نشرت دراسة جديدة تتعلق بالأسباب الحقيقة التي ادت إلى لانحدار الإمبراطورية الرومانية الشرقية "البيزنطية" في القرن السادس الميلادي.
ووفقا لما نقله موقع labrujulaverde، أجرى تلك الدراسة الباحثان هاجاي أولشانيتسكي وليف كوسينز، والمُنشورة في مجلة "كليو"، وتُقدم الدراسة منظورًا جديدًا يتحدى النظريات التقليدية التي ربطت تراجع الإمبراطورية بالتغيرات المناخية والطاعون.
أسباب انهيار الدولة الرومانية الشرقية
كانت النظريات السابقة ترى أن العوامل الطبيعية مثل العصر الجليدي الصغير في أواخر العصور القديمة والطاعون الذي ضرب الإمبراطورية في عهد الإمبراطور جستنيان لعبت دورًا رئيسيًا في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، مما أسهم في ضعف الإمبراطورية في تلك الفترة.
الأسباب الحقيقة للانهيار
شكك الباحثان أولشانيتسكي وكوسينز، في دراستهم الحديثة، في هذه التفسيرات، قائلين إن الإمبراطورية قد شهدت على العكس من ذلك نوعًا من الانتعاش السكاني والتوسع في بعض المناطق خلال نفس الفترة الزمنية.
الأدلة الأثرية تبرز الحقيقة
ركز الباحثان في دراستهما على الأدلة الأثرية، مستفيدين من البيانات التي توفرها المواقع الأثرية المختلفة، بما في ذلك المستوطنات القديمة وحطام السفن وأنماط التجارة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إذ استعرضا الأدلة المتعلقة بهذه الأنماط بشكل دقيق، مما ساعدهما في تقديم فرضية جديدة تدحض الآراء السابقة التي ربطت انهيار الإمبراطورية الرومانية الشرقية بالعوامل المناخية والوبائية.
وأكد الباحثان أن هذه العوامل لم تكن هي السبب الرئيس لانحدار الإمبراطورية في القرن السادس الميلادي، بدلاً من ذلك، أشاروا إلى أن الانحدار كان مرتبطًا بشكل أكبر بالظروف البشرية والعسكرية، وبالتحديد الغزوات الفارسية والتوسع الإسلامي في القرن السابع.
كما استخدم الباحثان تقنيات جديدة لتحليل البيانات الأثرية، حيث درسوا التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط باستخدام حطام السفن المتبقية من تلك الفترة، بالإضافة إلى فحص المواقع الأثرية بشكل مفصل في مناطق مثل مدينة إلوسا في صحراء النقب وسكيثوبوليس في فلسطين.
وقد أظهرت نتائج الدراسة أن النشاط التجاري في تلك الفترة لم يتأثر بالانهيار الاقتصادي الذي كان يُعتقد أنه ناتج عن الطاعون أو التغيرات المناخية، بل على العكس، ظل النشاط التجاري مستمرًا وأحيانًا ازداد في بعض المناطق.
الطاعون وتغير المناخ
تتحدى الدراسة أيضًا الافتراضات السابقة بشأن تأثير الطاعون الذي اجتاح الإمبراطورية في القرن السادس، والمعروف بـ"طاعون جستنيان"، وهو الطاعون الذي اعتُبر من أخطر الأوبئة في التاريخ القديم، ووفقًا لأولشانيتسكي وكوسينز، فإن الأدلة الأثرية لا تدعم فكرة أن الطاعون أدى إلى انهيار كبير في عدد السكان أو في الاقتصاد.
ويعتقد الباحثان أن بعض الدراسات قد بالغت في تقدير تأثير الطاعون، خاصة وأن الأدلة لا تشير إلى أن الطاعون تسبب في أزمة سكانية مستمرة أو انهيار اقتصادي.
أشارت الدراسات الحديثة حول الجينات المتعلقة بالطاعون إلى أنه قد وصل إلى أوروبا قبل ما كان يُعتقد سابقًا، وربما تعايش السكان معه دون أن يسبب انخفاضًا كبيرًا في أعدادهم أو أزمة اقتصادية طويلة الأمد.
التغيرات المناخية و الإمبراطورية البيزنطية
فحص الباحثان أيضا تأثير التغيرات المناخية على الإمبراطورية البيزنطية، إذ تشير الدراسة إلى أن تبريد المناخ في فترة العصر الجليدي الصغير كان له تأثير أقل من المتوقع في المناطق الجنوبية للإمبراطورية مثل مصر وفلسطين، حيث كان انخفاض درجات الحرارة في هذه المناطق معتدلًا جدًا "حوالي 0.25 درجة مئوية فقط"، مقارنة بالمناطق الشمالية التي شهدت انخفاضًا أكبر.
وتؤكد الدراسة أن تأثيرات الغبار البركاني المرتبط بتغير المناخ في عام 536 م كانت قصيرة المدى ولا تؤثر بشكل كبير على المناطق خارج أوروبا، مما يعني أن تأثيرها على الإمبراطورية البيزنطية كان محدودًا.
الحروب والغزوات العسكرية
تشير الدراسة إلى أن الحروب والغزوات العسكرية كانت العامل الحاسم في تراجع الإمبراطورية في القرن السابع الميلادي، لا سيما مع الغزوات الفارسية التي استمرت من عام 602 حتى 628 م، بالإضافة إلى توسع الجيوش الإسلامية بعد معركة اليرموك عام 636 م.
على الرغم من استمرار النشاط التجاري في شرق البحر الأبيض المتوسط في القرن السادس، إلا أن التوسع الإسلامي في السبعينات من القرن السابع تزامن مع تراجع حاد في التجارة والنشاط الزراعي، وهو ما يعكس بداية انهيار كبير في الاقتصاد البيزنطي في تلك الفترة.
الأدلة الأثرية في سياق تراجع المستوطنات
تعد من أحد الجوانب المهمة التي تناولها الباحثان، كان فحص المواقع الأثرية في منطقة النقب، مثل مدينة إلوسا، التي كانت تعرف سابقًا بأنها تشير إلى انهيار اجتماعي بسبب الهجرات الجماعية للسكان، ولكن يشير كل من أولشانيتسكي وكوسينز إلى أن تأريخ بقايا القمامة في هذه المواقع لم يكن حاسمًا بشكل كافٍ لتقديم تفسير نهائي لهذا الانحدار، بل قد يكون هذا الهجر تدريجيًا نتيجة للصراعات العسكرية والغزوات الإسلامية التي بدأت في القرن السابع.
استنتاجات الدراسة
تدعم الدراسة أن الانحدار الكبير للإمبراطورية البيزنطية في القرن السابع لم يكن بسبب العوامل البيئية فقط، بل كان أيضًا نتيجة للتغيرات العسكرية والسياسية الهائلة، مثل الغزوات الفارسية والتوسع الإسلامي.
وتعزز الأدلة الأثرية هذه الفرضية، حيث تظهر الدراسات أن أعداد المستوطنات في القرن السادس كانت في زيادة، وكان هناك نشاط تجاري مستمر، حتى بدأ التراجع في القرن السابع، وهو ما يعكس تأثير الحروب والصراعات العسكرية بشكل أكبر من الظواهر الطبيعية مثل الطاعون أو تغير المناخ.
قدم أولشانيتسكي وكوسينز في النهاية رؤية مغايرة لما كان يُعتقد سابقًا حول أسباب تراجع الإمبراطورية البيزنطية، ويعززان الفكرة القائلة بأن الحروب العسكرية والتوسع الإسلامي كان لهما دور كبير في انهيار الإمبراطورية في الفترة التي تلت القرن السادس.