د. سهير القلماوي,
أسبوع فاصل في حياتي ما زلت أذكر أحداثه وأستعيد الإحساسات التي مرت بي فيه فأحسها وكأن دوافعها وأسبابها ما زالت قائمة، كان ذلك الأسبوع في شهر سبتمبر عام 1939 وكنت قد قدمت أوراقي وعانيت كثيراً في جمعها وترتيبها وسلمتها لمسجل كلية العلوم في الجامعة المصرية «كما كانت تسمى اذ ذاك» وكنت كلما سألت عما تم في شأنها يقال لي: إن العميد الأستاذ «بانجهام» لم يعد بعد من إجازته ليفصل في أمرها.
وفي أوائل الأسبوع المشهود علمت بوصول عميد كلية العلوم الذي كان سيقبلني في السنة الأولى أو الإعدادية لكلية الطب أو لا يقبلني، كان بيده فيما كنت أتصور أن يفتح أمامي أبواب مستقبل أحلامه ظلت تداعبني منذ استطعت أن أتطلع إلى المستقبل حالمة مؤملة، ولكن الأستاذ الإنجليزي – سامحه الله – عاد وقرر عدم قبولي طالبة في الكلية..
واستنجدت بناظرة مدرستي الثانوية وطلبت من العميد موعداً وكانت مقابلة تاريخية في حياتي دار فيها الحديث على هذا النحو:
اعقد لي امتحاناً فإذا لم أنجح بثمانين في المائة علي الأقل لا تقبلني..
ليس من سلطتي عقد امتحانات على هذا النحو..
اقبلني تحت التجربة فإذا لم أنجح آخر العام بهذه النسبة فافصلني..
آسف.. ليس في القوانين ما يخول لي ذلك.. يا آنسة باختصار كل ما أقدمه لك في حدود القانون أني أستطيع أن أستقبلك في معامل الكلية باحثة حرة هاوية!.
وانتهت المقابلة.. وقالت ناظرتي:
ليس أمامك إلا السفر إلى الخارج
قلت:
لن يسمح لي والدي بالسفر وأنا في السابعة عشرة من عمري.. ومر يوم ويومان لم أفتر.. وطرقت كل باب، وجاء قريب لنا كنت أخاطبه بخالي لأنه أخ لخالتي في الرضاع وقال:
كل مجلس الجامعة كان يعطف على طلبك ولكن العميد الإنجليزي هدد بالاستقالة إذا قبلت طالبة في كلية الطب.
وقبل أن أضيع في عالم اليأس والحزن قال:
ما رأيك.. نزور الدكتور طه حسين في بيته فهو صديقي ونسأله المشورة؟
قلت:
أي شىء إلا أن أمكث في البيت وأزوج برجل لا أراه إلا بعد كتابة العقد كما فعلوا بأختي..
كنت أقرأ لأبي بعد أن ضعف بصره مقالات طه حسين، والعقاد، وهيكل، وكان – رحمه الله – يصلح من لغتي ويهذب من لهجتي ويعلمني الإعراب ويحيلني إلى كتبه لأقرأ مزيداً من شعر ونثر عربيين قديمين، ولكني لم أكن أحب من كل هذا شيئاً، كنت بكل ما في أسعى لأن أكون طبيبة، وكان تفوقي في العلوم والرياضة تفوقاً أثار إعجاب مدرساتي هو الذي برر عندي هذا الاندفاع في أملي الأكبر، كنت أكاد أعبد أبي وكان أبي جراحاً من طراز فريد وكانت سعادتي في أن أناوله شيئاً في عيادته وأحس أني أعاونه طبياً..
ذهبت إلى منزل طه حسين في مصر الجديدة، قرب دير للراهبات هناك، وأحسست بالخشية والخوف وزاد خوفي لما وجدت في غرفة الاستقبال زواراً لا أعرفهم، ولكن خالي همس يشجعني وما أن خلت الغرفة قليلاً حتى بسط لطه حسين قصتي فإذا هو يعرفها وإذا هو يقول:
• ماذا عليك، أنا أقبلك في كلية الآداب وفي قسم اللغة العربية وستجدين بغيتك من التشريح في شعر جرير والفرزدق..
وضحك ولم أفهم شيئاً..
