إن تراجعت بي السنوات ما كنت بقادرة على وصف هذا المشهد كما سأصفه الآن، فنحن وكلما تقدم بنا العمر نصبح فريسة لوحدة تصيبنا وتصيب أغلب الآباء والأمهات، نتمنى أن نعود ويعود معنا أبنائنا صغارًا كما كانوا، نستشعر معهم من جديد حلاوة اهتمامنا بهم وتحملنا لمسئوليتنا تجاههم وبذل العطاء من أجل تنفيذ رغباتهم وإسعادهم وبلعب كنا نتقاسمه معهم برغبتنا في أغلب الأحيان.
تمر الأيام ويكبر الصغار وينشغل كل واحد منهم بعمل وعائلة، دوامة تأخذه من والديه شيئًا فشيئًا، فيبتعد وتذهب معه بعض الذكريات يفقد بعضها في طريقه لكن أغلبها يبقى حاضرًا حيًا متواريًا بسبب الشعور بفرط الانشغال، تلك الذكريات هى التي تنعش ذاكرة والديه اللذان يعيشان على أريج عطرها حتى الآن، يتلمسان حنينًا خفيًا لعودة تلك الأيام، تجذبهما الرغبة في العودة لزمان وأيام كانت تبدو فيه حينها الأيام ثقال، يشتاق كل منهما إلى حضن دافئ وقبلة رقيقة يطبعها على وجنات هؤلاء الصغار.
كثيرًا ما كانت تزعجنا بعض أفعالهم، فمرحهم المختلط ببعض المبالغة كان يثير أعصابنا ويحرك فينا غضبًا يدفع بنا نحو المزيد من الانفعال، لم نكن نعلم حينها أن هذه الأفعال ستصبح رصيدًا نعيش على فيضه في أيام أتيات متسارعات، وبأنها ستصبح هى أجمل وأحلى الذكريات، فالبيت الذي يزينه وجود الأطفال لا يعرف الملل طريقًا إليه، إنه الممتليء بالحياة، المزين بأعذب ابتسامات الأمل، بالضحكات الصافيات.
يكبر الصغار وينشغلون، تأخذهم دنياهم إلى حيث تريد، تجري بهم وتحكم قبضتها عليهم بالاستيلاء على دقائقهم وساعاتهم لتصبح أيامًا أو أكثر، تحول وتيرة الحياة المتسارعة بينهم وبين التواصل بشكله المعتاد مع والدين كانا يتنفسان بوجودهما.
تبدأ صراعات النفس في إشعال الموقف، تتوالى أدلة الاتهام في الظهور، تقيم محكمتها الجلسة تلو الأخرى، تتهم الأولاد بالتقصير وأحيانًا بالتخلي وربما بالعصيان، أبناؤنا يحيون حياة تختلف عن حياتنا فحياتهم تستحق المزيد من الإشفاق عليهم، الكثير من التماس الأعذار، فعالمهم ليس كعالمنا وأيامهم لم تعد حافلة بالبركات، والتنقل من مكان لمكان أصبح مغامرة ورحلة عذاب.
كلماتي دعوة صادقة لالتماس العذر لأبنائنا، كلماتي لا تتعارض مع أمر وتكليف ببر لوالدين قدما أعمارهما للأبناء بكل رضًا، حديثي لم يبرر إهمالًا أو يؤيد عدم سؤال، رجاءً لا تحملوا أبناءكم فوق طاقتهم فالزمان مختلف، لا تكثروا من توجيه عبارات اللوم لهم ولا تبالغوا في طلباتكم في الاستدعاء؛ إلا أن كان الأمر ضروريًا فقط أو هام.
دعوهم يحيون حياتهم الشاقة، اشكروا لهم السؤال بأي وسيلة اتصال، أكثروا من دعواتكم لهم بصلاح الحال، ابتهلوا إلى الله أن ينجيهم من شرور الفتن، واعلموا أن ابتعادهم لا يعني نسيانكم أو التنكر لفضلكم، بل هو ناتج دون شك عن فرط انشغال.