د. محمد فتحي فرج,
يقول المثقف العضوي، والمعارض النبيل، فارس القصة العربية القصيرة يوسف إدريس (19 مايو 1927- 1 أغسطس 1991) في صيحته المدوية، أقصد كتابه الصرخة: «أهمية أن نتثقف يا ناس!»: هناك مؤامرة، متَّفق عليها أم غير متفق، ليس هذا هو المهم. المهم أن شيئًا خطيرًا جدٍّا يحدث للعقل المصري والعربي بفعل فاعل، وتلك المؤامرة على العقل المصري والعربي ضاربة الأطناب في كل بلد عربي على حدة، آخذة هذا الشكل أو ذاك.
ثم ينقلنا الرجل لافتا نظرنا لبيان ما كنا عليه وما آل حالنا إليه بقوله: ولا أعتقد أن بلدًا من بلاد العالم جُبل شعبه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا. إن المكانة التي رُفع إليها طه حسين، والعقاد، وأحمد حسن الزيات، والمازني، ومحمود عزمي، وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وحسين فوزي، ولويس عوض، وأحمد أمين، وأحمد زكي، وهيكل، ومشرَّفة، وزكي نجيب محمود، القائمة الطويلة؛ المكانة التي رفعنا لها هؤلاء وغيرهم تُثبت أننا بالسليقة شعب يُقدِّس المعرفة والثقافة، شعب في أساسه متحضر، وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا.
وما ذكره الرجل في الفقرة السابقة إنما هو للتمهيد للتساؤل المشروع، والذي يفرض نفسه بشدة وهوـ على حد قوله: ماذا إذن حدث فقلب أمورنا رأسًا على عقب، حتى أصبحت كلمة أفندي تُقال للسخرية، وكلمة مثقف تذكر من باب التوبيخ و "التريقة"، وكلمة ثقافة يتحسَّس لدى ذكرها بعض المواطنين أنوفهم وكأنما هي شيء لا يطاق؟!
بعدا هذا يحسن بنا أن ننتقل من خلال "كاميرا الفلاش باك" إلى واحد ممن ذكرهم إدريس وكانوا سببا في المكانة الرفيعة التي رفعنا إليها هؤلاء المثقفون الحقيقيون، وعلى رأسهم طه حسين. ولا يجانبني الصواب إن قلت إنه وإن كان مع زملائه رموز "ماضوية" إلا أن حضورهم الأدبي والثقافي والفكري أقوى من كثيرين ممن لا يزالوا يتنفسون هواء القرن الواحد والعشرين. بل إننا نستلهم من سِيَرِهم أملا في التغيير المنتظر نحو الأفضل والأعمق ثقافيا وفكريا وأدبيا؛ فمصر لم ولن تعقم في وقت من الأقات.
وقد صدق من قال: ليس بعيدا عن الحق أنه ما من كاتب فى تاريخ الثقافة العربية الحديثة امتزجت حياته الخاصة بالحياة العامة فى وطنه، كما حدث بالنسبة للدكتور طه حسين (14 نوفمبر 1889 ـ 28 أكتوبر 1973). فإذا قصَرْنا اهتمامنا على الدور الفردى فى الثقافة، فإن اسم طه حسين -بلا منازع- يتقدم جميع الأسماء الأخرى، مع اعتزازنا واحترامنا لكل من أسهم بنصيب فى بناء هذه الثقافة من تلك الأسماء الشامخة فى تاريخ الأدب العربى الحديث. فالثقافة -كما يقول الرجل- هى أول الأشياء وأعظمها خطرا وأبلغها أثرا فى توحيد الأمة العربية، وجمع كلمتها، وتوجيهها إلى الحق والخير والرقى.
