رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أدب ما بعد الاستعمار.. للعبودية أشكال أخرى

2-12-2024 | 15:35


صورة تعبيرية عن الاستعمار

ياسر علي

قد يرى البعض أن الرق والعبودية مقتصر على مفهوم أمتلاك الشخص والسيطرة عليه جسديًا ونفسيًا فقط، على حين أن مفهومًا أبعد للرق  والعبودية يتجلّى متمثلًا في الاحتلال، فالمُحتل يحاول أن يمحو هوية الأمة التي وقع عليها احتلاله، ومن ثم فرض ثقافته وهيمنته، وسلب الآخر الذي وقع عليه فعل الاحتلال كافة حقوقه في الدفاع عن وجوده، ومحاولة إثبات ذاته، وهو ما تناولته النظرية النقدية من خلال مفهوم "أدب ما بعد الاستعمار"، الذي رصد معاناة بعض الشعوب التي مرّت بعمليات تجريف ثقافية طاحنة.

الكاتب والمفكر خضر إبراهيم حيدر، يرى في بحثه المعنون بـ"الاستعمار وما بعد الاستعمار.. المفهوم والمصطلح والنظرية، أنّ "ما بعد الاستعمار"، بمثابة رؤية نقدية للاستعمار من الجوانب الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. 

كما تعتبر من أهم النظريات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا، ويعمل المساهمون في هذه النظرية على تعرية ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء بلدان المستعمرات، وعليه، يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكير داخل النظام الاستعماري على وجه التحديد من دون أن يعني ذلك اقتصار المنتمين على الانتلجنسيا -النخبة المثقفة- الأوروبية، إذ أن هناك العديد من الشرقيين ساهموا في وضع الأسس الأولى للخطاب ما بعد الاستعماري مثل: المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، والمفكر الكيني عبد الرحمن جان محمد، والباحث الهندي هومي بابا، والباحثة الهندية ج سي سبيفاك، والفيلسوف الأفريقي فرانز فانون، والفيلسوف الإنجليزي روبرت يونغ، هذا إلى جانب عدد من المفكرين العرب مثل حسن حنفي وعبد الوهاب المسيري. 

ويمكن القول أن نظرية ما بعد الاستعمار هي نظرية تعبّر عن خط المقاومة الثقافية والفكرية التي اعتمدها كتّاب ومفكرون من العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وبهذا المعنى، فإن هذه النظرية جاءت في مرحلة ما بعد الحداثة للوقوف في وجه التغريب والتهميش والأقصاء الذي تمارسه الحكومات الغربية في مجتمعات البلدان التابعة، وبناء على ما سبق، فنظرية "ما بعد الاستعمار" هي التي تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية، كما يوحي المصطلح بوجود استعمار جديد يخالف الاستعمار القديم، لذا، يتطلب هذا الاستعمار التعامل معه من خلال رؤية جديدة، تكون رؤية موضوعية وعلمية مضادة.

لذلك ترى لويس تايسون، مؤلفة كتاب النظريات النقدية المعاصرة: الدليل المُيسر للقارئ، أنّ الواقع الذي نجد فيه العديد من الشعوب المُستعمَرة سابقًا من جهة بريطانيا تتحدث اللغة الإنجليزية وتكتبها، وتستخدمها في مدارسهم، وجامعاتهم، وتمارس الأعمال الحكومية بها أيضًا، بالإضافة إلى اللغات المحلية التي تستخدم في المنزل، إنما هو مؤشر على ما تبقى من تأثير للهيمنة الاستعمارية على ثقافاتهم. 

في الواقع، يُشكل التفاعل الديناميكي النفسي والاجتماعي بين ما يعتبره السكان المُستعمّرون سابقًا ثقافاتهم الأم الأصلية التي كانت موجودة قبل الاستعمار البريطاني، والثقافة البريطانية التي فرضت عليهم، جزءًا كبيرًا من مجال دراسة نقد ما بعد الاستعمار. ذلك لأن ثقافات ما بعد الاستعمار تشتمل الاندماج والعداء في آن واحد بين ثقافة كل من المُستعمَر والمُستعمِر، ويصعب في هذه المرحلة تحديدها وتقسيمها إلى كيانات منفصلة، لأن تدخل بريطانيا في الحكم، والتعليم، والقيم الثقافية، والحياة اليومية لمستعمراتها كان كاملًا متكاملًا تمامًا... على الرغم من تراجع المستعمرين وتركهم الأراضي التي غزوها في أيدي أولئك الذين استعمروهم، إلا أن تصفية الاستعمار – في كثير من الأحيان – اقتصرت، إلى حد كبير، على سحب القوات العسكرية، والمسؤولين الحكوميين البريطانيين. 

