رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


هدية أخرى لنهر الهان

9-11-2024 | 16:04


آلاء فتحي,

في أكتوبر 2024، أعلنت لجنة نوبل عن فوز الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج بجائزة نوبل للآداب لهذا العام. وبهذا أعطت هان كانج لكوريا الجنوبية أولى جوائز نوبل في فرع الآداب، ليس ذلك فحسب، بل تعد كانج السيدة الثامنة عشرة الحاصلة على الجائزة والأولى في القارة الآسيوية. فهي لحظة فخر واعتزاز لكل كوري، وأيضًا إشارة لإمكانات الأدب النسوي الآسيوي في الساحة العالمية.

وبهذا قامت هان كانج التي يحاكي اسمها اسم نهر الهان (اسم الكاتبة كانج يعني باللغة الكورية نهر) الذي يقطع العاصمة الكورية الجنوبية سيئول، بإضافة هدية أخرى تنسب إلى هذا النهر العظيم ليصبح رمزًا للإبداع الثقافي الغني فضلًا عن كونه رمزًا للتقدم الاقتصادي الكوري. فهان كانج ليست مجرد كاتبة، بل هي حلقة وصل بين تاريخ النهر وتطلعات الحاضر في الأدب الكوري، استطاعت بقلمها أن تعكس العمق والجوهر الثقافي لكوريا الجنوبية وأن تبرزها للعالم.

حياة هان كانج وبداية رحلتها الأدبية

  نشأت هان كانج في بيئة ثقافية غنية بالعطاء الأدبي بفضل والدها الكاتب الروائي هان سينج-وون. وربما لم يكن لهان الأب حظًا من الشهرة في الساحة العالمية وقد بدأ مسيرته الأدبية مبكرًا في الستينيات من القرن الماضي، غير أن له الكثير من الأعمال التي نالت مختلف الجوائز الأدبية الرفيعة في كوريا الجنوبية. والجدير بالذكر أن أثر الأب هذا لم يقف عند هان كانج فحسب، فكل من أخويها الأكبر والأصغر طالهما تأثيره ولكل منهما مسيرته الأدبية الخاصة وأعماله المميزة. وهان كانج مثلهما، تشبعت  بتوجيهات الأب الأدبية وبتجربته الفنية، التي ساهمت في تشكيل نظرتها الإبداعية وصياغة أسلوبها الفريد.
 

 أما فيما يخص رحلة هان الابنة الأدبية، فلقد بدأتها حينما انغمست في قراءة وكتابة القصص القصيرة منذ الصغر. ومن ثم درست الأدب الكوري بعمق في جامعة يونسي، مما منحها فهمًا عميقًا لجذور ثقافتها. بدأت مسيرتها في الكتابة بعد تخرجها من الجامعة، حيث التحقت بالمجلة الثقافية العريقة سيم-تو للعمل كصحفية. وفي نفس الوقت كانت الكاتبة تعد نفسها بالتدرب على الكتابة باستمرار وأتت جهودها بثمارها حيث نشرت أول قصة قصيرة لها في عام 1994 بعنوان "المرساة الحمراء" بعد أن اختير العمل الفائز في المسابقة الأدبية الدورية لجريدة سيئول. وبعدها بعام واحد نشرت أول مجموعة قصصية لها بعنوان "حب يوسو" وصدر العمل عن دار النشر الكورية الشهيرة "مونهاك كوا جي جونج-سا"، وقد فضلت الكاتبة التفرغ للكتابة بعدها وتركت عملها بالمجلة. وعلى مدار العقدين الآخريين، استمرت الكاتبة في نشر أعمالها المتنوعة ما بين القصة القصيرة والرواية والمقال. وآخر عمل روائي صادر لها إلى الآن هو روايتها الطويلة التي صدرت في عام 2021 "لا أقول وداعًا" وقد حصلت الرواية على جائزة غونكور الفرنسية العام الماضي. غير أن الكاتبة نشرت مقالا بعنوان "ريشة" تحكي فيه عن ذكرياتها عن جدتها، في الكتاب المجلة (MOOK) الذي تشارك في إعداده مع ثلاثة زملاء آخرين من الفنانين من مجالات مختلفة. وقد نشرت المقال بعد فوزها بالجائزة.

