ألف عام من القراءة.. فريضة القراءات الاستدلالية للقارئ الحذِق
د. كرمة سامي,
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه». رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأضيف مسترشدة بسياق معاصر يفرضه فرضًا واقع كوكبنا البائس على كل مواطن محلي أو عالمي: "ويُسأل عم قرأ من كتب، أو نهل من معارف، وماذا فعل بها؟ وكيف استوعبها؟ ووظفها؟ وجعلها مما ينفع الناس فيمكث في الأرض؟".
التاريخ سجل خطوات الإنسان على الجغرافيا، والحياة تقاس بما قرأه المرء وأضافه من معارف إلى ذاته ثم أضافه إلى أسرته، ومجتمعه، وأمته، والبشرية. بل إنجاز كل عام يحتسب بما قرأه المرء وعلِمه وعلَّمه. وتحتسب سيرة الإنسان تبعًا لنزواته القرائية أو التزاماته، له ما قرأ وعليه ما لم يقرأ، وكيف قرأ؟ هل كان "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا"؟ أم كان القارئ الحُلو الحذِق الذي يفهم الفكرة قبل إقلاعها؟ أم وهي طائرة؟ أم بعد أن حطت على الأرض؟!.
شِقوة القراءة ونعيمها
بعض الكتب نقرأها وبعضها نحملها في قلوبنا، نقرأها وتقرأنا، نسير على هدى ضيائها، تعيش معنا وتقاسمنا مسيرتنا إلى قبورنا خطوة بخطوة، قد نلهث وراءها، أو نقف لالتقاط أنفاسنا فنجدها تنتظر عودتنا في صبر جميل، لتأخذ بأيدينا وبعقولنا لنتعلم على صفحاتها كيف نقرأ؟ وتخيل معي الكتاب الذي اشتريته برغبتك وبيدك وضعته على رف المكتبة ولم تقرأه، وانشغلت عنه بتوافه الحياة، وبحيرتك أو خبرتك في الاختيار ما بين الصور الرمزية emojis، والرد على رسائل قصيرة من أصدقاء لم ترهم من قبل، وإرسال طلبات صداقة إلى أغراب لن تراهم، وتفقد ما ورد إلى حساباتك على وسائل 'القطيعة الاجتماعية'، التي هرولنا خلف مخترعيها المغرضين لإلهائنا عن رسالتنا وواجبنا نحو أنفسنا ومستقبل أبنائنا.
في ذلك الوقت، قصر أم طال، ينتظر الكتاب في صبر جميل أن تستعيد أصابعك وعيها فتلتقطه من بين عشرات الكتب العابرة، وتنفض عنه غبار الإهمال، وتفتح صفحاته، وتشرع في قراءته، فتعود للكتاب نضارته، وكلما طال حوارك الصامت مع الكتاب تستأنف معه صداقة حقيقية هي زادك في رحلتك وخير متاعك، وعندما تفرغ من قراءته، وتعود إليه مرة أخرى، أومرات، يزداد الكتاب شبابًا، وتألقًا، ونضارة، وامتنانًا، فيبوح لك بأسرار لم يبح بها لك في القراءات السابقة، وكيف لا وقد أصبحتما "جيرة، وعشرة، وأهل، وخِلان"؟!.
متعة القراءة قد تضنينا، لكنه الشقاء المنير، الذي لا ظلمة فيه، الذي تتسع به مساحات الروح وتزيد به وتتضاعف احتمالات خلاصها وتطهرها، تغيرت علاقتي بالكتاب وأخواته عندما قمت بالرحلة التي وثقها أومبرتو إكو في كتابه البديع "دور القارئ: استكشافات في سيميائية النصوص"، في هذا الكتاب وعلى يديه، وبفضل كاتبه، تعلمت أن أكون قارئًا حذِقًا، حريصًا على فريضة القراءات الدلالية والتحليلية، لا يهدر فرصة التعلم على يديّ كتاب، أو بمعنى أدق، صفحاته! وتعلمت فن الإعادة، اللاشعورية، لكتابة النص أثناء قراءته، ومتعة 'التمشية' الداخلية المتأنية بين صفحات الكتاب، التي لا تضاهيها متعة، وممارسة لعبة تناص الكتاب مع كتب أخرى وفك شفراته على مستوياتها المتعددة التي بها تتناقص حمولة النص أو تتزايد.
صدر كتاب إكو بلغته الإيطالية عام ١٩٧٩، وقرأته مترجمًا إلى الإنجليزية منذ أكثر من ثلاثين عاما، بل وألهمني كتابة بحث أعتز به كان ضمن إنتاجي للترقية إلى درجة أستاذ مساعد، عن شخصية شايلوك العابرة لثلاثة نصوص مسرحية: "تاجر البندقية" لويليام شيكسبير ١٥٩٦، و"شايلوك الجديد" التي كتبها في جزئين علي أحمد باكثير ١٩٣٥، و"التاجر" ١٩٧٦ التي أعاد نشرها آرنولد ويِسكير تحت عنوان "شايلوك".
