الدبكة.. أشهر الرقصات الفلكلورية السورية وأقدمها عالميًا
حتى وقت قريب كانت معظم شعوب العالم تعبر بالرقص عن الحزن والألم، والفرح أو السعادة، فالرقصات والإيقاعات تكون تلقائية لمناسبات عدة ومجموعات مختلفة من الناس، ويعتمد الأشخاص على أقدامهم في الرقصة المستخدمة للتغلب على أرض الواقع وللتعبير عن قوتهم وحيويتهم، وعلاقتهم مع الأرض والزراعة، والاحتفال بقدوم الربيع مع الأعياد الكثيرة كعيد الزهور، وعيد الغطاس، وعيد رأس السنة، ويوم القديس جاوارجيوس.
تأثر فلكلور الرقص في سوريا بشكل رئيسي من قبل العديد من العوامل، والطبيعة، والعادات الاجتماعية، حيث الرقص يستخدم على سبيل المثال في الجبال الساحلية، ويتعين القيام به بشكل جماعي وخطوات سريعة في حلب وأغلب الرقص أكثر هدوءً، وأقل مرحًا في الجزيرة السورية "المنطقة الشرقية".
ولا يقتصر الرقص الفلكلوري في سوريا على الدبكة "الضرب على القدمين مع الأرض في الخطوات العادية"، لكنها أشهر الرقصات الفلكلورية السورية التي تتصدر فنونها الشعبية، وهي تراث غير مادي لأقدم رقصات العالم.
رقصة "السماح"
وسمّيت بالسماح لاشتقاق هذه المفردة من فعل سمح؛ إذ كان يستأذن الراقصون من أصحاب المكان للرقص، بعد ترديدهم: "السماح السماح"، حتى يُسمح لهم بالرقص، وهي الأقدم والأشهر بسوريا، والتي انحدرت منها رقصة الدبكة، ومن روّاد هذه الرقصة، عمر البطش، وعبد الواحد سيفي، وصالح البوشي، وعدنان منيني، وعمر عقّاد، أمّا مبتكرها الأصليّ، وفق ما روته إحدى روايات التاريخ فهو الشيخ عقيل، من مواليد قرية منبج قضاء حلب، وهو أحد المتصوفين الذي ورث الرقص عن الأجداد وطوّره منذ ألف عام، ووضع حركات جديدة من القدمين، فينبغي على الراقص أو الراقصة أن يتبع الحركات والغناء في الوقت الذي يحرك فيه يديه.
ولقب الشيخ عقيل أتباعه الذين اعتادوا على رقص السماح بـ"أبناء الفن"، وعلى الراقص "ابن الفن" أن يتعلم الكثير من الإيقاعات عادة حتى يتمكن من الانضمام إلى المجموعة في أي وقت، وفي أي مكان، ويتبع خطواتهم ويسيطر على هذه الرقصة الطابع الهادئ والوقار.
ولأن سوريا عرفت من خلال تاريخها الطويل، بمعظم أنواع الرقصات الشعبية، لكن من كتبوا عن الرقص الفلكلوري لم يذكروا التفاصيل الكاملة لهذا الفن، أما كتاب "تراث الدبكة"، الذي كتبه الكاتب الراحل "عدنان بن زريل" فيعتبر واحدًا من أهم المراجع عن هذا الفن، حيث يعطي معلومات مفصلة عن التقاليد وتطوير الدبكة ويظهر أيضًا ملامح خاصة في رقصة "السماح" باعتبارها واحدة من أنواع الرقص القديم الموروث في التعبيرات الجسدية، وتحظى بشعبية كبيرة في جميع المناطق السورية.
كانت رقصة السماح تدرس كنوع محترم ومحتشم من الرقص، مع قواعد عميقة، وصيغة خاصة من الأغاني الشعبية، والإيقاعات، فيؤدي الرجال في حلب نوع رقص المجموعات وما زالوا حتى الآن.
وبعد وفاة الشيخ عقيل في القرن الثالث عشر الميلادي، خدم أتباعه هذا الفن الذي يجمع بين الغناء والحركات والإيقاعات، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الهدوء والتبجيل.
رقصة الدبكة
ومن الرقصات المشهورة في سوريا والعالم "الدبكة"، وهي رقصة تقوم على عدة خطوات منسقة مع حركات الجسم، يرقصها الرجال والنساء وتعتمد على حركة القدمين، والضرب على الأرض في وئام مع طبل وناي أو آلة موسيقى أخرى.
