أ. د. أسامة السروي
تنتشر فى كل من موسكو والقاهرة العديد من التماثيل المكرسة للشعراء فى كلا البلدين.. والحق أنهم كُثر.. وسوف نتناول فى مقالنا هذا التماثيل المكرسة لشاعرين عظيمين لهما شأنهما ومكانتهما فى تاريخ الأدب الحديث فى كل من روسيا ومصر.. هما الشاعر الروسى الكسندر بوشكين (١٧٩٩ - ١٨٣٧) والشاعر المصرى أحمد شوقى (١٨٦٨ - ١٩٣٢)…
و بدايةً نسجل ما لاحظناه بينهما من تشابه..
فكلاهما نشأ فى أسرة من النبلاء تعيش حياة الترف.. وكلاهما حازا لقب أمير الشعراء فى بلده.. وكلاهما ترجع جذورهما إلى أصول أخرى؛ فترجع جذور بوشكين إلى أصول حبشية، بينما ترجع جذور شوقى إلى أصول شركسية وتركية.. وكلاهما نشأ فى القصر..
فكان جد بوشكين إبراهيم جانيبال أحد الضباط المقربين إلى القيصر بطرس الأكبر، بينما كانت جدة شوقى تعمل وصيفة فى قصر الخديو إسماعيل..
و كان للقرآن الكريم دور كبير فى حياة كل منهما وأثر فى إبداعهما..
كما تعرض كلاهما للنفى فنفى بوشكين إلى يكاترينا سلاف ثم إلى ميلوخفسكايا (الطرف الآخر من روسيا) عندما وقف إلى جانب الشعب ضد الحكم المطلق، بينما نفى الإنجليز شوقى إلى إسبانيا لنشاطه السياسى الملحوظ ضد الاحتلال..
كلاهما درس الفرنسية وتحدث بها وقرأ بها أعمال الأدب الفرنسى.. هذا وقد أطلق النقاد الروس على أعمال بوشكين مصطلح (بوشكينيات)(пушкиняана) كما أطلق النقاد المصريون على أعمال شوقى (الشوقيات) وذلك تمييزاً لهما وتقديراً من النقاد لأشعارهما..
والآن نأتى إلى التماثيل التى خلدت الشاعرين الكبيرين…. وفى الحقيقة أن بوشكين كان الأكثر حظاً فيمن أقيمت لهم التماثيل.. حتى بالمقارنة بشعراء عصره بل وشعراء روسيا كافة.. فله تماثيل فى كل روسيا وكل دول الاتحاد السوفييتى السابق ومعظم دول العالم.. وحتى فى مصر.. فكان لكاتب هذه السطور شرف إقامة تمثال له فى حديقة الحرية بالزمالك على نيل القاهرة…. على أية حال سنختار الآن تمثالين لكل من شاعرينا..
أما عن بوشكين: فنقدم له تمثاله الأول من أعمال الفنان الكسندر إبيكوشن (١٨٣٨- ١٩٢٣) لما له من أهمية خاصة فى تاريخ النحت الروسى؛ فهو أول تمثال صرحى أقيم لشخصية بيد نحات روسى (١٨٧٢- ١٨٨٠) و هو أشهر أعمال النحت الروسى فى القرن التاسع عشر.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن النحات جلبرت كان قد سبق كل النحاتين الروس بعمل تمثال نصفى لبوشكين عام ١٨٣٧ وهو نفس العام الذى توفى فيه بوشكين وكانت مرجعيته هى الماسك أو (قناع الموت) الذى استخرجه من وجهه بعد وفاته مباشرة.. وهذا التمثال موجود فى متحف تريتياكوف بموسكو. وقد صنع الفنان النموذج المصغر للتمثال فى عام 1875 وأقامه فى موسكو عام 1880. وهذا التمثال يتيح لنا أن نضع الفنان فى مصاف النحاتين الصرحيين الكبار ذوى المجد العظيم حيث يقف هذا التمثال فى تاريخ النحت الروسى جنباً إلى جنب إلى جوار تمثال بطرس الأكبر الممتطى صهوة جوداه فوق صخرة رائعة من الجرانيت الذى أقامه فالكونى فى بطرسبورج عام 1782 وتمثال مينين وباجارسكى الذى أقامه مارتوس بموسكو عام 1818. تلك التماثيل التى يقدرها الشعب الروسى جيداً ويعتبرها مفخرته الفنية فى تاريخه الحديث. وشأن الفنانين الكبار، نجد أبيكوشين قد نحت، فى إطار إعداده للتمثال الميدانى عدة إسكيزات صغيرة لبوشكين منها الكامل ومنها الرأس فقط وذلك على سبيل الدراسة لملامح