ولم يكن الفضل فقط لجائزة نوبل في تقديم هان كانج إلى العالم، فجائزة مان بوكر الدولية التي حصلت عليها الكاتبة في عام 2016 عن روايتها الشهيرة "النباتية" وضعت الكاتبة مبكرًا في صفوف الكتاب العالميين ممن يتطلع الكثيرون لقراءة رواياتهم وينتظرون صدور أعمالهم التالية بفارغ الصبر. فجاء فوزها بجائزة البوكر كاعتراف بإسهامها الكبير في الأدب العالمي. وسلط الأضواء أكثر على أعمالها، مما هيأ الساحة لفوزها لاحقًا بنوبل وجذب الانتباه إلى الأدب الكوري بشكل أكبر.

اكتسبت روايتها "النباتية" شهرة عالمية بفضل موضوعها الجريء والمبتكر الذي يتناول قرارات الفرد وتأثيرها على المجتمع من حوله. الرواية تطرح أسئلة حول الهوية والتمرد الاجتماعي، وتُعتبر دراسة عميقة في علم النفس البشري. وقد وصفتها جريدة الغارديان البريطانية بأنها رواية تحتوي على "ألوان مدهشة وأسئلة محيرة". فالرواية تأخذنا إلى عالم امرأة شابة قررت أن تصبح نباتية وكيف أثر قرارها هذا على أفراد عائلتها جميعهم، لنكتشف في النهاية أن تمرد البطلة الفردي كان نابعًا من سلسلة لا متناهيه من العنف الاجتماعي والأسري، ففي النهاية لم ترغب البطلة في أن تصبح قط "أكثر امرأة عادية في العالم" كما وصفتها صفحات الكتاب. والرواية عبارة عن ثلاثية لثلاث قصص متصلة، وهي "النباتية"، و"البقعة المنغولية" و"لهيب الأشجار" صدرت في كوريا الجنوبية لأول مرة عام 2007 عن دار تشانج-بي وحصدت شهرة واسعة بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية عام 2015 بواسطة المترجمة البريطانية ديبورا سيمث. وصدرت النسخة العربية منها في عام 2017 عن دار التنوير ونقلها إلى العربية محمود عبد الغفار بدعم من معهد ترجمة الأدب الكوري. 

وقد تلقى العالم فوز هان كانج بالجائزة بترحيب كبير، حيث يعد فوزها انتصارًا للأدب المترجم وخاصة البعيد عن الطابع الغربي. وقد أسعد فوزها الشعب الكوري الجنوبي، لتواصل البلاد مسيرتها في نشر الثقافة الكورية ليس فقط من خلال الـK بوب والدراما الكورية، لينضم الأدب الكوري للموجه الكورية التي اكتسحت العالم مبرزة جمال وعراقة الثقافة والفن الكوري. وعلى الرغم من فخر الكوريين العظيم بالكاتبة العالمية، أبدى الكثير من النقاد الكوريين قلقهم فيما يخص مسيرة الكاتبة في المستقبل في إشارة إلى ثقل عبء الجائزة الذي ستضطر الكاتبة إلى تحمله. وربما كان هو نفس ذات العبء الذي جعل الكاتبة تفضل الامتناع عن الظهور الإعلامي، فبالنسبة لهان كانج نفسها جاء الفوز مفاجأة كبيرة وغير متوقعة. وقد آثرت الكاتبة البقاء بعيدًا عن الأضواء بعد الفوز، واحتفلت مع ابنها في هدوء وهما يشربان الشاي .وقد صرحت الكاتبة بأنها تفضل البقاء بعيدًا عن الأضواء والتفكير أولًا وقبل كل شيء في معنى الجائزة بالنسبة لها. كما أنها أوضحت أنها طلبت من والدها عدم القيام بحفل كبير في مسقط رأسها، وشرحت رغبتها تلك بأن هناك الكثيرين في العالم الآن ممن يعانون من آلام الحروب المبرحة، وأن الخلاصة في الأمر والتي نعرفها جميعًا من خلال التاريخ الطويل أنه لا بد للحروب وغيرها من الصراعات التي أزهقت الكثير من الأرواح أن تتوقف. وقد عكس قرارها هذا فلسفة تُركز على أهمية العمل الأدبي بدلاً من الشهرة الشخصية وزاد من احترام الجمهور لها وأكد اعتزازها بتواضعها. وقد شاركها في قرارها هذا مترجمة "النباتية" البريطانية ديبورا سيمث التي آثرت هي أيضًا الامتناع عن الظهور الإعلامي. 

