عالمية الأدب الياباني.. قراءة في أعمال الأديب العالمي أويه كنزابورو
د. كرم خليل
في الآونة الأخيرة وفي ظل التهديدات النووية جراء الحروب الجارية خلال هذا العام 2024 مثل حرب أوكرانيا وروسيا، والحرب الجارية في عزة ولبنان والسودان، ومازالت هذه التهديدات تخيم بظلالها على الساحة السياسية العالمية، وتزامنًا مع التهديدات النووية، أعلنت الأكاديمية السويدية المانحة لجائزة نوبل عن فوز المنظمة اليابانية «نيهون هيداكيو» بجائزة نوبل للسلام لعام 2024، تقديرًا لجهودها في مجال تحقيق عالم خال من الأسلحة النووية، تأسست هذه المنظمة على يد الناجين من القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناجازاكي في عام 1945، وأعربت المنظمة الفائزة بأن الوضع في غزة أشبه بالوضع باليابان قبل 80 عامًا.
وفي سياق متصل أعرض هنا لسيرة الكاتب "أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo "جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي عبر عن الهزيمة المريرة لليابان والرعب النووي الذي صاحب إسقاط القنبلة النووية على هيروشيما، وأخرج رواية ما بعد الحرب اليابانية إلى العالمية بفوزه بأكبر جائزة أدبية في العالم فأعماله الأدبية تمثل قمة الإبداع الأدبي الياباني ما بعد الحرب. وبعبارة أخرى يمكن أن نقول إن شخصيته الأدبية قد تشكَّلت عن طريق فترتين مختلفتين هما اليابان قبل هيروشيما، ثم اليابان بعد هيروشيما، ويعتبر من أبرز الكتَّاب اليابانيين بعد الحرب العالمية الثانية،وينتمي إلى نفس جيل الأدباء المعروفين أمثال "إيبوسيه ماسوجي Ibuse Masuji 1898 - 1993" والروائي" أوكا شوهي oka Shuhei 1909 - 1988" والأديب "آبيه كوبو Abe Kobo 1924 - 1993" وغيرهم من الأدباء.
وقد عبر أويه عند تلقيه جائزة نوبل قائلاً بكل تواضع: -
"إنني أصغر هذا الجيل سناً وأنا أتلقى الجائزة نيابة عنهم"
وأعماله الأدبية تمثل قمة الإبداع الأدبي الياباني ما بعد الحرب، فهي مرآة حقيقية عاكسة لمجتمع اليابان قبل إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما ومجتمع اليابان بعد إسقاط القنبلة على هيروشيما.
١ - نشأة أويه كنزابوروOoe Kenzaburo
ولد الأديب أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo في الحادي والثلاثين من شهر يناير عام 1935م في قرية أوسه Ose الجبلية بمحافظة (إهيميه (Ehimeken بجزيرة (شيكوكو Shikoku). ودرس المرحلة الابتدائية بمدرسة (أوسه (Ose وفي عام 1944م توفي والده وهو في سن التاسعة، وفي عام 1947م وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ألحقته الأسرة في مدرسة (أوسه Ose المتوسطة) .وفي عام 1951م وهو في عمر السادسة عشرة التحق بمدرسة (ماتسوياما Matsyama الثانوية).
وخلال دراسته في المرحلة الثانوية قرأ لكثير من المفكرين اليابانيين أمثال أستاذ الأدب (واتانابيه كازوWatanabe Kazuo 1901 - 1975م), والناقد الأدبي (هاندا كيوتيرو 1909 - 1974 Hanada Kyoteru) والناقد الأدبي (كوباياشي هيديو Kobayashi Hideo 1902 - 1983م(، وكان مفتوناً بأعمال الأديب الناقد (إيشيكاوا جون Ishikawa Jun 1899 - 1987م).
وفي عام 1953م تخرج في المرحلة الثانوية ثم انتقل إلى طوكيو للدراسة الجامعية، والتحق بقسم الأدب الفرنسي بجامعة طوكيو، وبدأ حياته الأدبية في الثالثة والعشرين، وأخذ يكتب لجيل من اليابانيين تربى على أن (للإمبراطورTenno) منزلة رفيعة مبجلة.
