رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أربع لآلئ من بحور المعرفة

8-12-2024 | 15:13


ياسر ثابت

د.ياسر ثابت

أربعة كتب، أحدها مترجم، كانت من أبرز قراءاتي خلال عام 2024. ولأن الحديث عن العناوين لا يكفي، فقد آثرت الغوص في هذه الكتب للخروج ببعض لآلئها، علَّها تشير إلى كنوز بحور المعرفة التي نتحدَّث عنها.

لعل من أهم الكتب التي أتيحت لي فرصة قراءتها خلال عام 2024 هو كتاب من جزأين، تحت عنوان «القاهرة مؤرخة: فقرات من تاريخ وعمران المدينة عبر الزمن». الكتاب الذي حرره د. نزار الصياد وصدر عن دار العين، ضم بين دفتيه دراسات قيّمة لعدد من الباحثين الذين تناولوا جوانب مختلفة وأزمنة متنوعة من تاريخ مصر، واستعانوا في أبحاثهم بمجموعةٍ مهمة من المصادر والمراجع التي تعيد رسم صورة القاهرة عبر الزمان.

تكتشف عبر صفحات الكتاب مفاجآت بالجملة، منها أن شاطئ النيل الحالي من جهة الشرق هو نفسه الذي كان موجودًا وقت إنشاء مدينة الفسطاط. فالشاطئ الحالي يبعد عن الشاطئ القديم بنحو 500 متر، انتقلها الشاطئ القديم نحو الغرب. وهذه ظاهرة جغرافية تمتاز بها الأنهار في مجاريها الدنيا. فقد روت المصادر التاريخية أن حصن بابليون وقت الفتح، وجامع عمرو، كانا يشرفان على النيل، وأن باب الحصن الغربي الذي كان يُعرف بباب الحديد، كان مشرفًا على النيل، إلا أن هذا الباب الذي يوجد اليوم في الكنيسة المعلقة، يبعد عن النيل حاليًا بأكثر من 500 متر، كما يبعد جامع عمرو عن النيل بالمسافة نفسها.

لم تعرف الفسطاط سورًا طيلة القرون الخمسة الأولى، كما يذهب عبد الرحمن الطويل، ولم تشهد محاولة لتسويرها إلا بعد 543 عامًا من بنائها، وهو ما منحها حرية التوسعِ والتمدُّدِ في عصورها المُبكِّرة فنشأت خططها خلال عصر التأسيس متباعدة، وعلى رقعة شاسعة، ومن إحدى هذه الخطط ظهرت القرافة، فباتت مدينة للموتى والأحياء معًا، وتمددت شرقًا وشمالًا وجنوبًا لتمنح صفتي الازدواجية والاتساع لجبَّانات القاهرة.

إلا أن مدينة الفسطاط تعرّضت في عام 1168 لأقسى ضربة أضرَّت بعمرانها، وأفقدتها مكانتها في صدارة المدن بمصر لصالح القاهرة.
 ففي هذا العام تمكَّن الفرنج من ديار مصر وحكموا فيها حكمًا جائرًا، وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد، وتبيّن لهم ضعف الدولة وانكشفت لهم عورات الناس. فجمع مري جموعه واستشارهم في قصد ديار مصر، فقووا عزمه على المسير إليها فأجمع أمره على الرحيل واستدعى وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لأصحابه، ففرق قراها عليهم بعد ما كتب جميع قراها وارتفاع كل ناحية؛ واستنجد عسكرًا قوى به جنده.

وحاصر البلد حتى افتتحها قهرًا بالسيف يوم الثلاثاء ثاني صفر وأخذ الطاري والناصر ابني شاور أسيرين، وقتل جميع من كان فيها وأسرهم وسباهم ونهب سائر ما تحتوي عليه وأسر المعظم سليمان بن شاور وقيس بن طي بن شاور.

وأرسل إلى شاور يقول له‏:‏ إن ابنك قال أيحسب مري أن بلبيس جبنة يأكلها‏!‏ نعم بلبيس جبنة والقاهرة زبدة‏ (المقريزي، اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، جـ 3).

ويتضح لنا في موضعٍ آخر من الكتاب أن القاهرة الفاطمية، عاشت بروحين، بين ظاهرها كمقر ملكي لخلفاء فاطميين يحكمون رعايا من مختلف المذاهب والأديان، وبين باطنها كمقر للدعوة الإسماعيلية، حيث يُنظَرُ من خلالها للقاهرة كمدينة مقدسة، لأنها محل للأئمة.

هذه الثنائية حكمت كل شيء في المدينة الفاطمية، وتم إغلاق أبواب القاهرة «المدينة المقدَّسة» وقصرها على الخليفة وحاشيته الإسماعيلية ومنع دخول الرعيَّة -من أهالي الفسطاط إلا بشروط وطقوس مُعيَّنة- إلى الاحتفالات الفاطمية ذات البذخ الأسطوري التي أُجريتْ في محيط القصور الفاطمية، فضلًا عن المنشآت الأخرى، التي استُخدِمت في تكريس عظمة الفاطميين، باعتبارهم خلفاء يصارعون خلفاء العباسيين على الشرعية في العالم الإسلامي، ومن جهة أخرى كأئمة إسماعيلية.

