"حصيلة عام" .. آخر ما كتب الروائى الراحل مصطفى نصر لـ "الهلال"
رحل صباح الأحد 9 نوفمبر 2025 الأديب والروائي السكندري مصطفى نصر، وذلك إثر تدهور مفاجئ في حالته الصحية ودخوله إلى العناية المركّزة في مستشفى مستشفى قصر الشفاء بالإسكندرية.
وكان قد نُقل إلى العناية المركّزة قبل يوم من ذلك بعد تدهور حالته الصحية، والروائي مصطفى نصر هو كاتب مصري ينحدر من أصول سوهاجية، من مركز جهينة في صعيد مصر، لكنه ارتبط بمدينة الإسكندرية طوال حياته الأدبية.
كان عضوًا في اتحاد كتاب مصر، وعضوًا في نادي القصة بالقاهرة، وعضوًا في هيئات الفنون والآداب بالإسكندرية.
وأصدر عدداً كبيراً من الروايات والمجموعات القصصية، وكتب للأطفال في مجلات عدة، كما مارس الكتابة الدرامية لإذاعة الإسكندرية.
من أبرز أعماله: «الصعود فوق جدار أملس»، «الشركاء»، «جبل ناعسة»، «الجهيني»، «الهماميل»، «شارع البير»، «النجعاوية»، «إسكندرية 67».
نال جائزة نادي القصة بالقاهرة عن مجموعته القصصية «وجوه» كأفضل مجموعة عام 2003، والجائزة الأولى في الرواية عام 1983 عن «الجهيني».
وقبل وفاته، حرص على تدوين مقالة له في مجلة "الهلال" وفي السطور التالية نستعرض آخر مقال له:
أعجبت برواية الصديق عمرو كمال حمودة «سكر أسود» فقد وظف الكاتب فيها خبرته النادرة ومعرفته بطرق التجارة العالمية في صناعة السكر، استغل عمرو كمال حمودة قربه من كبار رجال الأعمال ووضح تصرفاتهم وصراعاتهم، فأظهر للقارئ أشياء يسمع عنها لأول مرة.
وأعجبت بكتاب الراحل علي أبو شادي "السينما والسياسة"، ولمت نفسي لأنني لم أقرأه فور صدوره، فعلي أبو شادي يربط فيه بين السياسة والسينما، خاصة في الفترة الساداتية التي أعطت الضوء الأخضر لبعض السينمائيين لكي يهاجموا جمال عبد الناصر وعصره، بداية من فيلم الكرنك - المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ – سيناريو وحوار وإنتاج ممدوح الليثي – ومن إخراج علي بدرخان الذي وقع في أسر الشعارات التي تبحث عن الحرية وسيادة القانون، ثم توالت الأفلام المغرضة التي تريد النيل من الفترة الناصرية: امرأة من زجاج إخراج نادر جلال، وطائر الليل الحزين إخراج يحيي العلمي ووراء الشمس إخراج محمد راضي والعرافة إخراج عاطف سالم وإحنا بتوع الأتوبيس إخراج حسين كمال وأسياد وعبيد إخراج علي رضا.
وأقرأ الآن رواية ماركيز "ليس لدي كولونيل من يكاتبه"، بمناسبة موت صالح علماني الذي نقل إلينا هذه الرواية عن الأسبانية، وأنوي أن أقرأ باقي روايات ماركيز التي ترجمها صالح علماني، فقد مر وقت طويل على آخر مرة قرأتها فيه.
مشهد من رواية الإخوة الأعداء
في رواية "الإخوة الأعداء" - أفضل ما كتب الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكي، في رأيي، وترجمة الرائع إسماعيل المهداوي- يأتي الراهب البدين إلى القرية اليونانية الفقيرة التي تعاني من آثار الحرب الأهلية بين أهل المدينة، وتعاني أيضا من الفقر الشديد، فينادي على أهل القرية معلنا عن وجود صندوق من الفضة معه فيه الحزام الحقيقي الذي كانت السيدة العذراء تلفه حول وسطها. وسوف يعرضه في ميدان القرية الكبير والواسع.
الأب ياناروس لا يثق في الرهبان، فقد رأى هذا الحزام من قبل، هو حزام من الصوف ذي اللون البني متوج بخيوط من الذهب، فكيف يكون هذا، والعذراء كانت فقيرة وابنها – المسيح – أفقر منها؟!