منذ ذلك العهد وقراءة كتاب "دور القارئ" طقس سنوي إلى عامنا هذا، أعود إليه اشتياقًا له واعترافًا بفضله، بهجة الأمل المتأنق.
لا يكتمل رونق الحياة بدون القراءة وعسلها المُر.. إذا انصرفت عنها كلية وشغلتك 'يوميات حزنك العادي' عنها فأنت شقي، وإذا استأثر كتاب بصحبتك تشقيك وخزات ضميرك في انصرافك عن كتب أخرى. هي معضلة لا حل لها ولا فرار منها.. "صحبة الخير" في حياتي لا تكتمل إلا بحضور أطياف كتابات لها من وقتي كل المواسم، وأعود إليها في أي وقت على مدار العام: ويليام شكسبير، وأنطون تشيخوف، وباولو فريري، وحامد عمار، وطه حسين، ورضوى عاشور، وعبد الوهاب المسيري، ويحيى حقي، ومصطفى سويف، وأحمد أبو زيد، وغسان كنفاني، وشوقي جلال، ومحمود شاكر، وغيرهم من نجباء هذه الأمة والعظماء من أبناء التجربة الإنسانية.
كل من ألفوا وترجموا في دوائر متداخلة بين الثقافات القومية، والثقافة العالمية، وتراث البشرية بأسره، هم مواطنو "الكون الذي يسميه آخرون المكتبة"، وما أجمل هذا التعبير الذي أطلقه خورخي لويس بورخيس في قصته "مكتبة بابل"، المنشورة في كتابه "الألف"، ترجمة محمد أبو العطا. تلك المكتبة السرمدية التي بدأت قبل البشرية وتستمر بعد فنائها، ويبدع بورخيس في وصف تفاصيل قاعاتها المسدسة، وآبار تهويتها، وطوابقها، وسلالمها الحلزونية، وأرففها، وما عليها من مجلدات "ملغوزة"، ومراياها، وتضاعفها الخداع، والأهم بحث الإنسان المستميت عن 'فهرس الفهارس'، ورحلته الأبدية نحو الكنز المستحيل، وسر الأسرار، وفك شفرة كل الرموز، وكأن بورخيس يتحدث عن مسعى الإنسان وطموحاته، وحلم إنجازاته القاهرة، وما يتحقق منها وما يخيب، وما يتطابق منها وما يختلف.
الإنسان عند بورخيس هو أمين المكتبة المفتقر إلى الكمال لأن المكتبة تفوق قدراته على الأمانة، فهي تسع كل الكتب، بكل أنواعها الصالح والطالح، وما أكثر النوعين، وبينهما الأغلفة الخادعة، والعناوين المضللة، تظل المكتبة/ الكون عند بورخيس "مضيئة، وحيدة، لا نهائية، ساكنة تماما، مزودة بكتب نفيسة، غير نافعة، لا تفسد، سرية، ورغم ذلك يصرح لنا باعتباره من أمناء المكتبة: "إن وحدتي لتبتهج لهذا الأمل المتأنق".
لا يبتعد وصف أومبرتو إكو للكون كثيرًا عن وصف بورخيس، في الاحتفال الذي عقد بمكتبة الإسكندرية في ١ نوفمبر ٢٠٠٢ وجه إكو تحيته إلى المكتبة بوصفها "معبد الذاكرة النباتية"، ودعا لها بالعمر المديد، لأن كل كتاب عظيم دليل على جهود الإنسان وتفرد تجربته، ووجود الله سبحانه وتعالى الذي سخر للإنسان ما في الكون لتكتمل التجربة وتتفرد بالتوثيق على صفحات الكتاب. ورغم ذلك فإننا لا نعلم حين نبدأ رحلتنا مع كتاب كم الأشجار التي ضحت بخضرة كبريائها كي يصل الكتاب إلى أيادينا، ولا نستوعب قدسية هذه التضحيات التي تشكل عنصرًا مهمًا في تجربة الإنسان على الأرض، وبالتالي تجبرنا كتابًا وناشرين وقراء على انتخاب ما يليق بهذه التضحيات من فكر.
كثير من الكتب الصديقة جسدت لي بهجة الأمل المتأنق، وكانت بمثابة جنتي التي تشكلت بما أحب، وازدهرت أشجارها بثمار كتب من الحكمة والمعرفة، ووجدت في كل كتاب مصباحًا يضيء لي خطواتي القادمة. قرأت العديد من الكتب منذ أن تعلمت القراءة في رياض الأطفال، بل كان فضولي لاكتشاف هذه القارة الجديدة هو الحافز الأول لتعلم القراءة، ربما مر ألف عام أداوم فيها على اكتساب صداقات جديدة من معبد الذاكرة النباتية، وأعيد اكتشاف الأصدقاء القدامى من الكتب التي قرأتها في الماضي، هكذا زادت قائمة أصدقائي الورقيين الجدد، وجددت الوصل مع العشرة القديمة.
