر كتابًا محددًا في مكتبة أبي. كان الوعي في بداياته، فعلق بذاكرتي القليل من كثير القراءات في أيام طه حسين، وماجدولين المنفلوطي، وإبراهيم الكاتب للمازني، ورسالة الزيات، وثقافة أحمد أمين، ومجلة محمد أمين عبد الرحمن الدينية. لو أن قراءاتي - خارج منهجية التعليم - اقتصرت على مكتبة أبي، فلعل أهم ما كنت أحصل عليه من تلك القراءات كتب التراث والتاريخ.

ثمة قراءات البسطة أمام شقة محمود أفندي، في البيت المقابل، في مجلات اللطائف والاثنين والدنيا، أهم ما أذكره من قراءاتي في مكتبة البلدية، الملاصقة لمدرستي الثانوية في شارع منشة (أنشئت في 1892 كملحق للمتحف اليوناني، ثم انتقلت في 1917 إلى شارع أبو الدرداء، ومنه استقرت في موقعها الحالي في فيلّا البارون شارل منشا بمحرم بك، في الشارع الذي أطلق عليه اسمه. ثم أجريت في المبني – بعد عشر سنوات – عملية تجديد وتحديث، لتؤدي دورها على النحو المطلوب) كتب يوسف كرم. أحببت تواضع أستاذيته، ولغته البسيطة، السهلة، واختيار أبسط العبارات لشرح أعقد المسائل. أذكر رواية " مذكرات الأمرة يراعة" لصالح حمدي حماد، تخلص منها زميل - أعني التعبير - في المدرسة الفرنسية الأميرية، فمثلت نقطة الانطلاق في العالم الفسيح لكتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" وماتلاه من كتب: مصر المكان، مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات، ملامح مصرية، مصر من يريدها بسوء، وغيرها. والتقيت نجيب محفوظ - للمرة الأولى - في مكتبة المنيرة. طالعتني رواية" خان الخليلي" من فوق الطاولة، وأنا أتهيأ لمغادرة المكتبة، كنت قد اعتزمت أن أقرأ كل ما تحويه المكتبة بطريقة الألف باء، حتى الياء. لم أكن قرأت غثيان سارتر، فأفعل ما حاوله روكيتان. نشأت الفكرة من نفسي.

لو أني أخلصت فيما اعتزمته ربما كنت الآن في داخل المكتبة، بافتراض أن مسئولي دار الكتب لم يغلقوها مع مكتبات الأحياء، ولعلي أكون في الأسماء الأولى لحرف الألف.

بالمناسبة: ليت المسئولين عن الثقافة في بلادنا، يدرسون اقتراح السفير عبد الرءوف الريدي بإنشاء مكتبة لكل مائة ألف مواطن، والبداية إعادة مكتبات الأحياء.

اكتشفت - بعد ذلك - ول ديورانت في " قصة الحضارة" بترددي على المكتبة الأمريكية في شارع فؤاد، وبخاصة الميثولوجيا الإغريقية، والديانات السماوية، وأساطير القرون الوسطى، وثقافات عصر النهضة، والحربين العالميتين الأولى والثانية. واستعرت كتب الإباضية والشيعة والمذاهب الإسلامية من مكتبات أصدقائي من المثقفين العمانيين. 

أنا طاهر حسين في روايتي "مشارف اليقين"، الذي وجد في كتاب " قضاء أمير المؤمنين" ما دفعه إلى مراجعة الكثير من المعلومات والأفكار.

كانت الخيالات تأخذني، أناقش فيها من هم في سني من أولاد العائلة. أسأل، يغيثني التصور في ردي على الأسئلة. عرفت - متأخرًا - أن أولادًا كانوا ينقلون حواراتنا إلى أسرهم، فحذّروا الأولاد من صداقتي!

الكتب عندي ليست للتسلية، أو لتزجية أوقات الفراغ، أو حتى لأخذ العبر، لكنها خزائن للمعرفة، ولخبرات الآخرين. 