فالثقافة ليست مجموعة هائلة من المعلومات والتعريفات والمعرفة المتنوعة مهما كانت قيمتها وأهميتها؛ ولكنه يلخصها في "الوعي" حيث يقول الرجل: حين نتحدث هنا عن الثقافة وأهميتها لا نتحدث كما يعتقد البعض عن الثقافة الرفيعة وعن المسرح الرفيع والكتاب الرفيع والتليفزيون والسينما الرفيعة، وإنما في حقيقة الأمر وواقعه نتحدث عن الوعي المثقف المزوَّد بالقدرة على التمييز والإدراك، نتحدث عن إنقاذ الوعي المصري والعربي، عن إزاحة الضباب عن عيون القراء والكُتَّاب والصحفيين، نتحدث عن التصدي للمُغيِّبات المكتوبة والمُقالة والمصوَّرة، نتحدث ونريد أن نقاوم تلك الغزوة الرامية لشلِّ عقولنا وإبادة حضارتنا، وتشجيع التسيُّب في سلوكنا، وإشاعة الفوضى في وجودنا، في بيوتنا، في شوارعنا، في تجمعاتنا، في جيوشنا، في مصانعنا، في ريفنا وحضرنا.
ضريبة الثقافة والرأى الحر:
وعلى الرغم من الجهد الذى بذله مُخْلِصا فى دراسته إبان فترة الطلب بالأزهر، لينهل من كل منابع العلم والفكر والثقافة قدر طاقته، وعلى استعداده لاجتياز امتحان العالمية بكل وسيلة يملكها، إلا أن اللجنة التى أشرفت على امتحانه لهذه الدرجة سنة 1912، تعمدت إحراجه وإسقاطه، بناء على توجيه من شيخ الأزهر وقتها؛ لأنه فيما يبدو كان يمثل مصدر إزعاج لأرباب السلطة فى الأزهر آنذاك، لالتزامه حرية الفكر والاستقلال بالرأى، والشجاعة فى إبدائه، على النحو الذى يراه صحيحا فيما يذيعه شفاهة، أو من خلال ما ينشره فى صحف ذلك الزمان.
ولأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فقد عوضه خيرا، حينما تقدم لامتحان آخر فى يوم الثلاثاء الخامس من مايو سنة 1914، وهو امتحان لا يقل عن مستوى عالمية الأزهر فى الجامعة المصرية القديمة، فكان أول الحاصلين على درجة الدكتوراه من هذه الجامعة الوليدة، فى رسالة كان موضوعها رجل أحبه طه حسين وأطال صحبته كثيرا، وهو "أبو العلاء المعرى". وقد ساعده نجاحه فى هذا الامتحان فى الحصول على بعثة على نفقة الدولة للدراسة فى الخارج -كان يُلِّحُ فى طلبها رغم ظروفه الصحية- فسافر إلى فرنسا فى نوفمبر من العام ذاته (1914).
فى سبيل العلم والثقافة:
سافر الرجل إلى الغرب، ونهل من علومه، وعرف مناهج البحث الحديثة، واطلع على ثقافة الغرب الثرية، وكان يحلم بأن ينقل بلده من بلد متخلف إلى بلد متطور يساير الغرب فى تقدمه ورقيه الفكرى، والوصول به إلى الصدارة علما وحضارة، كما كان الحال أيام القدماء المصريين ثم العرب. وفى هذا يقول: "فى الأرض أمم سبقتنا فى هذا العصر الحديث إلى الرقى وقطعت فيه أشواطا لم نقطعها بعد... وضرورات الحياة الحديثة تفرض علينا أن نقطع أبعد الآماد إلى الرقى فى أقصر الأوقات لنستدرك ما فاتنا ولنبلغ حقنا من المساواة بيننا وبين هذه الشعوب المتفوقة".