وفي اليوم الذي أعلن فيه الإمبراطور الياباني الاستسلام للحلفاء في أغسطس عام 1945م بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي كان الأديب أويه كنزابورو في العاشرة من عمره ويتذكر حدث الاستسلام على النحو التالي: -
"جلس الكبار حول أجهزة الراديو وأخذوا يبكون، أما الأطفال فقد تجمعوا في الخارج على الطريق المترب وتهامسوا بحيرتهم، لقد كنا مضطربين ومحبطين لأن الإمبراطور قد تكلم بصوت إنسان، صوت لا يختلف عن صوت أي واحد من البشر، وبعد لحظة شعرنا بخوف ونظرنا إلى بعضنا البعض ولم يتكلم أحد منا. كيف يمكن أن نصدق أن حضوراً مهيباً له تلك السلطة المهولة قد أصبح إنسانا عاديا، فعندما أعلن الإمبراطور استسلام اليابان شعر الجميع بأنهم وحدهم دون أمل".
وليس ثمة غرابة في أن أويه وجيله كانوا يستشعرون حيرة كبيرة طوال سنوات الحرب فقد كان مدرس مبادئ الأخلاق يسألهم ماذا يفعلون إذا أمرهم الإمبراطور أن يموتوا؟ فكانوا يجيبون في حال من الفزع سوف نلبي النداء ولو بشق البطن. ويقال إن الأطفال في الفصل الدراسى كانوا يمرون أمام صورة الإمبراطور ورؤوسهم منكسة هيبة وتبجيلاً إلى جلالة الإمبراطور. ويقول الكاتب-:
" أويه إن صورة الإمبراطور تظهر له في أحلامه وهو ينطلق في السماء كطائر وجسده مغطى بالريش الأبيض".
هكذا تربى ونشأ الأديب أويه كنزابورو على قيم أخلاقية تختلف عن القيم المستوردة من الغرب أي الديمقراطية. وهي فجوة كبيرة بين اليابان قبل هيروشيما، ثم اليابان بعد هيروشيما. فعلى الرغم من تأثره بفلاسفة الغرب وأدبائه فإن لديه اهتماماً كبيراً بالهوية الجماعية للثقافة المحلية لما يتعرض له المجتمع الياباني المعاصر وتعرض التقاليد المحلية للخطر بفعل التحديث السريع الذي بدأ تحت تأثير الغرب في عصر) ميجي Meiji عام 1868) وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية.
لذا فالكاتب من كتَّاب ما بعد الحرب الذين يعانون الاغتراب عن المجتمع المعاصر وفقدان الهوية اليابانية التي شغلت الكثير من الكتاب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعلاوة على ذلك التجربة المأساوية الشخصية وهى ولادة طفل معاق في مخه، وانعكاس هذا الحدث المأساوي على نتاجه الأدبي وظهوره في العديد من قصصه ورواياته الأدبية فيقول الأديب: -
"إن رواياتي الأدبية تناولت موضوعين أساسيين هما التهديد النووي الدائم، والحياة مع طفل معاق".
أولا فهو من أكثر كتاب ما بعد الحرب في اليابان أصالة وإثارة.
٢ - التاريخ الأدبي للروائي أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo
سوف ألقي الضوء على التاريخ الأدبي للروائي أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo والأعمال الأدبية التي تعكس خصائص أسلوبه الأدبى وسماته.
- في عام 1956م، والأديب في سن الحادية والعشرين من عمره، التحق بقسم الأدب الفرنسي بجامعة طوكيو، وأثناء دراسته تعرف وتأثر بالكاتب الناقد واتانابيه كازو Watanabe Kazuo 1901 - 1975م أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة طوكيو. وبدأ يقرأ للأديب الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر Jean Paul Sartre 1905 - 1980م) واستفاد الكثير من الكاتب الياباني المشهور (آبـــيه كوبـــو Abe Kobo1924 - 1993م) أحد رواد الأدب الياباني ما بعد الحرب وأثناء دراسته في الجامعة بدأ اهتمام الكاتب يتزايد تجاه الأدب الياباني.