أجلس إلى جوار نافذة القطار، أو الباص، بيدي كتاب، وفي اليد الأخرى قلم. وحتى الآن فأنا أقرأ لأقرأ لا لأكتب، أقرأ للمعرفة والفهم والاستنارة، ما أكتبه أصداء قراءات قد لا يكون لها صلة بما قرأت، أقرأ فى السياسة والاقتصاد وعلم النفس والطب إلخ.. وإن كنت أثق بأن المعرفة لا تكتسب من الكتب وحدها، إنما هي نتيجة الخبرات التى يحصل عليها المرء بنفسه، أو يتعرف إليها بالمشاهدة أو السماع.

إذا كان اليسار هو طلب الحرية والتقدم والحرية، فإني كنت – في شبابي الباكر – يساريًا دون أن أعرف الفوارق بين اليمين واليسار، ولا بين التنظيمات السياسية أو التوجهات الفكرية. ذلك ما كنت أومن به، وأدعو إليه. صدرت محاولتي الإبداعية الأولى" الملاك" – لم أكن جاوزت الخامسة عشرة من عمري - بدفاع جهير عن الحق والخير والجمال، وحدثتك في" حكايات عن جزيرة فاروس" عن الحوار العبثي، الساذج، الذي دار بين طالب في المعهد الديني بالمسافرخانة وبيني، دون أن أكون محصنًا بمعلومة عن الشيوعية التي دافعت عنها.

تمنى الأرجنتيني ألبرتو مانجويل أن يصبح أمين مكتبة. ربما أجاوز تلك الأمنية، فأخلو إلى محتويات مكتبة، أقرأ ما بها دون رهان مشابه لما فعله بطل قصة بهذا الاسم لجوركي. تشمم رائحة الكتب تعبير مجازي، لكنه – بالنسبة لي – تعبير عن واقع الحال. تأخذني الرائحة المميزة للكتب في مكان مغلق. مجرد رصّات الكتب، دون فهرسة، ولا إعداد، أو ترتيب، يداخل النفس بشعور يفوق الشعور بالملكية!
أهملت قول صديقي إنه استغنى عن الكثير مما كانت تضمه مكتبته، إما لأنه قرأه، أو لأنه لم يعد يجد ما يغريه بالقراءة. كانت الأرفف قد امتدت من الأرض إلى السقف، لا فراغات بينها وبين الحائط والسقف. تمنيت أن أكرر قصة جوركى، أغلق مكتبة "النن" على نفسي من الداخل، أواصل القراءة فلا أتوقف. أستعيد قول ألبرتو مانجويل "أعطتني القراءة عذرًا مقبولًا لعزلتي، وربما أعطت مغزى لتلك العزلة". 

لعلى أتذكر مدرسي في مدرسة البوصيري الأولية، كان يقرأ عند سيره في الطريق، أتساءل – بيني وبين نفسي - ألا يخشى أن يصطدم بما لا يتوقعه، شجرة – مثلًا – أو عمود إنارة، أو حتى بشر غابت عن تصورهم أحادية سيره.

أذكر الأمكنة التي اقتنيت منها معظم كتبي، حجم الكتاب، لون الغلاف، فأنا أستطيع العودة إليه إن تبدّل موضعه. أعرفه على أرفف المكتبة، أتجه ناحيته، يصح - في الأغلب - تخميني. هذا هو الكتاب الذي أريده.

مع تعدد المكتبات التي أفدت من مقتنياتها، فإن مكتبة دير الدومينكان بالعباسية تظل هي المكتبة الأنسب لمحبّي القراءة، وخاصة ما يتصل بالحضارتين الإسلامية والعربية. لا إجراءات من أي نوع تسبق حصولك على الكتاب الذي تريده، كأنك في مكتبة بيتك. تتجول بين الأرفف، تقلّب العناوين، تتأكد - بالقراءة المتفحصة – من المعنى الذي تقصده، تضع الكتاب على السلم ذي الجرار، إضافة إلى كتب أخرى قد تختارها، أو تعيده إلى موضعه. إذا لم تجد – في جولتك على القدمين – ما تطلبه، فأنت تستطيع أن تصعد السلم، لمراجعة الأرفف العلوية، بحثًا عن الكتب التي تطلبها.