ولهذا فقد كاد أن يقوم بثورة فكرية حينما عاد من الغرب وألف كتابه "فى الشعر الجاهلى"، على أساس منهج معروف من المناهج العلمية الحديثة، وهو منهج "الشك الديكارتى"، لكى يصل من خلاله إلى نتائح علمية رصينة، ورغم اختلاف الكثيرين معه وقتها، إلا أن دوافعه كانت حب العلم، وحرية ممارسته، والتذرع بالمنهج العلمى للوصول إلى نتائج محايدة تخدم العلم والبحث العلمى. وانظر إليه يقول فى بداية كتابه الرائع "الفتنة الكبرى"، موضِّحا المنهج الذى استخدمه فى هذا الكتاب: "وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة تاريخية خالصة مُجرَّدة، لا تُصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هى نظرة المؤرخ الذى يُجرد نفسه تجريدا كاملا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها". وهذا هو الباحث الأكاديمى الحر والمتجرد الذى يَنْشُدُ الحقيقة، ولا شىء سوى الحقيقة، مهما كانت العوائق والتحديات والعواقب.
دوره الثقافى الرسمى:
أما الدور الثقافى الرسمى الذى قام به طه حسين، حينما تولى وزارة المعارف، منذ بداية خمسينيات القرن الماضى فيتجلى فى أبهى صوره، فيما قام به من عدة مشاريع ثقافية عملاقة شكلت وجدان مصر بل والمنطقة العربية لفترة طويلة، ومازال تأثيرها واضحا حتى الآن، سواء من خلال المُنْتَج الثقافى نفسه (ممثلا بالدرجة الأولى فى الكتاب)، أو فى ما استقر فى وجدان الإنسان المصرى والعربى -بوجه عام- من أسس الثقافة وعناصرها الأصيلة ومناهج تحصيلها وتكوينها.
فحينما تولى الرجل مسئولية "وزارة المعارف العمومية"، كان همه الأول بعث الحياة، وبث النشاط فى هيكل الثقافة العربية. ولهذا، فقد أنشأ الرجل "مراقبة للثقافة العامة" تتبع وزارة المعارف، وقد تولى الإشراف عليها بنفسه، ومن أولى مهامها: أن تقوم بتغطية الكتب المؤلفة والمترجمة فى حركة نشر واسعة لم تعهدها مصر والمنطقة العربية من قبل. وقد مهد لهذا النشاط بمحاولته الجريئة بنشر التعليم فى ربوع البلاد على نطاق واسع، على أثر كلمته الشهيرة المُدوية: "لابد أن يتاح التعليم لكل أبناء البلاد ليصبح كالماء والهواء"، والذى أصبح مجانيا -إلى حد كبير- فى عهد حكومة الوفد فى الفترة من 1950 ـ 1952، التى تولى خلالها الاضطلاع بمهام وزير المعارف.
وحينما قامت الثورة فى الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، كان الدكتور طه حسين من أوائل المثقفين الكبار الذين أيَّدوا النظام الجديد، ولهذا فلم يُنظر إليه كرجل من رجال النظام القديم، لينتهى دوره بقيام الثورة، ولكن نُظِرَ إليه باعتباره اسما كبيرا له ثقله ووزنه الثقافى، الذى لا يمكن أن يقوم به غيره.
ولهذا فقد عُهِدَ إليه بالمشروع الثقافى القومى الكبير "مشروع الألف كتاب"، فخطط له على أحسن وجه ممكن وأشرف على إصداراته التى ظلت تصدر بانتظام منذ العام 1955 وحتى العام 1968. وقد أحدث هذا المشروع رَواجا هائلا فى حركة النشر، على مستوى معظم دور النشر المصرية، بناء على الخطة التى وضعها طه حسين، ووافقت عليها اللجنة المشرفة عليه تحت رئاسته، على النحو التالى: أن يُعْهَدَ لدور النشر المختلفة على مستوى الجمهورية بطباعة وتوزيع كتب المشروع، نظير أن يشترى المشروع ألف نسخة من كل كتاب حسب سعر الغلاف. وقد رحبت دور النشر بهذا الاقتراح، ومن ثم أقبل أصحابها على التعامل مع هذا المشروع، المُربح جدا بالنسبة لهم. لأنهم فى الواقع سيضمنون على الأقل استرجاع المنصرف من تكاليف نشر الكتاب من خلال التوزيع (المضمون) للألف نسخة الأولى التى يتولى شراءها المشروع، ثم يتمثل ربحهم فى بيع بقية نسخ الكتاب (حوالى ألفىْ نسخة)، وقد مثل هذا المشروع طفرة هائلة فى معدل طباعة ونشر الكتب فى مصر فى تلك الفترة، لاسيما وأن اختيار الكتب المترجمة والمؤلفة كان يخضع لمعايير رفيعة المستوى فى انتقاء الأجود والأفضل، فضلا عن التنوع الهائل ليشمل جميع فروع المعرفة ومن جميع اللغات الحية.