وقد خلفت تلك المرحلة "استعمارًا ثقافيًا"، متأصلًا للغاية، فغُرس نظام الحكومة والتعليم البريطاني، والثقافة البريطانية والقيم البريطانية التي تشوه ثقافة الشعوب الخاضعة لها سابقًا وأخلاقها والمظهر الجسماني لها أيضًا. وهكذا، تُرك للمستعمَرين سابقًا "ميراث" يتكون من صورة نفسية سلبية عن الذات والاغتراب عن ثقافتهم الأصلية الخاصة بهم، التي كانت ممنوعة أو منتقصة المكانة لفترة طويلة إلى الحد الذي فقدنا فيه الكثير من ثقافة ما قبل الاستعمار"، وهو ذاته ما ينطبق على الشعب الجزائري الذي عانى الاحتلال الفرنسي لفترة زمنية طويلة تجاوزت المئة عام، ما أثر على ثقافته وفكره وجعله واقعًا بين مطرقة الثقافة الاستعمارية والفكر الفرنسي، وسندان الجذور الأمازيغية والهوية العربية، فكما حدث من بريطانيا تجاه مستعمراتها، حدث من فرنسا تجاه الجزائر، فتجد اليوم الثقافة الفرنسية تسير في شوارع الجزائر على قدمين، بداية من اللغة الفرنسية التي تُعد اللغة الأولى للجزائر، وصولًا نمط الحياة الذي يغلب عليه الطابع الفرنسي رغم مرور أكثر من خمسون عامًا على الاستقلال.

لا يخفى على أحد أن الأهداف الاستعمارية لكل المُستعمِرين واحدة على مر التاريخ، فالهدف الأول: خيرات البلد المُستعمَر، الهدف الثاني: توسيع رقعة الإمبراطورية ونفوذها وإيجاد أكثر من مصدر للمواد الطبيعية – الإمبراطورية البريطانية نموذجا، الهدف الثالث: أن تلوح هذه الإمبراطورية لمختلف دول وبلدان العالم بأنها ما زالت ذات سيطرة ونفوذ ومستعمراتها في مشارق الأرض ومغاربها، مثلما كانت تُلوح بريطانيا دائمًا بانها الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، "ويتضح فحوى الخطاب النقدي ما بعد الاستعماري في شطره الأعظم، بوصفه يعبر عن موقف حيوي لتجاوز الأمر الواقع فيتوجه لما على الذات من مسئولية، وعلى الآخر من أخطاء ومثالب، انتصارًا لاختيارات ومراجعات استنهاضية للوعي والإرادة وإشادة عالم مشروط بتصورات إنسانية وعملية في مواجهة الخطاب التوسعي الاستعلائي والقهر المعنوي، والانكفاء ورفض الآخر ومعاداته" ، وهذا ما يتجلى في رواية "ثقوب في الثوب الأسود"  التي تسلط الضوء على قضية "الماتيس" وهم من يولد لأب أبيض وأم زنجية ويعيش منبوذا في المجتمع الأفريقي، مثال على ذلك شخصية سامي الماتيس الذي يكتشف نفسه بمساعدة الطبيب النفسي المصري ويقرر أن يكون زنجياً يدافع عن حقوق مجتمعه، وكذلك أيضًا رواية "ساق البامبو" ، التي تسلط الضوء  على "البدون"، من خلال بطلها "عيسي – هوذيه" المولود لأب كويتي وأم فلبينية، ويعيش حياته مشردًا بين هويته الكويتية وملامحه وجذوره الفلبينية، وأمام نبذ المجتمع الكويتي له، وتعالي أهل والده عليه، يُقرر العودة لجذوره في الفلبين ليحكي حكايته، ويدافع عن جذوره".