دفتر الزيارات الضخم يبين عن الرموز الثقافية الذين قصدوا مكتبة الدير طلبًا لمصادر أو مراجع، قد تغيب عن باقي المكتبات العامة والخاصة. تقرأ توقيعات طه حسين وزكي نجيب محمود وبحيى حقي وتوفيق الطويل ونجيب محفوظ وعاطف العراقي وعبد الحليم عبد الله. 

القائمة طويلة. 
المشكلة الوحيدة التي يعانيها طلاب القراءة – في زيارات متباعدة – هي غياب حاسة الصيدلي أو العطار، الذي يعرف ما يحتاجه في آلاف الكتب المتراصة على الأرفف. لتقارب زياراتي، ولإقامتي في الدير أحيانًا، فقد شحب شعوري بالغربة، ساعدني في مغالبته عون الآباء الدومينكان: قنواتي، وبانيرت، وجومييه، ومونو، وشارتييه، وحلقات السلسلة المضيئة.
 
يصعب الحديث عن مراحل متعاقبة في القراءة، الأصوب أنها مراحل متداخلة. في ترددي على المكتبات، كنت أقبل على القراءة، بلا خطة محددة، وبلا توجيه. مجرد إرضاء حب القراءة، لا يشغلني الجنس الذي أقرأه، بل ولا أقصد جنسًا بذاته. أقرأ في أي مكان، وفي أي وقت، على المكتب، على مائدة السفرة، تحت عمود بصحن جامع، على شاطئ البحر، في حديقة سراي رأس التين، لصق نافذة في وسيلة مواصلات، بل إني اعتدت القراءة على أصوات باعة المواصلات العامة، يذرعون الطرقة، أو يقفون إلى جانبي، تعلو نداءاتهم، فتغطي مساحة العربة. إذا استغرقتني القراءة، فإني أنفصل عما حولي، أحيا في جزر تصنعها القراءة. أتذكر قول ألبرتو مانجويل" أعطتني القراءة عذرًا مقبولًا لعزلتي، وربما أعطت مغزى لتلك العزلة".

إذا كنت قد بدأت بمحاولات الإبداع الشعري، أو السردي، فإن تنمية الوعي والقدرات كانت المدخل إلى المجال الذي أحببته في السرد. 

أذكر السؤال الذي فاجأني به كل من يحيى حقي ونجيب محفوظ: أيهما أقرب إلى نفسك.. السرد الإبداعي أم النقدي؟. 

قلت بلا تردد: الإبداع. 

قال كل منهما ما معناه - مع اختلاف اللحظة - انْه هذه الدراسة في أقرب وقت لتفرغ للإبداع الذي تحبه. 

اعتدت أن أقرأ في أي وقت، وفي أي مكان، في الصالة، في حجرة النوم، تحت ظل شجرة، في وسائل المواصلات، لأني أركبها من أول الخط، فمن السهل أن أجلس في الموضع الذي أحبه، على اليمين، إلى جوار النافذة، تأخذني القراءة، عدا نظرات خاطفة تلتقط ما تثيره جلبة الطريق. حتى شاطئ البحر أجلس فيه للقراءة، يترك أصدقائي ملابسهم وينزلون البحر. أظل في وضع القراءة، حتى يعود رفاق الرحلة، فأطوي الكتاب، تأهبًا للرحيل.

أمضيت أعوامًا طويلة، أقرأ دون نظام، أو منهج محدد، ألزم به نفسي. ما يصادفني أقلّبه، أتصفح الكلمات، أفر الأوراق، أنحي ما بيدي، أو أواصل القراءة. أقرأ دون دليل أو موجه، يحرك حبي للقراءة إقبال عليها، أشبه بالإدمان الذي يتملك المرء إزاء شيء ما. لا شأن لذلك بنوعية القراءة، ما أقبل على قراءته بقدر الفكرة واللغة والأسلوب. وحسب تعبير مي زيادة، فإن الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يلتقي فيه غريبان بحميمية كاملة.