وحينما أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والعلوم والآداب، انبثقت عنه عدة لجان، فهذه للشعر، وتلك للفلسفة والعلوم الاجتماعية، وثالثة للعلوم، ورابعة للفنون.. إلخ. أما بالنسبة للنشر فقد كانت ثمة أنشطة ثلاثة:
ـ سلسلة "المكتبة العربية"، وتُختارُ كتب هذه السلسلة ذات المستوى الفكرى والثقافى الرفيع، ويعهدُ بنشرها لدور النشر المختلفة، حيث تمَّ نشر الكثير من الكتب المهمة لسنوات عديدة، من خلال هذه النافذة الثقافية الراقية.
ـ أما لجنة الترجمة التى كانت تحت إشراف عميد الأدب العربى طه حسين، فقد كانت تغطى مشروع "الألف كتاب" الأول، ذات المستوى الجيد تأليفا وترجمة ومُراجعة. وقد انتهى هذا المشروع بهزيمة يونيو 1967، وكانت آخر ميزانية مرصودة له فى يوليو 1968، وقدم المشروع حوالى 750 كتابا شملت مجالات الترجمة والتأليف فى معظم المجالات المعرفية والثقافية.
مجلة “الكاتب المصرى”:
من الأدوار الثقافية المهمة للدكتور طه حسين، إنشاؤه لمجلة "الكاتب المصرى" سنة 1945، والتى أشرف عليها ورأس تحريرها، وظلت تصدر بانتظام حتى عام 1948. وقد شاركت هذه المجلة مع غيرها من المجلات الثقافية، التى كانت تصدر فى تلك الفترة من تاريخ مصر، فى إحداث نهضة ثقافية وفكرية عامة، كما أسهمت إسهاما كبيرا فى ترسيخ الحركة الإبداعية المعاصرة فى مصر وأمتها العربية، وأبرزت دور القاهرة كمركز ثقافى إشعاعى فى النصف الأول من القرن العشرين.