وعادة ما يرقص السوريون الدبكة على الأغاني، والقصص أو القصائد الغنائية، أي الجمل الشعرية الموروثة من تراث الأسلاف، والتي تتألف عادة من قبل إناس مجهولين لم يدرسوا في أي معهد، ولكل منطقة من مناطق سوريا الدبكة الخاصة بها.
وقد لعبت الأغاني دورًا كبيرًا مع فريق الدبكة، وعادة ما تكون بسيطة في كلمات وإيقاعات بحيث يتم فهمها بسهولة في كل مكان، على الرغم من أن كل نوع يعبر عن تقاليد وعادات ولهجة المنطقة.
أنواع الدبكة
وللدبكة السورية أنواع أساسية هي "الدندشيّة، والغربيّة، والبداويّة، والطبيلة، والنشلة، واللوحة، والنسوانيّة والعثمانيّة".
وتعد أشهر أنواع الدبكات الحلبيّة "الولدة، والقوسر، والقبا، والحلبيّ، والشيخاني، والصاجية، والطقأزلي، والغزّاويّة، والدملي والعربيّة"، وتتميز الدبكات الحلبيّة بتوازنها، ووجه الاختلاف بين أنواعها يكمن في درجة السرعة والخطوات التي تؤدّى بها.
أما الدبكات الأكثر رواجًا في الريف السوريّ فهي "رجة زيدل، ودبكة المثلثة الطرطوسيّة، ونخة الشيخ بدر، والشبة، وألماني الديرنجيّة، ودبكة الحنّة الحورانيّة، ودبكة الدلعونا، ودبكة زين يابا الثمانية، ودبكة حران العواميد والدراجة الرقاويّة.
روايات في أصل الدبكة وتاريخها
وعلى خلاف ما ذكر عن أن أصل الدبكة ومبتكرها يعود للمتصوف الشيخ عقيل، الذي ورث الرقص عن الأجداد وطوّره، ذهبت إحدى الروايات أن أصل الدبكة ورد بأسطورة عشتار وعقيدة الخصب السوريّة، فعندما اختطفت إلهة الموت، أريشكيجالا، إله الخصب، دوموزي/ تموز، وذهبت به إلى العالم السفليّ، اعتصر الحزن قلب إلهة الحياة، عشتار، فبدأت تضرب الأرض بقدميها لتزعج إلهة الموت التي تتخذ من أسفل الأرض مسكنًا هادئًا لها، ولم تكتف عشتار بذلك، بل طلبت من الجميع أن يفعلوا مثلها عسى أن تعيد أريشكيجالا حبيبها لها، فأحاط الجمع كلّه عشتار على شكل دائرة وبدأوا يطوفون حولها وهم يدبدبون، وكان ذلك على إيقاع غناء الزجل الحزين للإلهة عشتار، وكان هذا أصل الدبكة.
فيما ذهبت رواية ثالثة إلى أن الدبكة لها جذور دينيّة، فكانت من طقوس الصلاة التي كانت تؤدّيها الإلهة عشتار/ عناة والإله حدد والإله بعل والإله دموزي/ تموز، وكان استهلالها بالأوف والآويها، كما هو الحال بالدبكة العصريّة، وكانت تُختتم بزغرودة اعتقادًا منهم بقدرتها على طرد الشيطان، ومن هنا، كانت انطلاقة الدبكة.
أما الرواية الرابعة عن أصل الدبكة ونشأتها، أنه قديمًا، وقت حصاد القمح والعنب، كان يقف الأهالي فوق المحاصيل، ثمّ يدبدبون بأقدامهم ليفصلوا السنابل عن حبوب القمح، كما كانوا يفعلون ذلك داخل الأحواض الحجريّة المجمّع بها محاصيل العنب ليعتصروه من أجل صناعة الخمر. وكانت هذه نشأة الدبكة.
وتذكر الرواية الخامسة أنه منذ آلاف السنين، كانت عمليّة البناء تعتمد على الطوب واللبن أو الطين والقش، مما كان يتطلّب عمليّة مزج قويّة لهذه الخلطة، فكان السكّان يجتمعون فوقها ويدبدبون، ومن هنا ظهرت الدبكة.
بينما تذكر الرواية السادسة أنه وقت الاستعداد للمعارك والحروب، كان يجتمع الشعب ويرقص على أنغام حماسيّة، لبثّ روح العزيمة داخل نفوس المقاتلين. وبعد ذلك، تطوّرت الخطوات المتّبعة في تقديم هذا الرقص وأخذت منحى جديد يُطلق عليه "الدبكة".