أما فيما يخص بترجمة أعمال الكاتبة إلى اللغة العربية، فبالإضافة إلى العمل سابق الذكر، ترجم لها روايتان هما الكتاب الأبيض عام 2019 وأفعال بشرية عام 2020 وصدرتا عن دار التنوير أيضًا. بالطبع لا يزال الطريق طويلًا من أجل أن تترجم أعمال الكاتبة وتصل إلى القارئ العربي بالشكل المناسب. ولكن نجد أن الجهود المبذولة مؤخرًا من أجل تنشيط حركة ترجمة الأعمال الأدبية الكورية إلى العربية مستمرة ولا تعرف التوقف. فلقد شهدت حركة الترجمة خلال العقدين الآخرين نشاطًا منقط النظير. فمقارنة بتاريخ حركة الترجمة عن الكورية إلى العربية التي بدأت تقريبًا عام 2005، وصل عدد الأعمال الكورية المترجمة إلى العربية لأكثر من ستين عملًا. ويرجع الفضل في هذا إلى الدعم الذي يقدمه كل من المركز القومي للترجمة في القاهرة وكذلك لمعهد ترجمة الأدب الكوري بسيئول والذي يسعى باستمرار لتقديم الأعمال الكورية في أحسن وجه بمختلف لغات العالم. 

ونشير إلى أن هان كانج صرحت بنفسها بأنها تأثرت كثيرًا بالأعمال الأدبية الكورية، والتي ساعدت في تشكيل فهمها ورؤيتها للأدب. وعلقت على فوزها بالتأكيد على أن الجائزة ليست لها وحدها، بل لكل من ساهم في وصول الأدب الكوري إلى هذه المرحلة. ونجد أن التعرف على تاريخ الأدب الكوري أمر مهم لفهم المكانة التي استطاع أن يصل إليها في الساحة العالمية الآن. فبالإضافة إلى هان كانج، هناك الكثير من الكتاب الكوريين ممن لهم شهرة عالمية واسعة وعلى سبيل المثال وليس الحصر، الكاتبة شين كيونج سوك والشهيرة بعملها "أرجوك اعتني بأمي" وقد ترجم العمل مرتين إلى اللغة العربية مما يدل على أهميته ومكانته الأدبية. وهو من الأعمال التي تبرز الطباع والعادات الكورية وفي نفس الوقت عمل يسهل على القارئ العالمي التفاعل معه بفضل موضوعه الأساسي الذي يتمحور حول مكانة الأم في العائلة ودورها في تماسكها. وهناك أيضًا رواية "مولودة عام 1982" للكاتبة تشو نام جو والذي يناقش وضع المرأة والتحديات الاجتماعية التي تواجهها. فالأدب النسوي الكوري بلا شك يكتسح الساحة الأدبية العالمية. ولكنه ليس النوع الوحيد، فنجد أن الاهتمام بترجمة أدب الخيال العلمي الكوري قد انتشر مؤخرًا وبشكل كبير في الوطن العربي، فترجمت رواية "البرج" لكاتب الخيال العلمي بيه ميونج هون وكذلك رواية الفانتازيا " "متجر دالوجوت للأحلام" للكاتبة لي مي ييه. ولم تقتصر حركة ترجمة الأدب الكوري على الأدب المعاصر فقط، فلا تزال هناك الكثير من الجهود لتقديم الأعمال الكورية الأقدم فمؤخرًا صدرت رواية "الساحة" للكاتب الكوري تشوي إين-هون وقد رُشح الكاتب في السابق لنيل جائزة نوبل عن الرواية المعنية. وتقدم الرواية لنا لمحات من معاناة الشعب الكوري من مأساة الانفصال والصراع الإيديولوجي في شبه الجزيرة الكورية وقد صدرت الرواية باللغة الكورية لأول مرة عام 1960. ويمكن أيضًا الاطلاع على أعمال الكاتب الكوري الشهير تشيه مان-شيك والذي ترجم له أكثر من عمل إلى العربية مثل "عمي الغبي" و"سلام تحت ظلال الجنة" وغيرها من الأعمال التي تبرز الصراعات التي عانى منها الشعب الكوري خلال فترة الاحتلال الياباني في قالب ساخر ذي طابع رمزي مثير. 

ولا يزال هنالك الكثير مما يمكن للترجمة أن تقدمه لتصبح جسراً بين الثقافة الكورية والعالم العربي. فما يتسم به الأدب الكوري من طابع محلي قوي، يسمح للقارئ العربي بالتفاعل مع موضوعات إنسانية عامة، بالإضافة إلى فرصة الاستمتاع بالفكر الكوري الخالص بعيدًا عن هيمنة الآداب الغربية التي ظلت لفترة طويلة مسيطرة على ساحة الأعمال المترجمة.