عرفت منهجية القراءة في مرحلة تالية، أدركت ما ينبغي قراءته، واستيعابه، وحفظه، ما يضيف إلى مخزوني المعرفي، ومن ثم إلى مشروعي الأدبي.

أردت بكتابي" مصر في قصص كتابها المعاصرين"، والكتب التالية: مصر المكان، مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات، مصر من يريدها بسوء، وغيرها من الكتب التي كانت ثمارًا لدراسات. أردت أن أقرأ، وأدرس، على نحو منهجي. أزمعت - خضوعًا لحماسة الشاب الذي كان - أن أتجاوز نفسي، دون أن أتبين ما أنا عليه، فأتجاوزه، وما أتوق إلى بلوغه لأحقق المجاوزة.

عدا نجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وغيرهم ممن أدين لهم بتأثيرات إبداعية مهمة، فإن تأثري - في عموم القراءة - شمل الكثير من الكتاب، أثريت بكتاباتهم حصيلتي المعرفية. الأعداد يصعب حصرها. من أذكر أسماءهم حالًا، قد أنساها في تذكر تال، وأتذكر أسماء أخرى أجد أنها أسهمت في تكويني المعرفي.

كنت أقرأ الكتاب الذي يجتذبني، أجد فيه ما يضيف إلى حصيلتي المعرفية، أو يطرح أفكارًا تحض على المناقشة، أو يمتعني. لا صلة لذلك بنوعية الكتاب، ولا اسم المؤلف، كتبه للقراءة، لم يحدد لقارئه سنًا محددة. تتحول الحروف إلى كلمات، تصبح الكلمات كائنات وأمكنة ووقائع.

لما تعرفت إلى الروائي نجيب محفوظ، والقاص يوسف إدريس، والشاعر صلاح جاهين، كانت اهتماماتي القرائية بلا كاتب محدد. أنا أقرأ ما تصادفه يداي، أتحمس لما يناوش ذهني أو وجداني، بصرف النظر عن نوعية الجنس الذي تضمه صفحات الكتاب. اجتذبتني كتابات يوسف كرم الفلسفية بالقدر نفسه الذي وجدته في روايات المنفلوطي، وخواطر المازني، وأفكار العقاد، ولغة طه حسين، وترجمات مسامرات الجيب وكتابي.

كما أشرت في كتابي " مصر في قصص كتابها المعاصرين" فقد كنت أتأثر بآخر كتاب قرأته، ولا أثبت عند أفكار تصدر عن قناعتي. أطمح - نتيجة ذلك التأثر - لكتابة، أعبر فيها عن رؤى غير واضحة، ومشوشة، حتى أني وعدت القارئ في ثاني محاولاتي الإبداعية ( كنت في حوالي السادسة عشر من العمر ) بكتاب - لم أكن كتبت فيه حرفًا واحدًا - بعنوان" الشعلة المقدسة" عن التاريخ المصري منذ أقدم العصور!.

في رواية أندرو ميلر" كازانوفا" يتحدث الشاب عن برنامجه اليومي الذي يتحدد في قضاء كل نهار في جوب المدينة، وكل ليل في القراءة. يبدي اللورد دهشته: القراءة جعلت لمن لا يملكون ذكاء، أو مالًا يتيح لهم الاستمتاع بطرق أخرى!. يذكرنا بقول ساراماجو إن البعض يقضي حياته كاملة في القراءة دون أن يحقق شيئًا أبعد من ذلك، فلا يدرك أن الكلمات ما هي إلًا أحجار مرصوصة، نعبر فوقها إلى الضفة الأخرى للنهر، وهذه الضفة هي الأهم. 

المعرفة لا تكتسب من الكتب وحدها، إنما هي نتيجة الخبرات التي يحصل عليها بنفسه، أو يتعرف إليها بالمشاهدة أو السماع.