أحاديث الجوى
أما كتاب «أحاديث الجوى في اقتفاء أثر القاهرة» (دار الرواق، 2024) للباحث الأنثروبولوجي والتاريخي حامد محمد حامد، فهو يجمع بمهارة بين التعمق في تاريخ القاهرة المنسي والأسلوب الأدبي رفيع المستوى.

في هذا الكتاب الذي يقع في 192 صفحة من القطع المتوسط، نقف على أطلال القاهرة لا لنبكيها، بل لنطمئن أنفسنا أنه حتى لو زالت صروحها وبادت رسومها، فإن الحكايات قادرة دومًا على أن تحييها من جديد، لنراها رأي العين، ولو كانت عين الخيال.

يقول حامد محمد حامد في مفتتح في الكتاب: 
«دعنا نتفق على أنك لم ترَ أيًا من الأماكن التي سيرد ذكرها في هذا الكتاب من قبل، والمؤسف أنك على الأغلب لن تستطيع أن تراها أبدًا!
«فهذا الكتاب يتحدَّث عن طبقة من طبقات القاهرة لم يعد لها وجودٌ فعلي اليوم. طبقة بادت كوردة جفت أوراقها وتساقطت ولم يبقَ منها سوى بقية من عبقها القديم مبثوثة في بطون الكتب وعلى ألسنة الرواة هنا وهناك» (ص 7).

تخلص الكاتب من كل قلقه، واضطراب الكتابة، فظهرت سطوره جلية، ومتألقة، وشديدة الإيجاز، تناسب العصر، في الحجم، والتلخيص، ومسار الحدث وتوجيهه، حتى لا يحدث تشتت أو ملل، حتى اللغة هي أجمل ما في الحكايات. قد يبدو متأثرًا، بلغة المقريزي وابن إياس، لكنها لغة جذابة، وشائقة، تمتع قارئها وتضيف إليه.

وهنا الاستدعاء، يلعب دورًا كبيرًا، فكل مكان له شخصياته، وكل شخصية تستدعي حكاية، حتى تفك شفرة المكان، وما خفي منه. 
الكتاب رحلة في دروب القاهرة العامرة، يصحبك فيها المؤلف عبر 26 واقعة تاريخية، منها: كُتيفات وفرصة تغيير العالم، حارة واحدة ويانسان، رحلة أبي ركوة من الأندلس للحسينية، معركة الفرخ والفرُّوج، في الجوذرية سوف ترى، البحث عن صاحب الكبش، ديك الجمالية، لغز السيد الخشَّاب. 
ولعل أول واقعة في الكتاب، وهي تحمل عنوان «عن بهادر وما جرى له» تعطي فكرة عن مضمون هذا الكتاب الممتع؛ إذ إنه يوضح للقارئ أن «البراح الذي ظننت أنه الأصل في جامع الإمام الحسين لهو حادث طارئ عليه، وأن الجامع الحالي قد التهم -ليصل إلى براحه الحالي- دورًا وخططًا لا يعلمها إلا الله، بل والتهم قبورًا عامرة بسكانها أيضًا، فالجبرتي يُخبرنا عرضًا أن الأمير علي بك الحسيني توفي في شهر رجب سنة 1206 للهجرة بالطاعون، ودُفِن بالمشهد الحسيني بمقابر القضاة» (ص 13).

ليالي الأزبكية
يفتتح الكاتب والباحث البريطاني، الزائر في جامعة كولومبيا، رفائيل كورماك كتابه «منتصف الليل في القاهرة: مطربات مصر في العشرينيات الصاخبة» باقتباس من الكاتب والناقد لويس عوض (كتاب «أوراق العمر»، 1987)، حول سنوات شبابه الأولى وحياة الليل في حيّ الأزبكية القاهري بين الحربين: «فما كان عليك إلا أن تجلس في شارع ألفي بك على قهوة أو بار كالباريزيانا أو التافيرنا يطل على الشارع حتى يتردد عليك عشرات الباعة، هذا يبيع اليانصيب وهذا يبيع الجرائد وهذا يبيع السميط والبيض وهذا يبيع أمواس الحلاقة والأمشاط وهذا يمسح الجزم وهذا يبيع الفستق ويلعب (جوز ولَّا فرد)، وهذا قرداتي أو بهلوان يلعب على البيانولا مع زوجته أو يأكل النار أو يمشي مشية تشارلي تشابلن. وبين هؤلاء جميعًا يندس دائمًا ]ذلك الشخص[ الذي يحاول أن يقنعك ببلاغته أنه سيقودك إلى أجمل بنت في الدنيا وأنها «على بُعد خطوتين منك» ولن تكلفك إلا نصف جنيه أو ربع جنيه بحسب الحالة.