يذكر ياناروس أنهم عرضوا عليه – في دير آخر – حاملا أثريا من الذهب بداخله جمجمة طفل، قال الراهب – الموكل بحراسة الأثر الثمين، وقتها: هذا رأس القديس كريكوس.
وبعد يومين عرضوا عليه رأسا أكبر كثيرا من الرأس الأول، وقال خادم الدير: إنه رأس القديس كريكوس.
فقال ياناروس: لكنهم عرضوا على أول أمس جمجمة أخرى، جمجمة طفل.
فأجاب خادم الدير: هذا صحيح، فالجمجمة الأولى كانت للقديس كريكوس وهو صغير.
ووقف الراهب البدين الذي حمل حزام العذراء، كان رأسه عاريا، وشعره معقود على قفاه، وبطنه بارزة. وتتدلى عن يمينه ويساره سلتان كبيرتان مليئتان بالزجاجات والمأكولات والعلف. هذا ما جمعه من قرية فقيرة أخرى، ويريد الآن من سكان هذه القرية – الأكثر فقرا - أن يقدوموا هداياهم للعذراء البتول فيقول: اذهبوا إلى بيوتكم وابحثوا عن هباتكم للسيدة العذراء، نقودا أو خبزا أو خمرا أو جبنا، أو صوفا أو زيتا، أو أي شيئا، احضروا ما لديكم وتعالوا لتركعوا أمام العذراء.
لكن الأب ياناروس اعترض على الراهب البدين قائلا: لا تدنس اسم الله المقدس، لو كانت السيدة العذراء هي التي أرسلتك إلى هذه القرية شديدة الفقر، لأثقلت كتفيك بالقمح والزيت والملابس وكل ما هو متوفر عند الرهبان، لتوزعه على شعبها العاري الحافي الذي يموت من الجوع، بدلا من أن تحضر لتنزع من فمهم قطعة جبن لم يتبق غيرها.
جاء أهل القرية وتجمعوا، وكل واحد فيهم يمسك شيئا في يده أو في طاقيته: بصلة أو حفنة قمح، أو قليلا من صوف نعجة، أي شيء يملكونه ليقدموه للسيدة للعذراء.
لكن الأب ياناروس صاح فيهم: لا تعطوا حبة قمح لهذا الراهب فأنتم فقراء جوعي وأطفالكم جوعى، العذراء ليست في حاجة إلى الهبات، وهل تأخذ العذراء – حاشى لله – إنها تعطي ولا تأخذ، هل يمكن أن ترى أولادها يقاسون الجوع دون أن تمد يدها إليهم بيد العطف، لتعطيهم الخبز- وأشار إلى الراهب البدين – انظروا إلى هذا الرجل الطيب، لقد جاء إلى قريتنا ليملأ سلاله، لكنه رأى فقرنا، وشاهد الأطفال الجوعى يجرون خلفه، فرق لحالهم، لقد أشفق على شقائكم، وسيوزع عليكم كل ما جمعه من القرى الأخرى.
وأسرع أهل القرية إلى الراهب البدين الذي لم يستطع أن ينطق من شدة غيظه، فقبلوا يديه وأخذوا كل ما في سلتيه.
كان الراهب يلهث في ألم والعرق يتصبب من جبهته، ويقذف الأب ياناروس بنظرة مسمومة من وقت لآخر، وهمس في أذنه بصوت لم يسمعه سوى ياناروس: هزمتني يا خادم الشيطان.
هذا المشهد يصور بوضوح ما يحدث في كثير من بلاد المسلمين الآن، من يدعون أنهم رجال دين، فيأخذون من الفقراء ليغتنوا، وبدلا من أن يطلبوا العون والقوة من الله الغني القوى، يحرضون السفهاء والبلهاء لكي يفجروا أنفسهم محبة في الله، بحجة الدفاع عن الله، نفس المشهد الذي صوره نيكوس كازنتزاكي، فالله هو الأقوى وهو – سبحانه – ليس في حاجة لكي يقتلوا الناس من أجله.
وما ذكره نيكوس كازانتزاكي ذكرته واحدة من أكبر علماء الطب الفرعوني بجامعة مانشتسر الإنجليزية، حيث توصلت إلى أن الكهنة – أيام الفراعنة - كانوا يقدمون للآلهة أفخر الطعام الغارق في الدهون: البط المحمر والخبز بالدسم والخضراوات؛ يضعونها أمام تماثيل الآلهة إرضاء لها-. وهي الطقوس اليومية التي يمارسونها ثلاث مرات يوميا- ثم يعود الكهنة بهذا الطعام إلى بيوتهم.