يغيظني التصور أن اهتماماتي قوامها الأدب، وما يتصل به من القراءة والكتابة، لاصلة له باهتمامات الآخرين في اللعبات الرياضية، مشاهدة المسرحيات والأفلام السينمائية، الجلوس أمام التليفزيون، التردد على معارض الفن التشكيلي، المناقشة في الأحداث السياسية والاجتماعية، حضور عروض الأوبرا والأوبريت، الصعلكة – أحيانًا – لمجرد استعادة زمن مضى.

سئلت كثيرًا: ما إذا كنت قد قرأت كل ما تضمه مكتبتي؟
أعرف أني لن أستطيع قراءة كل ما في المكتبة. دكان العطار حافل بآلاف المسميات، يعرف أماكنها، لكن  السنوات قد تنقضي دون أن يحتاجها.

لذلك، فإن الإجابة التي ثبت فحواها، وإن تبدّلت كلماتها، أن اختياري للكتب في تصور حاجتي إليها. ربما رجعت إلى كتاب أكثر من مرة، وربما يظل في موضعه دون قراءة، لا أعود إليه مطلقًا.

لتعدد قراءاتي، ولأني - كما قلت - كنت أتأثر بالقراءات الأخيرة، فلم يتشكل في ذهني، ولا وجداني، كاتب أخصه بتلمذتي. لا أعني كُتّاب الإبداع السردي والشعري، إنما أعني مؤلفي الكتب المحملة بالمعلومات الصائبة والخاطئة، والاجتهادات المتباينة.

ذات صباح، نظرت إلى أوراق الصحف المكومة على الأرفف، حصيلة أرشيف أعتز به، سألت نفسي: متى أقرأها؟ 
تبدل – من يومها - برنامجي القرائي، توالت الأيام دون أن أفتح – إلا نادرًا - صفحة في كتاب تهمني قراءته. بالإضافة إلى استعادة أصداء الكتب التي قرأتها، روايات ومجموعات قصصية ومؤلفات فلسفية وتاريخية ودينية وفي علم الاجتماع، ثم بدأت في التخلص من الأصداء والتأثيرات، حتى امتلكت صوتي الخاص، لكنني أشعر – في أحيان كثيرة – أن رأسي محملة بالمعرفة، ما يجعلها قلعة حصينة، تعبر عن قوتها في الكتابات والحوارات، وأشعر - أحيانًا أخرى – أن الإجهاد البدني والذهني جعل رأسي مثل بناية لحقها الخراب، فهي أشبه بالطلل. أتباطأ في الكتابة، وأطيل البحث عن الكلمة في الحوار.

 نصائح الأطباء تشير بعدم الإسراف في القراءة. إنها تهد الجسد والنفس. يتجمد المرء في جلسته، بما يعطي الفرص للأمراض التي يحدثها عدم الحركة، تشغله المناقشة، ومحاولة الفهم، والمتابعة. ينعي همومًا كانت غائبة عن وعيه، يتسلل العالم - بمشكلاته - إلى ذهنه، يصبح - دون أن يدري - مسئولًا عن الأزمات والحروب وتغير المناخ. 

أسوأ الأوقات عندما تغيب الرغبة في القراءة - والكتابة - يطول رقادي، أو جلستي الساكنة، أحدق في الفراغ، أو أسرح في اللاشيء. رفضت وصف الاكتئاب لأني - في اللحظات نفسها - أتابع نشرات الأخبار، أو أخلو إلى تأملات.

يسألني صديق: ماذا تكتب الآن؟
أتردد في ذكر عمل محدد، فأنا لا أفرغ لعمل ما إلا إذا أحكم سيطرته على وجداني. عدا ذلك، فالقراءة دافع إلى التأمل، والتأمل دافع إلى الكتابة، تختلط الرؤى في الذهن، فلا تقتصر لحظات الكتابة على موضوع محدد.