ولعل أحد أكثر الجوانب تحررًا في منتصف الليل في القاهرة هو تصوير الإحساس بالفضاء وحرية العمل والحركة، المرتبطة بهذه المنطقة من القاهرة في فترة ما بين الحربين. 
«مصر بلد يحكم فيه المصريون، ويحكم الإنجليز والجميع يفعل ما يحلو له»، هذا ما كتبه اثنان من سكان الأزبكية، هما عازفا الجاز الأميركيان من أصل إفريقي بيلي بروكس وجورج دنكان، في رسالة نشرت في صحيفة «شيكاغو ديفندر» الأمريكية في ديسمبر من عام 1923. كان عمل بروكس ودنكان مزدهرًا في الحياة الليلية في القاهرة في عشرينيات القرن الماضي. كانت المدينة تقترب من عصرها الذهبي الذي كان جزءًا من العشرينيات الصاخبة العالمية. فقد انتهى المطاف بعد الحرب العالمية الأولى بالكثير من الناس الذين فروا من أوروبا المُدَمَّرة بالبحث عن فرصة في القاهرة، ووجد كثيرٌ منهم طريقه إلى الأزبكية.

امتلأت صالات الرقص بالنساء الهاربات من الانهيار الاقتصادي والقمع السياسي في أوروبا الشرقية. كانت الكثيرات ممن وجدن عملًا في الكباريهات مجريات، كُن كثيرات لدرجة أصبح معها كليشيه فتيات الكورس المجريات عنصرًا أساسيًا في قاهرة ما بين الحربين، حتى لو لم تكن الكثيرات منهن من المجر. كافحت كثيرات في حياتهن الجديدة، وكانت أكثرهن شهرة هي دينا ليسكا Dinah Lyska، وهي راقصة ومغنية من أوروبا الشرقية حازت الشهرة من خلال الرقص والغناء في مسرحيات الفرانكو-آراب الغنائية في أوائل العشرينيات. تركت المسرح في النهاية وافتتحت بار ليسكا في شارع عماد الدين.

بدأ نجوم العشرينيات منشغلون بصنع نماذجهم الخاصة لمصر جديدة كغيرهم. كان شارع عماد الدين مزدهرًا، وافتُتِحت الكباريهات الجديدة الضخمة ودور السينما والمسارح بأعداد لم يسبق لها مثيل. وبينما واصلت مسارح مثل مسرح الماجستيك Majestic ومسرح نيو برينتانيا New Printania تقديم مسارح الفرانكو-آراب الغنائي، افتُتِحت أماكن أخرى مثل رمسيس وسميراميس لتقديم أمسيات أكثر تقليدية من الدراما وسلسلة من المسرحيات الميلودرامية.

لم يصبه العرش!
يتحدّث محمد غنيمة في كتابه «لم يُصبه العرش» (دار الرواق، 2023) عن عدد من شخصيات الأسرة العلوية التي كادت تحكم مصر، لولا أن الأقدار رسمت لهم مسارات أخرى. من هؤلاء أحمد طوسون، المشهور اختصارًا بـ(طوسون باشا)، وهو الابن الثاني لمحمد علي باشا من أمينة هانم. جاء طوسون باشا (1793-1816) من نصرتلي بصحبة إبراهيم باشا لمصر عام 1805، بعد جلوس أبيه على كرسي الولاية، وكان عمره وقتها 12 عامًا. 
نصَّبه محمد علي باشا قائدًا على الجيوش المتحركة من مصر للحرب الوهابية عام 1811، ومُنِح رتبة الباشوية. كما تحرَّك بالحملة إلى الحجاز بعد أن أقام محمد علي باشا حفلًا في القلعة. وعندما وقعت مذبحة المماليك في القلعة في اليوم الذي كان محددًا لخروج موكب طوسون باشا، أُرجِئت الحملة إلى يوم 30 مارس.

صادف طوسون بعض المشكلات العسكرية في حملته للحجاز، وتعرَّض لبعض الهزائم، وعاد لمصر عام 1815.

تزوج طوسون من بمبا قادن، وأنجبت له عباس الأول، والي مصر خلال الفترة من 1848 إلى 1854.

أقام في برنبال الواقعة في البر الشرقي تجاه رشيد، والتمس بها الراحة من عناء المعارك التي خاضها في الحجاز، وليكون قرب الإسكندرية ليرى ابنه المولود، عباس الأول. إلا أنه لم يعش طويًلا بعد عودته، واختلفت الروايات في أسباب موته وكيفيته ومكانه، فمنهم من قال إنه عاشر جارية يونانية نقلت له الطاعون، ومنهم من قال إنه أصيب بالطاعون قبل عودته لمصر، ولكن المؤرخين اتفقوا على أن موته كان شديد الوطأة على والده. نُقِلت جثة طوسون باشا إلى القاهرة، ودُفِنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم، حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.