الإيطالي «فيليبو توماسو مارينيتي».. مناهضًا للفاشية وداعيًا إلى إنشاء «مجمعات بلاستيكية»
علم من أعلام الفن والموسيقي والأدب أوائل القرن العشرين، بأوروبا، وتميزت مؤلفاته بالدعوة إلي طرح التقليد جانبًا ومحاولة التعبير عن الطاقة الدينامية المميزة لحياتنا المعاصرة إنه الأديب فيليبو توماسو إميليو مارينيتي.
طفولته ومراهقته
ولد إيميليو أنجلو كارلو مارينتي، في مثل هذا اليوم 22 ديسمبر لأسرة إيطالية في الإسكندرية، مصر حيث تربي ودرس فيها، حبه للأدب تزامن مع دراسته، وفي سن السابعة عشر أنشأ مجلته المدرسية الأولي «ورق البردي»، وهددته المدرسة اليسوعية بالفصل منها لأنه جلب رواية اعتبرتها "فاضحة، للفرنسي إيميل زولا.
وكان والد أنريكو محاميًا من بيدمونت، أما والدته أماليا غرولي، فهي ابنة أستاذ أدب من ميلانو و جاؤوا إلى مصر عام 1865 بدعوة من الخديوي إسماعيل باشا ليعملوا كمستشارَيْن قانونييْن للشركات الأجنبية التي شاركت في تطوير حبه للأدب في أثناء سنوات الدراسة كانت والدته قارئة مُتعطشة للشعر، وأدخلت مارينيتي الشاب في دراسة الكلاسيكيات الإيطالية والأوروبية.
المجلة المدرسية
بدأ «مارينيتي» مجلته المدرسية الأولى في سن السابعة عشرة، بابيروس، وهدد اليسوعيون بطرده نتيجة لنشره روايات إميل زولا الفاضحة في المدرسة، درس أولاً في مصر ثم في باريس، وحصل على الشهادة الثانوية في عام 1894 في السوربون، بالإضافة إلى دراسته للقانون وتخرجه من جامعة بافيا في إيطاليا عام 1899م، لكنه قرر ألا يكون محاميا واتجه لتطوير أعماله الأدبية، وجرب أن يكتب مختلف أنواع الأدب، كالشعر والسرد والمسرح والكلمات في الحرية، ووقع كل شيء باسم فيليبو مارينيتي.
الحركة المستقبلية
يُعد مارينيتي وكونستانتين برانكوشي زائرَيْن لدى تجمع آبي دي كريتل، أمضى مارينيتي عام 1908 جنبا إلى جنب مع الكتاب الشباب مثل روجر ألارد (وهو أحد الأوائل الذين دافعوا عن التكعيبية)، وبيرجان جوف وبول كاستياو الذين أرادوا نشر أعمالهم من خلال مجموعة آباي.
و كان تجمع آباي دي كريتل مجتمع الكتائب الذي تأسس في خريف 1906 من قِبل الرسام ألبرت غليزس والشعراء رينيه أركوس وهنري مارتن بارزون وألكسندر ميرسيرو وتشارلز فيلدراك. وقد استمدت هذه الحركة إلهامها من (آباي ذي ثيليم) وهو إبداع خيالي لرابليه في روايته جارجانتو، وجرى إغلاقها من قِبل أعضائها في أوائل عام 1908.
ولكن شهرته تعود لكونه مؤلف البيان المستقبلي الذي كتبه في عام 1909. وقد نشر في الصفحة الأولى لأكثر صحيفة يومية مرموقة لوفيغارو وباللغة الفرنسية في 20 فبراير من عام 1909.
أعلن «مارينيتي» في «التأسيس وبيان الحركة المستقبلية»، أن «الفن، في الواقع، لا يمكن أن يكون سوى العنف والقسوة والظلم» وأشار مارينيتي إلى الحادث في البيان المستقبلي: وقد عزم مارينيتي الذي أصبح رجلاً جديداً بعد خروجه من تلك الحفرة، على إنهاء التظاهر والانحطاط السائد على أسلوب الحرية. وناقش برنامجاً ثورياً قوياً وجديداً مع أصدقائه، والذي تضمن إنهاء أي علاقة فنية من الماضي «تدمير المتاحف والمكتبات وكل أنواع الأكاديمية». معاً، كتب: «سوف نمجد الحرب -وهي التطهير الوحيد في العالم- سواء العسكرية أو الوطنية، أو الإشارة المدمرة لجامعي الحرية، الأفكار الجميلة التي تستحق التضحية لأجلها، وازدراء المرأة».
ودافع جورج سوريل، الذي كان له تأثير على الطيف السياسي بأكمله من الأناركية (الفوضوية) إلى الفاشية، عن أهمية العنف. كان للمستقبلية عناصر أناركية وفاشيّة، وأصبح مارينيتي بعدها مؤيداً نشطاً لبينتو موسوليني، تعرّض مارينيتي، الذي كان معجباً بالسرعة، لحادث سيارة بسيط خارج ميلانو في عام 1908، عندما انحرفت سيارته إلى حفرة في محاولته لتجنب راكبَي الدراجات.