البورتريه ونجد منها واحداً فى متحف ياروسلافسكى الفنى فى خامة التراكوتا ويختلف هذا البورتريه عن رأس التمثال فى الملامح والتعبير والمقاس، فهو ينظر هنا إلى الأمام بينما فى التمثال نجده قد أطرق برأسه قليلاً وكأنه يفكر ملياً أو يتأمل أفكاره فى وقفته الهادئة حيث وضع يده اليمنى على صدره من خلال فتحة الصديرى بينما أطاح بيده الأخرى وراء ظهره ممسكا بالقبعة الفرنسية. فى إشارة إلى ثقافته الرفيعة "وكانت الفرنسية آنذاك هى ثقافة الإرستقراط" واستوحى الفنان ووقفته من الوضع الاستعراضى المسرحى عند تماثيل الإغريق والرومان. وهناك نغم تعبيرى جميل صادر عن كسرات البالطو الرأسية الزاعقة وكسرات الصديرى الأفقية الهادئة ورابطة العنق (المنديل) بكسراته الواقعية والتى تملأ المساحة المحصورة بين ذقنه وصدره فتأتى كتلة التمثال مدمجة فى غير انقطاع يجعلنا نتواصل مع إطراقته الشاعرية
وكان من المقرر إقامة هذا التمثال فى بيتربورج (بطرسبورج) حيث قتل بوشكين هناك، وذلك منذ أن نظمت المسابقة الفنية التى شارك فيها العديد من النحاتين مثل بيميونوف وأندتكومسكى وزابيللو فى عام 1860 إلا أن قيصر روسيا الكسندر الثانى هو الذى قرر أن يقام فى قلب موسكو فى الساحة التى تقع أمام مدرسة الليسية القيصرية (فى تيجيرسكى بولفار) وصارت تسمى هذه الساحة باسم ساحة بوشكين وتم الافتتاح المهيب فى السادس من يونيو عام 1880 بحضور كبار أدباء روسيا فى ذلك الوقت مثل ليرمنتوف وجوجول وتورجنييف ودستويفسكى والأديب الفرنسى الكبير فيكتور هوجو وفى 1931 قرر ستالين نقل التمثال إلى الجهة المقابلة لنفس الحديقة وذلك فى إطار إجراء بعض التغييرات والتعديلات لتوسيع الحدائق وتغير اتجاهات الشوارع.
من الطريف أيضاً أن نذكر أن التمثال الذى نحن بصدده الآن هو أول تمثال لشخصية أدبية فى روسيا يقام عن طريق الاكتتاب، حيث لم تعتمد الحكومة الميزانية.. واللازمة له وبدأ يدخل فى طور الأعمال المؤجلة إلا أن منظمي المسابقة الفنية التى أقيمت عام 1860 والتى أشرت إليها تواً، قرروا الدعوة لاكتتاب شعبى عام لجمع المال اللازم لإقامة هذا التمثال لتخليد شاعر روسيا الأعظم الذى خطفه الموت وهو فى عز الشباب.
أما التمثال الثانى لبوشكين فهو من أعمال ميخائيل أنيكوشين (1917- 1997) وينتصب أمام متحف الفن الروسى فى بيتربورج منذ عام 1957. كان ذلك فى إطار الاحتفالات بمرور 250 عاماً على إنشاء مدينة بتربورج وفيه يجسد الفنان شاعر روسيا الأكبر طبقاً لتعاليم مدرسة الواقعية الاشتراكية.. ممتشقاً متفائلاً لافتاً النظر إليه مسيطراً على الفراغ المحيط وقد أشاح بيده اليمنى فى استعراضية غنائية بينما أمسك بأحد دواوين أشعاره بيده اليسرى حيث غرس سبابته فى قلب الديوان.. فهو يلقى الشعر إذن.. وتلكم من أهم لحظات التداعى والمعايشة التى يمر بها الشعراء..
وقد اتجه الفنان إلى تأكيد ذلك الحس الغنائى من خلال كسرات القماش؛ فتارة تأتى رأسية كبيرة الحجم، كما فى البالطو وما تحتويه تحتها من هواء مما يجعل المشاهد يشعر بخفة وزن التمثال فيزيد بذلك من الإحساس برشاقة العمل.. وتارة أخرى تأتى تلك الكسرات بين مائلة وأفقية وأصغر حجماً كما فى البنطلون ورابطة العنق، الأمر الذى يزيد من ثراء السطح وفى نفس الوقت يرمى إلى الشعور برومانسية تتوافق وأشعار بطل العمل الذى كتب- ضمن ما كتب أشعارا ومسرحيات عن الحب….