ولهذا فإن هذا الدور التنويرى، لاسيما فى جانبه الفكرى السياسى والتحررى، قد جعل بعض الذين يتصدون لحرية الفكر والرأى من أن يتصدوا لهذه المجلات مرارا وتكرارا بالتقييد والمصادرة والإلغاء، ظنا ممن يفعلون ذلك أن هذه هى الوسيلة الفعالة التى تُحَجِّمُ التحديث وتقف فى مواجهة التجديد والتغيير. والجدير بالذكر أن للدكتور سليمان حزين مقال فى العدد رقم ستة عشر الصادر فى يناير من عام 1947 يفنِّدُ فيه الرأى القائل بأن مصر من أكثر الأمم محافظة على القديم، ويرى -بعد المناقشة- أن هذا الرأى غير صحيح؛ ذلك أن المحافظة على القديم قد تؤدى إلى الجمود والتلاشى، ومصر لم تعرف الجمود قط أو الافتقار إلى مسايرة الزمن، ولذا فقد ظلت حية عبر العصور. فكان دأبها المحافظة على القديم بحيث لا تحول هذه المحافظة دون التجديد والتطور، كما كانت تأخذ من حضارات الشرق والغرب ما لا يمسخ القديم أو ينسخه. فكانت بهذا تجمع -دون بأس أو حرج- بين أصالة القديم ومحاسنه وحيوية الجديد ومآثره، وتستمد من رافديهما حياتها المادية، وحيويتها الروحية وتقدمها وتطورها من الاثنين معا: قديم لا يُجحدُ وجوده، وهو بمثابة أساس للجديد، وجديد لا غنى عنه لمعايشة العصر ومسايرته. كانت هذه رسالة طه حسين التى تجسدت فى معظم كتاباته، ولهذا نجد مفكرا ومستشرقا فرنسيا -جاك بيرك- يعبر عن هذا أصدق تعبير حينما قال: وإذا كان مجرى التطور قد حاد عن الآمال التى صاغها طه حسين فى "مستقبل الثقافة فى مصر"، فإننا نستطيع -على الأقل- أن نقر بأنه استطاع أفضل من غيره من مواطنيه، أن يزاوج بين الحديث و"التقليدى" أو بين الارتباط بالأصيل والتفتح على العالمى.
وقد أوضح العميد هذا الاتجاه المتوازن فى افتتاحية العدد الأول من المجلة قائلا: "يُقال إن الشعب المصرى أول من كتب بالقلم، واتخذ الحروف رموزا للكلام الذى يؤدى عن القلوب والنفوس والعقول ما يثور فيها من العواطف، وما يضطرب فيها من الأهواء، وما يخطر لها من الآراء.. ثم يقول عن المجلة (مجلة الكاتب المصرى): وهذه المجلة تستمد برنامجها وخطتها وسيرتها من تاريخ مصر القديم والحديث، ومن المهمة التى نهضت بها مصر، منذ شاركت فى الحضارة الإنسانية العامة".
وقد كان من طموحات طه حسين أن تصبح مجلته الجديدة صلة ثقافية، بأدق معانى هذه الكلمة وأرفعها بين الشعوب العربية أولا، وبين هذه الشعوب وأمم الغرب ثانيا. وحرصا منه على بيان أن هذه النية أو الخطة هى بالفعل موضع التنفيذ، فقد نشر فى الصفحة التالية لفهرس العدد الأول من المجلة التنويه التالى لقرائها: "اتفقت مجلة الكاتب المصرى مع طائفة من كبار الأدباء الأوروبيين والأمريكيين على أن يوافوها بمقالات وقصص تكتب لها خاصة بحيث تنشر لأول مرة باللغة العربية قبل نشرها بأية لغة أخرى فيكون قراء هذه المجلة أسبق الناس إلى الوقوف على ثمرات عقول هؤلاء الكتاب".
كما كان يريد لهذه المجلة أن تقوم بمقومين أساسيين، يكفل أحدهما الثبات والاستقرار ويكفل الثانى النمو والتطور والارتقاء. ومن ثمَّ يَعِدُ بأن تحرص المجلة على العناية بتقديم الأدب العربى فتدرس تاريخه وتكشف أسراره وتحيي آثاره. وتعنى أيضا بالأدب الحديث الذى ينتجه الممتازون من كتَّاب الشرق العربى لتذيعه وتنقده وتشجعه وتجعله غذاء لعقول العرب وقلوبهم وأذواقهم، وتهيئة لعقول غير العرب من أبناء الأمم الأخرى المتحضرة بحيث يمكن أن ينتقل إلى اللغات الأوروبية المختلفة.
كما كانت المجلة توائم أيضا بين الثقافة الأدبية برسوخ قدمها وعراقتها وقِدَمها والثقافة العلمية بحداثتها ومعاصرتها ووعيها الكبير بالمستقبل، وذلك عن طريق ما تنشره لبعض العلماء ومشاهير الأطباء. من ذلك مثلا ما كان ينشره فيها كل من الأستاذ الدكتور محمد محمود غالى فى مجالات الفيزيقا والكيمياء والجيولوجيا والتكنولوجيا المرتبطة بهذه العلوم، وغيرها من موضوعات العلوم المختلفة بوجه عام.