ماذا! قسم اللغة العربية! إنه انتحار لأني قطعاً سأرسب وأرسب إلى ما شاء الله، قال:
ماذا؟ ألا يعجبك أن أدرس لك..
والتفت وأنا كمن خرج من بئر عميقة وقلت في تلعثم:
أبداً.. هذا شرف.. شرف كبير
وضحك في حنان عجيب وأحسست من وراء ضحكه روحاً حلوة وقارنته بسرعة بأبي فإذا فيه الكثير منه، ودار كلام كثير وأنا أحاول أن ألم شتات نفسي وأن أتبين ماذا أنا مقدمة عليه، ورنت كلماته:
غداً في كلية الآداب الساعة العاشرة موعدنا.. اتفقنا..
منذ ذلك اليوم ولطه حسين في حياتي منزلة الأب الروحي بكل معاني الكلمة، هو الذي أحال يأسي أملاً وهو الذي شجعني وأنا خريجة مدرسة درست فيها كل علومي بالإنجليزية على أن أتخصص في اللغة العربية، ما شكوت له عسراً حتى أحاله في حنان الوالد إلى يسر..
النحو عسير يا أستاذي..
لا عليك.. الأستاذ إبراهيم مصطفي سيعنى بذلك..
وأتتلمذ من قرب للأستاذ الكريم – رحمه الله – فيقول:
• لو كانت درجتك على قدر المجهود الذي بذلته لاستحققت مائتين من مائة ولكن بالمقارنة بأقرانك درجتك دون المائة بكثير.. لا تيأسي ستصلين حتماً.
وأواصل الدرس وأتصدر الناجحين تحوطني رعاية أساتذتي جميعاً وطه حسين وحده له مكانته الخاصة..
ولكن أستاذية طه حسين لم تكن عطفاً ورعاية كلها ولم تكن دفعاً قوياً نحو المثل الأعلى عن طريق اللين دائماً وإنما كان يأخذنا ويأخذني أنا أكثر من غيري بالشدة أحياناً..
أذكر في أول عام وأنا أتهيب كل شىء حولي فقد كنت الطالبة الوحيدة في القسم كله أنه طلب إلى أن أقرأ بحثي على الطلبة لنناقشه، وتلعثمت أولاً، ثم راحت رهبة البداية واستمررت، وكان البحث عن "طرفة بن العبد"
وقلت:
أنا لا يعنيني أن يكون طرفة بن العبد جاهلياً أو إسلامياً أو حتى محدثاً ما دام شعره هو هذا الذي أجد فيه متعة متجددة لأنه يصور النفس الإنسانية ورد فعل فكرة الموت المحتوم في نفس شاب مغامر في الحب والحرب..
وإذا بأستاذي يقول:
مرحى مرحى وفيم دخولك كلية الآداب يا هانم وأنت في بيتك يمكن أن تحصلي على هذه المتعة، نحن هنا نبحث عن الشاعر وعن عصره وعن صلته بعصره.
ومادت بي الأرض وعدت إلى مكاني وقد كدت أقع في طريقي إليه، ولما انتهى الدرس ودخلت غرفة الطالبات بكيت بحيث لم أستطع متابعة دروس اليوم فعدت إلى بيتي..
وكنا ونحن طلبة نسمع من أستاذنا نقد أعمالنا سواء أكانت بحثاً أم شرحاً فيقول دائماً كلمات مشجعة مسرفة في التشجيع ثم يقول بعد ذلك "ولكن" وتأتي بعد و"لكن" تلك طائفة من النقد في الصميم، وكثيراً ما كنا نقول من ذا الذي ينجينا مما بعد و"لكن" تلك..
في كل درس لطه حسين "وكان يحضر دروسه كل طلبة الكلية تقريباً، يتخلفون عن دروسهم في أقسامهم ويأتون معنا ليسمعوه" كنا نجد شيئين لا مناص من أن يوجدا في درسه، أفقاً منفتحاً في الموضوع يغري بشكل عجيب بالاستمرار في البحث والدرس، أفقاً ينفتح ويمزج بين أطراف الموضوع وما يمكن أن يتصل به من موضوعات في قدرة عجيبة خالقة تجمل من الحياة كلاماً متكاملاً لا مجال فيها لشىء وحده أو لفكرة منفصلة عن غيرها فكان هذا يشعرنا بما يشعر به الإنسان أمام الأثر الفني الرائع المتكامل المنسجم..