وتمت قراءة البيان المُستقبلي ومناقشته في كل أنحاء أوروبا لكن لم تكن أول أعمال مارينيتي في «الحركة المستقبلية» في الواقع ناجحة، في أبريل، توقفت ليلة افتتاح دراما لو روي بومبانس (ملك الولائم)، والتي كُتبت في عام 1905، وذلك نتيجة للتصفير الساخر والصاخب من قِبل الجمهور، ومن قِبل مارينيتي أيضاً. والذي قدم بذلك عنصراً آخر من الحركة المُستقبلية «الرغبة بأن تكون مُتحدياً ومُزعجا»، ومع ذلك، فقد خاض مارينيتي مُبارزة (جدالًا حادًا) مع ناقد اعتبره قاسيا جدا.
لم تكن مسرحيته الدرامية لا دونا إي موبايل « بوبيز ايليكتركس)، التي عُرضت أول مرة في تورين، ناجحة أيضا والمسرحية حاليا بواسطة إصدار لاحق يُدعى إليكتريكا سيسوال «الكهرباء الجنسية)، وخصوصاً ظهور الآلي ذي المواصفات البشرية على خشبة المسرح، وذلك قبل عشر سنوات من اختراع الكاتب التشيكي كارل كابك مُصطلح «الروبوت».
وفي عام 1910، تمت تبرئة روايته الأولى «مافاركا إيل المُستقبلية، من جميع التهم وذلك خلال محاكمة للأعمال المُشينة.، وفي ذلك العام وجد «مارينيتي حُلفاءه؛ممن تبنوا الفلسفة المستقبلية، وهم ثلاثة شباب رسامين، وبالتعاون معهم «ومع بعض الشعراء مثل ألدو بالازيتشي» و بدأ مارينيتي سلسلة من الأسباب المستقبلية، وهي عبارة عن عروض مسرحية أعلن المستقبليون فيها عن بياناتهم أمام حشد حضر جزئياً إلى العروض ليرموهم بالخضار.
أما «الحدث» الأكثر نجاحاً في تلك الفترة كان نشر «بيان ضد المحبة القديمة للبندقية» في البندقية، وفي النشرة، يطالب مارينيتي «ملء القنوات الصغيرة النتنة بالأنقاض من القصور القديمة والمنهارة والمدمرة (العفنة)»، إلى «الاستعداد لولادة البندقية الصناعية والعسكرية القادرة على السيطرة على البحر الأدرياتيكي العظيم، البحيرة الإيطالية».
في عام 1911، بدأت الحرب الإيطالية التركية وغادر حينها مارينيتي إلى ليبيا كمراسل حربي لصحيفة فرنسية، وفي نهاية المطاف جُمعت مقالاته ونُشرت في صحيفة معركة طرابلس. ثم غطى أحداث حرب البلقان الأولى 1912-1913، وشهد النجاح المفاجئ للقوات البلغارية ضد الإمبراطورية العثمانية في حصار أدريانوبل.
قام مارينيتي في هذه الفترة بعدد من الزيارات إلى لندن والتي اعتبرها «المدينة المستقبلية بامتياز»، حيث تم تنظيم عدد من المعارض والمحاضرات والمظاهرات للموسيقا المستقبلية فيها. ومع ذلك، وبالرغم من اهتمام عدد من الفنانين بالحركة الجديدة، ومنهم ويندهام لويس، إلا أنه لم ينتمِ إليها سوى فنان بريطاني واحد وهو الشاب سي آر-دبليو نيفنسون، ورغما من ذلك فقد كان للمستقبلية تأثير مهم على فلسفة لويس الفيرتيكية.
وعمل «مارينيتي» في ذلك الحين على رواية شعرية، اسمها لو مونوبلازدو باب (طائرة البابا 1912م ، كما حررَّ مختارات للشعراء المستقبليين، ولكن محاولاته لتجديد أسلوب الشعر لم تكفه، حيث تطور ذلك لدرجة إعلانه ثورة جديدة في مقدمته للمختارات: لقد حان الوقت للقيام بتحديد الشعار الخاص والتقليدي (الجملة التقليدية) واستخدام «كلمات تُعبر عن الحرية».
وتجسد زانغ تومب تومب، قصيدة «مارينيتي» الصوتية، وهي رواية عن معركة أدريانوبل، كلماتٍ في الحرية، حيث يمكن سماع تسجيلات مارينيتي يقرأ بعض قصائده الصوتية: باتاغليا، بيسو+اودور 1912، دون، كلمات في الحرية 1914، لا باتاغليا دي أدريانوبلي 1926، والتي سُجلت في 1935.