الرغبة في الكتابة تواتيني وأنا أقرأ، لا أعرف متى يحدث ذلك، ولا أعرف البواعث التي تحفزني لكتابة عمل إبداعي، وإن لاحظت أني أتوقف عن القراءة فى لحظة ما، أنسى ما كنت أقرأه، وأبدأ في كتابة ما لا صلة له فى الأغلب – بتنوع قراءاتي. أعرف أن الكاتب يشحذ موهبته بالقراءة، لكن القراءة لا تصنع كاتبًا، لابد من الموهبة.

أنسب غيابي عن فترة الستينيات إلى نفسي. القليل نشرته في صحف تلك الفترة، ولم أشارك في الأنشطة الثقافية بصورة فعالة، ذلك لأني ألزمت نفسي - قبل أن أفرغ للإبداع - أن أقرأ الإبداع، وما يتصل به، وأمضيت حوالي تسع سنوات حتى أنهيت كتابي " مصر في قصص كتابها المعاصرين"، الذي حصلت به على جائزة الدولة، وأصدرت أولى رواياتي " الأسوار ".

أتاح لي " مصر في قصص كتابها المعاصرين" أن أدرس خريطة السرد الفني جيدًا، الرواية والقصة القصيرة، وما يتصل بهما من نقد ومذكرات وتراجم وخواطر شخصية. كان همي أن أخرج من تبعية المألوف المتاح، احتذاء الخلف للسلف، إعادة إنتاج ما يملأ السوق السردي.

بصرف النظر عن قيمة روايتي " الأسوار " في اجتهادات النقاد. من يجد فيها فنًا عالي القيمة، ومن يعيب – لأسباب مذهبية - رداءتها، فإنها تحتل موقعًا مهمًا في تاريخي الشخصي للرواية، ذلك لأنها كانت أول رواية أكتبها بعد محاولات، من الطفولة إلى نهاية الصبا. ألفتها بعد قراءات في فن الرواية، مضافاً إليها قراءات في شتى الإنسانيات، سعيًا - فيما بعد - لتقديم فن يعبر عن أخص ما يمتلكه الفنان من موهبة ومعرفة وخبرات. 

أفادت الرواية من تفاعل الفنون بما يدفعني إلى القول بأنها أول عمل إبداعي عربي يفيد من تفاعل الأنواع بصورة حقيقية. ثمة الحدوتة، والهارموني الموسيقي، والتقطيع، والفلاش باك، والقص واللصق، والتبقيع كما في الفن التشكيلي، والحوار الدرامي، إلخ. أفدت - في أعمالي التالية - من تجربتي في الأسوار، لكن قيمة الرواية في ريادتها - بالنسبة لكاتبها في الأقل - وفي أنها شملت جوانب كثيرة من الفنون الأخرى.

حين سافرت إلى الخليج في رحلة عمل، استغرقت حوالي تسع سنوات أخرى، لم يكن لانشغالي بالعمل الصحفى تأثير على الكتابة الأدبية، انتزعت من الوقت ما أنفقته في القراءة والكتابة الإبداعية، وهو ما تواصل عقب عودتي إلى القاهرة، القراءة جزء من مشروعي الأدبي، وهي تسبق الكتابة. أعاني إدمان القراءة، أقرأ كل ما يقع عليه نظري، لا أدقق في المادة، أكتفى بأنها سطور على الورق، فلابد أن تقرأ.

أحاول التعبير، وأواجه اتهامًا بغزارة الإنتاج، دون أن يتطرق أصحاب الاتهام إلى قيمة الإبداع، وهل يستحق التسمية، بل ودون أن يطرحوا المقارنة - من حيث الكم - بين ما صدر لي، وما صدر لزملاء أعزاء، تكاثرت كتاباتهم مثل خلايا نحل. 

لا أعتبر كثرة الكتابات مقياسًا لمكانة المبدع، ولا أعتبر قلة الكتابات مقياسًا مقابلًا، المهم أن يساوي الإبداع قيمة الوقت الذي أنفق في كتابته، والورق الذي سطر عليه. 

إن لي مشروعي الأدبي الذي ينهض على فكرة المقاومة، وما يتصل بها من قضايا مهمة، تشكل في مجموعها ما أعتبره فلسفة حياة، وتحاول الاقتراب من تكامل المشروع.