أعاد لي كتاب "أساطير شخصية: صعود الآلهة الصغيرة ودراما التاريخ" للكاتب محسن عبد العزيز ذكريات قراءتي لكتاب چوزيف كامبل "البطل ذو الألف وجه"، رغم أنه يقدم اكتشاف الأساطير من زاوية قومية بحكم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أقسام تبدأ بالماضي القريب وتعود أدراجها عبر العصور لتختتم بحكاية إيزيس وأوزوريس التي يطلق عليها الكاتب 'أسطورة الأساطير' وكأنه يعود من بداية النهاية إلى بداية البدايات، ولا أتصور أن بعد تقديمه بالتحليل لهذه الرموز من ثقافتنا وتاريخنا الذين تناول أساطيرهم الشخصية بقراءة متعمقة أن ينضم إليهم من واقعنا المعاصر نماذج جديدة، فقد أفلح الكاتب في إعداد قائمة حصرية بمن يستحقون اللقب، أكد لي الكتاب ما أضمرته تجاه كل من أصحاب الأساطير الشخصية، حرص الكاتب على التفرقة بين صاحب الأسطورة وحارسها وأهمية دور كل منهما، وتمثلت أهمية الكتاب في عدة عناصر أهمها أن الكاتب حكاء لا يفقد اهتمام قارئه، ويجمع قلمه بين صرامة التوثيق العلمي المنهجي ورحابة الخيال في قراءة مبدعة ما بين سطور التاريخ. برع الكاتب في تجسيد جوهر أسطورة كل علم من الأعلام في كلمتين فقد تكون حلم الزعامة، أو التشخيص، أو عين حورس التي تحدد له زاوية نظرته إلى العالم، وبكثير من الخيال والحياد (المتعاطف) مع الأبطال يلين الكاتب موقفك منهم وترى سريرتهم الإنسانية، بل ويستفزك للبحث عن أسطورتك الشخصية وهو أقل واجب يقوم به المرء تجاه ذاته.
لرواية "البلطة" للكاتب الروماني الكبير ميخائيل سادوڤيانو حكاية، فالكتاب في مكتبة والدي منذ صدور ترجمة يحيى حقي للنص إلى العربية عام ١٩٧٢، بسبب غلاف الكتاب عزفت في سنين مراهقتي عن قراءته، وآثرت قراءة لوحات يحيى حقي القلمية وكتاباته الإبداعية ثم النقدية، وفي مرحلة قريبة بدأت في الاهتمام به مترجمًا، لأندم على ما أضعته من وقت دون اكتشاف أهمية هذا الجانب المهم ضمن جملة مواهب يحيى حقي وكنوزه المتعددة. كتب سادوڤيانو الرواية عام ١٩٣٠، وترجمها يحيى حقي عن الفرنسية بعد أربعين عاما من صدورها ليعيد اكتشافها ويقدمها هدية غالية للقارئ العربي يصفها في مقدمة كتابه "ملحمة إنسانية تعبر الحدود"، وها أنا أعتذر لهذا الكاتب الكبير لتأخري في قراءة هذا العمل البديع الذي يضيف إلى رونقه ترجمة أديبنا له ولو عن لغة وسيطة، حرص في ترجمته على نقل الفكر ليقدم لنا نصًا أدبيًا بديعًا نابضًا بالحياة عن البسطاء من أهل الجبال فتحس "كأنك تعرفهم بل أنك تخالطهم"، ولا يقدر على هذا النقل الشعوري الدقيق إلا قلم يحيى حقي.
إحياء للذكرى العاشرة لرحيل رضوى عاشور سيدة المعاني والمضامين في مؤتمر رضوى يمثل كتاب "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا" حجر الزاوية لتجربة خاصة في الكتابة، تجسد رضوى بصدق حسها الإبداعي والنقدي مفهوم غسان كنفاني لأهم عنصر في أبجديات أدب المقاومة: الكاتب "الضمير المستتر"، وما قيمة الكتابة والقراءة إن لم يكونا من أجل المقاومة؟ فهو الضمير الذي لا يتظاهر ولا يتشدق أو يغالي ويزايد، وإنما يتخفى بين الأسطر هامسًا في أذن قارئه ليحفزه على إرادة الفعل وترجمة كلمات النص من الخفي إلى الجلي، وما أجمل البدايات التي أعيد قراءتها الموسمية ليتجدد تلقائيًا اكتشاف فريضة القراءات الاستدلالية للقارئ الحذِق، وبهجة الأمل المتأنق.