في أثناء الحرب
تم تحريض «مارينيتي» على المشاركة مع الجيش الإيطالي في الحرب العالمية الأولى، وتطوع للخدمة، وفي خريف عام 1915، تمركز هو وبعض المُستَقبليين الآخرين وهم أعضاء تابعين لراكبي الدراجات المتطوعين في لومبارد في بحيرة غاردا، مقاطعة ترينتينو، وبقوا في تلك المنطقة العالية من الجبال على طول الحدود الإيطالية النمساوية، وتحملوا عدّة أسابيع من القتال في ظروف قاسية قبل أن تُحلَّ وحدات راكبي الدراجات والتي تعتبر غير ملائمة لحرب الجبال.
أمضى «مارينيتي» معظم عام 1916 في دعم المجهود الحربي الإيطالي من خلال الخُطب والصحافة والعمل المسرحي، ثم عاد للخدمة العسكرية كضابط في الجيش النظامي في عام 1917، وفي مايو من ذلك العام، أصيب بجروح خطيرة في أثناء خدمته مع كتيبة مدفعية في جبهة أيزونزو، ثم عاد إلى الخدمة بعد فترة نقاهة طويلة، وشارك في الانتصار الإيطالي الحاسم في معركة فيتوريو فينيتو في أكتوبر عام 1918.
الحياة الشخصية .. وزوجة شريك للإبداع
تزوج مارينيتي في عام 1923 بعد فترة خطوبة طويلة، من بينيديتا كابا 1897-1977 وهي كاتبة ورسامة وتلميذة من جياكومو بالا، ولدت كابا في روما، وانضمت إلى الحركة المستقبلية في عام 1917، التقى كابا ومارينيتي عام 1918، وانتقلا للعيش معا في روما، وأنجبا ثلاث فتيات: فيتوريا وآلاء ولوسي.
وتعاون الزوجان في بعض التجمعات الإعلامية المختلفة في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وأطلقا عليها اسم تاتيلسمو (تاكتيلزم)، وكانت زوجته قوية ونشطة في حركة إيروبيتورا بعد تأسيسها في عام 1929، كما أنتجت ثلاث روايات تجريبية، ويكر أن العمل والرئيسي لكابا هو عبارة عن سلسلة من خمس لوحات جدارية في مكتب بريد باليرمو (1926-1935) لمهندس الأشغال العامة الفاشي أنجيلو مازوني.
مارينيتي وموقفه من الفاشية
تأسس حزب بوليتيكو المستقبلي أو الحزب المستقبلي السياسي في أوائل 1918، والذي اندمج مع حزب بيبيتو موسوليني كومباتيمينتو الإيطالي، وفي عام 1919 شارك في كتابة البيان الفاشيستي دي أمبريس، البيان الأصلي للفاشية الإيطالية. لكنه عارض لاحقا تمجيد الفاشية للمؤسسات القائمة، ووصفها بالرجعية، وبعد خروجه من مؤتمر الحزب الفاشي باشمئزاز، انسحب من السياسة لمدة ثلاث سنوات. ومع ذلك، فقد بقي ذا قدرة ملحوظة في تطوير فلسفة الحزب طوال وجود النظام.
النظام الغذائي ..إنشاء «مجمعات بلاستيكية»
هاجم« مارينيتي» كجزء من حملته لإلغاء التقاليد، الطعام الإيطالي التقليدي. ونشر بيانه للطهي المستقبلي في صحيفة تورين غازيتا ديل بوبولو في 28 ديسمبر من عام 1930م، بحجة أن «الناس يعتقدون أن اللباس والتصرفات مرتبطة بما يأكلون ويشربون»، واقترح مارينيتي تغيرات واسعة النطاق في النظام الغذائي، كما هو الحال في نواحٍ أخرى، كان طبخه المستقبلي المقترح قوميا، ورفض الأطعمة الأجنبية وأسماء الأطعمة، وقد كان مطبخه القومي عسكريًا، ويسعى لتحفيز الرجال ليصبحوا مقاتلين.
سعى «مارينيتي» إلى زيادة الإبداع، وانجذب إلى كل ما هو جديد، جعل الاكتشافات العلمية جذابة بالنسبة له، لكن وجهات نظره حول النظام الغذائي لم تكن قائمة على أساس علمي. كان مفتوناً بفكرة الأغذية المصنعة، وتوقع أن الحبوب ستحل في يوم من الأيام محل الطعام كمصدر للطاقة، ودعا إلى إنشاء «مجمعات بلاستيكية» لتحل محل الأطعمة الطبيعية، إذ سيصبح الغذاء بدوره مجرد تعبير فني،
وصف «مارينيتي» العديد من الوجبات التي أكلها بفن الأداء، مثل «عشاء اللمس» والتي أُعيد إنشاؤها في عام 2014 لمعرض في متحف غوغينهيم، وارتدى المشاركون بيجامة مزيفة بالإسفنج وورق الصنفرة والألمنيوم، وأكلوا السلطات دون استخدام أي أدوات للمائدة.
ورحل هذا المبدع «مارينيتي» عن عالمنا في 2 ديسمبر عام 1944م