كما دأب على الكتابة بها أيضا الدكتور محمد كامل حسين مُوَقَّعا باسم "ابن سينا"، وذلك لتخصصه المهنى فى الطب مثله، ولاهتمامه بالجوانب الفلسفية والنواحى الأدبية، شأن معظم أساطين العلماء القدماء، كما استكتب فيها الدكتور طه حسين كل من سلامه موسى وـ د.حسين فوزى وـ د. سليمان حزين وـ د.محمد عوض محمد من منطلق خلفياتهم العلمية، وثقافتهم الموسوعية المستنيرة.
عنايته بالشباب .. والمستقبل:
حينما نشر طه حسين كتابه عن رؤيته حول التعليم والثقافة، جعل عنوانه: "مستقبل الثقافة فى مصر"، أى أنه وهو يبلور رؤيته تلك كان المستقبلُ نُصْب عينيه؛ والشباب فى كل أمة هم عُدة المستقبل، ووقوده الذى يدفع به ويندفع معه إلى الأمام، وزاده الذى يرفده بالحيوية والانطلاق والآمال. وعلى هذا، فحينما خطط لهذه المجلة لم ينس المستقبل، والدور الذى يمكن أن يضطلع به الشباب لخلق هذا المستقبل الأفضل. وفى هذا يقول الرجل: "وهى (أىْ المجلة وسياستها) تنظر إلى أمس، وتنظر إلى اليوم، وتنظر كذلك إلى غد. فستنشر ما يحيى الأدب القديم، وستنشر ما يقوي الأدب الحديث، ولكنها فى الوقت نفسه ستعنى بهؤلاء الشباب الذين يجربون أنفسهم، ويحاولون أن يشاركوا فى الإنتاج الأدبى، فستفسح لهم مكانا رحبا بين صفحاتها، وستتلقاهم رفيقة بهم مشجعة لهم، ولكن قاسية عليهم فى النقد والاختيار. فالشباب فى حاجة إلى التشجيع الخالص والرفق، ولكنهم فى حاجة كذلك إلى التمرين والنقد. ويوشك التشجيع الخالص أن يكون تغريرا، كما يوشك النقد الملح المسرف فى العنف أن يكون تثبيطا للهمم. وخير الأمور أوساطها.
الثقافة حرية وفكر وانطلاق:
نذر طه حسين حياته لإشعال ثورة ثقافية، تحرر العقل من إسار التقليد، فتطلق ملكاته العاقلة والمفكرة والمبدعة، فى كل مجال من مجالات الحياة، وظل طيلة حياته يجاهد بأعلى صوته، لتحقيق ذلك، حتى فى المجال اللغوى كما كنا نسمعه يُردد ويقول: لغتنا العربية يُسْرٌ لا عُسْر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه من ألفاظ فى هذا الزمن الجديد.
وهذا الفكر المتحرر الجريء، هو المفتاح السحرى لمُحاربة التخلف والتقليد الأعمى، والسعى الحثيث نحو التقدم والرقى والانطلاق، إلى الآفاق الرحبة نحو حياة حضارية عصرية مُتألقة.
والإنسان العربى -عامة- أحوج ما يكون -اليوم وغدا- إلى فكر وعقل هذا الرجل الذى قاد المُبصرين؛ ذلك أن الثقافة كانت ومازالت أغلى وأعز ما نمتلكه من بضاعة، وهى القادرة على انتشالنا من إحباطاتنا ومخاوفنا وتخلفنا، وهى التى ترفدنا بقوة، بكل ما من شأنه مواجهة التحديات الكبرى التى تواجهنا، إنها ببساطة استعادة للدور الحضارى والريادى للإنسان العربى.