وجدير بالذكر أن النحات أنيكوشين كان قد خصص جزءا كبيراً لإبداعاته فى مجال التماثيل الصرحية والبورتريه للشاعر بوشكين الذى أولع به وبأشعاره.. فأقام له أكثر من أربعة عشر تمثالاً تنتشر فى ميادين وحدائق مدن وجامعات وهيئات إدارية مختلفة نسوق منها نموذجاً.. فهذا تمثاله فى محطة مترو الأنفاق تحمل اسم شاعرنا الكبير "بوشكينسكايا" منذ عام 1954.. وهنا جسد الفنان أنيكوشين شاعره فى وضع الجلوس وقد استكمل التكوين من خلال بانوراما ناعمة بإضاءة خفية لمناظر من القرية القيصرية بأشجارها الغنّاء وبركة ماء مرسومة بألوان الزيت من أعمال الفنانة ماريا الكسندروفنا إنجيليكا فى تجويف يشبه القبلة من خلف التمثال ليشيع مناخا متناغماً وهادئاً عاماً يجنح بالمشاهد إلى عوالم شاعرية وغنائية ورومانسية وكأنه يجلس فى حديقة مردداً تلك الحالة فى التمثال من خلال توظيفه أيضاً كسرات البالطو والملابس الأخرى التى يرتديها بوشكين.
أمير الشعراء
… ونأتى الآن إلى تماثيل شوقى وإن كنا قد أطلنا قليلاً فى عرض النذر اليسير من تماثيل بوشكين التى تحتاج إلى مجلد مستقل بما يليق ومكانته فى بلاده.. وإذا كان أنيكوشين فى روسيا قد كرس العديد من أعماله لبوشكين فإن السجينى فى مصر قد فعل هذا..
على أية حال فإن لشوقى أربعة تماثيل من أعمال الفنان جمال السجينى (1971- 1977) يوجد منها ثلاثة فى مدينة القاهرة وحدها… حيث شاهدنا التمثال الأول فى حديقة بيت شوقى نفسه "كرمة ابن هانئ" التى تطل على نيل الجبزة..
وبدايةً نقول إن أسلوب السجينى فى النحت بدأ أصلاً ررمانسياً، أسوة بأستاذه الفرنسى كلوزيل ثم تحول إلى الرمزية والتعبيرية بعد قيام ثورة يوليو 1952.. وهو بذلك يمثل العلامة الثانية فى تاريخ فن النحت المصرى الحديث بعد محمود مختار…
وما يهمنا فى أعماله فى هذه الدراسة هو تمثاله لشاعرنا الكبير أحمد شوقى.. فقد جسده جالساً فى أريحية وهدوء غير مشدود الأعصاب.. ينظر إلى الأمام فى تأمل وأمسك بيده اليسرى وردة وأراحها على فخذه الأيسر بينما أمسك فى يمناه ورقة ملفوفة.. و فى نفس الوقت تقاطعت قدماه عند القاعدة ليكسر الفنان بذلك حالة سكون تماثيل الفراعنة، المبنية على التماثل.. ويظهر بين قدمى التمثال وبين القاعدة التى يجلس فوقها "ماسك" مسرحى وكأن النحات يذكرنا بأن لشوقى أيضاً كتاباته فى المسرح الشعرى..
وقد تم صب هذا التمثال وإقامته فى ثلاثة أماكن مختلفة بالقاهرة.. فقد ظهر أول ما ظهر فى حديقة متحف أحمد شوقى ثم أمام حديقة الأورمان بحى الدقى بوسط القاهرة ثم فى حديقة الحرية على النيل مباشرة.. وجاء اختيار المكان (الحدائق) أيضاً موفقاً من ناحية الجهات القائمة على نصب التمثال. فالشعر والطبيعة صنوان.. ووضع تمثال الشاعر فى حديقة فيه تأكيد لشاعريته.. أما النسخة الرابعة من هذا التمثال فقد أقيمت فى روما بحدائق بورجيزى الشهيرة.. التى تكتظ بتماثيل العظماء والخالدين من مختلف دول العالم.. وقد شاهدت هذا التمثال فى روما ولاحظت أنه مقام بالقرب من تمثال بوشكين!! ترى هل فطن الطليان إلى التشابه بين الشاعرين؟!
ونأتى إلى التمثال الأخير لشاعرنا الكبير أحمد شوقى بالقاهرة.. نقصد ذلك المقام أمام المجلس الأعلى للثقافة على أرض أوبرا القاهرة من أعمال الفنان عبدالحميد حمدى فى وضع الجلوس أيضاً وقد استلهم الفنان الصورة الفوتوغرافية الشهيرة للشاعر، وقد أسند رأسه على يده "الاستغراق فى التفكير" إلا أن الفنان آثر أن يجسد شوقى ماداً قدميه لتأكيد حالة الهدوء فى التمثال. فشاعرنا حساس عطوف، انفعالي ومتأمل.. وهى صفات قلما تميز بها شاعر آخر.. فهو أمير الشعراء ومتنبى عصره.