وأما الشىء الثاني فهو الفكرة اللماحة المضيئة التي تضيء هذا الأثر الفني المتكامل بضوء ساحر فريد، لا بد من فكرة بل أفكار جديدة لها طلاوتها وحلاوتها ولا بد من أفق رحب تجول فيه هذه الأفكار يتسع ويتسع حتى يشمل الحياة كلها..
إن علمه الدقيق المتخصص وثقافته الواسعة الرحبة التي وسعت الثقافات المعروفة كلها يتداخلان بشكل رائع في درسه، فيلهم طلابه دائماً وكل يوم..
ومرت الأيام ودخلت معه قاعة الدرس معيدة له، يحيل الطلبة علي لأقرأ معهم نصاً أو ألخص معهم كتاباً وهنا اطلعت على بعض عاداته كأستاذ، إن طه حسين وهو من هو علماً ومعرفة لم يكن يدخل قاعة الدرس قبل أن يعد درسه، كم مرة درس عمر بن أبي ربيعة مثلاً ولكنه في كل مرة كان يقرأ عمر بن أبي ربيعة من جديد، إنه لا يعتمد كأستاذ جامعي حق على علم الأمس في الأدب، إن الحياة تتجدد وتذوقنا للأدب يتجدد ومعلوماتنا تزداد ولزيادتها دخل كبير في تذوقنا الجديد..
إن عادة طه حسين التي علمنا إياها أن نجل الدرس وأن نحترم مقامه في حياتنا هي التي تجعلنا إلى اليوم لا ندخل قاعة الدرس قبل أن نعد درسنا إعداداً جيداً..
ولقد علمنا طه حسين كثيراً غير العلم المدون في الكتب، علمنا كيف نعشق الآفاق الرحبة وكيف نفتح أذهاننا لكل جديد ولا نحكم على شىء إلا بعد أن نعرفه..
إن منهجه الذي يوصف بأنه منهج ديكارتي "نسبة إلى ديكارت الذي شغف طه حسين بفلسفته وتأثر بها دون شك" هو المنهج الذي صبغ طريقة تفكيرنا نحن أيضاً زمناً طويلاً تأثراً به..
وعلمنا طه حسين كذلك وبنفس القدر أن نحب الحياة في تجددها، وأن ننتصر لكل مظاهر الحياة على أي مظهر من مظاهر الجمود أو الشلل أو الموت، إنه مشغوف بالتجديد محب للشباب مناصر للحياة المتجددة يكره الركود والجمود وتحجر الفكر..
أما خلقيات الأستاذ فلقد صبغتنا بصبغتها وما زلنا إلى اليوم نتوق إلى أن نكون مثله أو قريبين منه، ما اعتذر عن درسه يوماً إلا مضطراً أشد الاضطرار وما دخل درسه إلا في الميعاد وبالضبط دون إبطاء وما شرب سيجارة في درس ولا تحدث إلينا إلا في الدرس وما يمكن أن يتعلق بالدرس من شئون حياتنا نحن لا حياته هو..
وكنا كثيراً ما نقارن بينه وبين أستاذ آخر "حضرت له درسين وصممت ألا أحضر بعد ذلك مهما تكن العواقب" لأن الأستاذ الآخر كان يبدأ الدرس فلا يستمر فيه إلا بضع دقائق وإذا به يقول: "لما كنا في إنجلترا" وكانت هذه العبارة كإشارة المرور معناها أننا سندخل متاهات لا صلة لها بالدرس إطلاقاً، وكنا نطوي دفاترنا وننصت وأصبح الحديث معاداً ثم أصبح تافهاً ممجوجاً حتى سمينا الأستاذ "لما كنا في إنجلترا"..
ولحسن الحظ كان أساتذة القسم الأصليين به بعيدين عن مثل هذا الأستاذ الآخر قريبين لطه حسين في تقديسه لوقت الدرس ولمادته وللظروف التي يجب أن تلقى فيه..
