بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.
هذا هو الفصل السابع والأخير من مذکرات جرجي زیدان مؤسس الهلال، وفيه يروى تفصيل حادث الاضراب الذي قام به مع زملائه طلبة كلية الطب في بيروت من أجل حرية التفكير وانتهى بفصلهم منها، وهو أول حادث من نوعه في الشرق، ثم حضوره إلى مصر واتخاذه لها الوطن الثاني
الفصل السابع: الرحلة إلى مصر
كنت أكثر الطلبة شعورا بالخطر على المستقبل، لأني دخلت كلية الطب على أمل استطاعتي بعد سنتين أن أمارس العلاج البسيط في الحي الذي نقیم به فأحصل بذلك على نفقات إتمام تعليمي حتى نهاية السنة الرابعة فأتخرج وأمارس المهنة رسميا.
فلما خرجت من الكلية على هذه الصورة، شعرت بانقطاع حبل الأمل، وبأن جهودي ذهبت سدى، ولكن الأمل عاودني حينما ورد إلى أحد زملائنا كتاب الأستاذ ملحم شكور بك رئيس المدارس الإنجليزية بالفجالة في مصر، وفيه أن وکیل مدرسة الطب في قصر العيني أبدى استعداده لقبول طلبة كليتنا في صفوفها بعد امتحانهم، وعلى ذلك اعتزمت أنا، وذلك الزميل، السفر إلى مصر لاتمام دراسة الطب فيها
ورأيت أن أتزود بتوصية إلى خديو مصر، أو إلى الدكتور عيسى حمدي مدير مدرسة الطلب المصرية، فاعتذر والي الشام بأنه ليست هناك صلة بينه وبين الخديو، واكتفيت بالحصول على توصية من مشير الجيش الخامس إلى مدير مدرسة الطب، ومن البطريرك الأنطاكي إلى بطريرك الاسكندرية، وقد حصل زميلي على توصية للخديو من رستم باشا متصرف لبنان
ولم أكن أملك نفقات السفر، وما كنت أدری کیف أحصل عليها وعلى نفقات تعلیمي بالقاهرة، ولكن جارا قديما لنا هو المعلم مصباح المحمصاني علم بالأمر من حيث لا أدري، فاستدرجني في الحديث حتى صرحت له بحقيقة الأمر، فأعطاني ستة جنيهات، وأبدى استعداده لإعطائي أكثر منها إذا اقتضى الأمر ذلك، فأخذتها شاكرا له أريحيته، وضممتها إلى ما كان معي من مال يسير، وقد رددتها إليه شاكرا مع صديق لي بعد سنة من وصولي إلى مصر وعملي فيها .
وكان وصولنا إلى الاسكندرية في أكتوبر سنة 1883 وهي السنة التالية لثورة عرابي، وقد قاسيت كثيرا من ركوب الباخرة التجارية التي أقلتنا إليها حاملة شحنة من البقر والغنم وأمضينا في الإسكندرية أياما شاهدنا فيها آثار ضربها بالمدافع البريطانية والحرائق الهائلة التي دمرت كثيرا منها، وأوقعت بها الخسائر الفادحة ثم انتقلنا إلى القاهرة حيث نزلت وزميلي بأحد الفنادق وقد زرنا الأستاذ ملحم شكور فأكرم وفادتنا كل الاكرام، وظل وقتا طويلا وهو يسعى معنا في سبيل إلحاقنا بمدرسة الطب بقصر العيني ولكن هذه المساعي المتواصلة المتعددة لم تكلل بالنجاح.