إن احترام قاعات الدرس بل ممرات الجامعة هو الذي جعل طه حسين يرفت طالباً لأنه زعق على زميل مرة، وآخر لأنه دخن سيجارة في شهر رمضان، وطالبة لأنها جلست تنسج التريكو في الشمس، ولم يكن هذا تزمتاً وهو الأستاذ الحر الفكر الطلق الأفق وإنما كان إجلالاً للعلم وتوقيراً لعملية تربية العقول ومرانها..
أما المكتبة والاطلاع فيها فكان جزءاً لا يتجزأ من تدريس طه حسين، كل درس نكلف بعمل يطول ساعات عديدة في المكتبة ومن دون هذا لا يمكن أن نفيد من دروسه..
وتنعكس أخلاق طه حسين الإنسان وهي معروفة ولا مجال لذكرها هنا على كل تصرفاته كأستاذ، إنه أب الجميع، الأب المثالي في كل ما يقول أو يعمل حتى ليكاد يكون أسطورة في أبوة تلاميذه..
ولكن فكرة طه حسين من العلم في حد ذاتها تستحق بحثاً طريفاً، لقد صور لنا معلمه الأول في القرية صورة لا تنسى، إنه سيدنا الذي أبدعته ريشته الفنانة في "الأيام" "ضخماً بديناً"، "دفيته" تزيد في ضخامته يبسط ذراعيه علي كتفي رفيقيه.. ويتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم وأحسنهم صوتاً ذلك أنه كان يحب الغناء.. إلى آخر هذه الصورة التي لا أقوى على بترها هنا..
و"الأيام" حافلة بوصف خلق هذا "السيدنا" وتصرفاته التي تدل على فساد علمه وتعليمه، ولعلنا نستطيع أن نلمح قبل "سيدنا" صورة "الشاعر" الباهتة من بعيد التي ذكرها طه حسين في "الأيام" والتي كانت السياج تحول بينه وبين فنانه المعلم الذي كان يمتعه بما ينشد، لكم أبدع في وصف السياج التي تعكس شعور الحرمان وقد اضطربت له نفسه الرقيقة الصغيرة قبل أن يتبلور إحساسه بأن بينه وبين الحياة سياجاً فعلية بسبب كف البصر..
ولا تقتصر "الأيام" على صورة الشاعر الباهتة من بعيد أو صورة "سيدنا" الثقيلة من قريب، وإنما فيها صورة "العريف" أيضاً، "العريف" مساعد "سيدنا"، وقد أصبح طه حسين نفسه معلماً منذ صباه المبكر في "الأيام" فقد وكل إليه "العريف" أمر تعليم القرآن الكريم لبعض التلاميذ ومنهم "نفيسة" التي كان يطرب الصبي لبعض قصصها الساذجة..
وتمتلئ "الأيام" بذكر من تعلم عليهم طه حسين أو من ابتغى عندهم العلم فلم يجده أو لم يجد إلا أقله، شيوخ ومشايخ طرق صوفية ومدعي علم ما لا يعلم، ولعل أبرزهم هذا المفتش المجود للقرآن الكريم على نحو فتن الصبي وكان سبباً لما كان بين ابنته وبين الصبي من حب يمثل طفولة بريئة حيية في أواخر القرن الماضي..
ومنذ "الأيام" نجد أن طه حسين قد ركز آماله حول أن يكون معلماً بل معلماً في الأزهر الشريف أول الأمر، كم ذا يمس شغاف القلب أن يقص علينا كيف دخل الأزهر الشريف لأول مرة، كم كان سعيداً حين أخذ مكانه في الحلقة على هذا البساط الرقيق إلى جانب عمود من الرخام لمسه فأحب ملامسته ونعومته فأطال التفكير في قول أبيه: "إني لأرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضياً وأراك صاحب عمود في الأزهر"..
وتمر بنا صور شيوخه في الأزهر وهو قلق برم يتحول من هذا إلى ذاك ويصطدم بهذا ويتشاجر مع ذاك يصفه بعضهم بالحمق ويتهمه البعض الآخر بالخوض فيما لا يعلم ويحرم بعضهم الثالث عليه أن يحضر دروسه، وتبرز من بين صور كل هؤلاء صورة الشيخ المرصفي الذي بغض إليه أبا العلاء فأحبه وشغف به بالرغم من بعض رضاه عن دروس الشيخ المرصفي..
ويختلف إلي الجامعة إلى دروس حفني ناصف، والشيخ مهدي ليدرس النصوص ويختلف إلى المستشرقين "نللينو"، و"فييت" ليدرس تاريخ الأدب فيجد من هذا المزاج بين القديم والجديد بغيته التي طالما نشدها فلم يجدها، ويستمر في الجامعة القديمة ثم يسافر في البعثة ويعود أستاذاً بالجامعة، ولكنا لا نكاد نرى صوراً واضحة لشخصيات أساتذته من الأجانب، لقد ملأوا عقله وفكره بما عندهم من علم فلم يتركوا له وقتاً ليتأمل أكانوا ضخاماً أم نحافاً أكانوا يتعاملون مع التلاميذ حسب درجاتهم من الفقر أو الغنى أم كانوا يعاملون الكل بالعدل والميزان..
إن الأساتذة الأجانب استحالوا عنده عقولاً تتعامل مع عقول، فخرجوا عن أن يكونوا مفردات صورة ترسم..
إن صلاته بهم صلات عادية من الحب والود والذي يهزه منهم هو عقلهم وطريقة تفكيرهم ومدى ما يمكن أن يؤثروا به في عقله المرهف المستعد لأن يتقبل هذا العلم بعد طول معاناة في تلقي الجهل والخزعبلات باسم العلم أو في تلقي العلم اليسير بأبشع الطرق وفي أسوأ الظروف لقد وجد طه حسين في علمهم نفسه..
وعاد طه حسين إلى مصر ليرسم الصورة المثلي لما يجب أن يكون عليه المعلم وما يجب أن يتطور إليه التعليم في الجامعة وفي المدارس الثانوية وفي المدارس الأولية خاصة، يوضح أهداف التعليم ويفتح آفاقه لآماد لا تحد، وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" صورة واضحة لآرائه التي يضغط فيها على ما يجب للأستاذ وللمعلم من إعداد واختيار ورعاية ليكون مكرماً كريماً فينشئ جيلاً مكرماً كريماً وليكون واعياً بدوره وخطر هذا الدور في حياة الأمة فيسمو إلى مستوى هذه الخطورة ويعد نفسه للقيام بأعبائها..
وامتد الزمان فإذا طه حسين يلي أمر التعليم مستشاراً للوزارة ثم وزيراً لها فيخطو خطوة جبارة نحو تحقيق آمال الشعب إذ يجعل التعليم الثانوي مجاناً، كم خضع آنذاك لحملات من التشهير حتي لقبوه بوزير الماء والهواء لأنه قال: إن العلم كالماء والهواء يجب أن يكون مشاعاً لكل أفراد الشعب، ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلم الشعب..
ودارت الأيام وقامت ثورة الشعب وتعبيراً منها عن ضمير شعب يحب العلم ويؤثر التعليم فتحت أبواب التعليم كلها علي مصراعيها ومجاناً وللشعب كله..
إن طه حسين لا يعيش إلا ليعلم وليتعلم، وتدور حياته كلها حول هذا المحور السامي الأساسي في حياة الأمم..
إني ما زلت أذكر كيف كان يتحامل ليأتي إلينا في كلية الآداب منذ بضعة أعوام استجابة لرجاء وإلحاف قويين من طلابه ليدرس أبناءنا ولو ساعة واحدة في الأسبوع، كم ذا كانت فرحة أبنائنا به وكم أضاء لهم من طريق وفتح أمامهم من آفاق وبسط لهم من آمال..
ولئن أقعده المرض عنا فإن كلية الآداب ما زالت تردد صوته إلى اليوم، إنها الكلية التي خرجت وأخرجت الجامعة كلها معها عام 1932، لتطالب بعودة طه حسين إليها يوم نقله منها إسماعيل صدقي ضمن مخطط بطشه بالطلاب بل بالشعب كله، ولو استطاعت الكلية اليوم أن ترد عنه المرض ليعود إليها ما ترددت أن تعمل المستحيل في سبيل ذلك..
ولكن عزاءها أن طه حسين لا يحيا في تلاميذه "وكل أساتذة الكلية من تلاميذه" فحسب وإنما هو يحيا في طلابها الذين يدرسون طه حسين في دراستهم للأدب الحديث، بل أن منهم من نال درجته العلمية العليا عن بحوث حول أعمال طه حسين.