- وفي عام 1957م والأديب في سن الثانية والعشرين من عمره، كتب أول رواية له بعنوان (عمل غريب(Kimyona Shigoto ، ونشرها في جريدة جامعة طوكيو، ونالت جائزة صحيفة جامعة طوكيو واختارها الناقد الأدبي (أراماسا هيتو Aramasa Hito 1913 - 1979م ) لتنال جائزة مهرجان الشهر الخامس للأعمال الأدبية. وأيضاً نالت إعجاب الناقد الأدبي (هيرانو كن Hirano Ken 1907 - 1978م )، وكتب عنها في جريدة) ماينتشي اليومية (Mainichi shimbun وهى رواية تصور طالباً في الجامعة يعمل بجانب الدراسة في وظيفة جانبية تتمثل في المساعدة في قتل كلاب يحتفظ بها المستشفى لأغراض التجارب العلمية، وتعمل معه في الوظيفة نفسها طالبة, ويرى البطل- بالتعبير المهذب -أن الكلاب هي رمز للطلبة اليابانيين الذين فقدوا هويتهم وأصبحوا فارغين. فهو عمل من الأعمال التي تصور بإصرار الجمود واللامبالاة في يابان ما بعد الحرب.
وفي العام نفسه أصدر رواية جديدة بعنوان (إسراف الموتى(Shisha no Ogori وتعد نموذجاً لبواكير وأدبه، وبعدها بدأ ينطلق كأديب ياباني، وبطل هذه الرواية أيضاً طالب يعمل بجانب الدراسة في وظيفة جانبية في مدرسة طبية تتمثل في معالجة الجثث للتشريح, وهذه الجثث تطفو في خزان من الكحول في معمل التشريح. ففي هذه الرواية يتناول الأديب العلاقة بين الجثة والوجود الواعي. ويتمثل محورها البؤري في فقدان الحرية، التي يعتقد الكاتب أنها أصبحت مرضاً اجتماعياً عاماً، يمكن أن نشبهه بوجود جثة. وهذا العمل يعد ناجحاً للغاية في تصوير المشكلات الوجودية للموت وفقدان الحرية في يابان ما بعد الحرب.
- وفي العام التالي عام 1958م، والأديب في سن الثالثة والعشرين من عمره، أصدر روايته الأخرى تحت عنوان) الطريدة أو الغنيمة (Shiiku ونال عنها جائزة أدبية رفيعة هي جائزة (أكوتاجاوا الأدبية Akutagawasho ) التاسعة والثلاثين المشهورة في الساحة الأدبية اليابانية، نسبة للأديب الروائي رائد القصة القصيرة في العصر الحديث الكاتب (اكوتاجاوا ريونوسكيه Akutagawa Ryunosuke 1892 - 1927م). وتقع أحداث هذه الرواية في قرية يابانية أثناء الحرب العالمية الثانية. يأسر الفلاحون جندياً أمريكياً زنجيا ًسقط من الطائرة بالمظلة، ويُمنح قدراً من الحرية ويُسمح له بالتجول داخل القرية. فتصور الرواية باستخدام صور حسية وحية للغاية الأطفال الذين يحتفظون بالجندي الزنجي في خلفية بيئة ريفية تفوح منها رغم شاعريتها الشديدة. ويبدع الأديب من خلال عيون الأطفال عالماً من البراءة يتوحد فيه الإنسان مع الطبيعة توحداً عضوياً، ويجسد قوة الحياة في عناصر الطبيعة المحيطة بالقرية الصغيرة، حيث تسود حالة من التناغم والوفاق تُلغى معها الحواجز بين أهل القرية وأسيرهم. إلا أن هذه الحالة لا تستمر إذ يجب تسليم الجندي الأمريكي إلى السلطات المحلية. وعندما يكشف له الصبي الصغير عن ذلك يأخذه الجندي كرهينة. وتنتهي القصة على نحو مأساوي فيُقتل الجندي الأمريكي.
والقصة تعكس تأثير تجربة الحرب على الكاتب الذي كان في صباه آنذاك. وأعلن النقاد وقتها أنه الكاتب الواعد من بعد الأديب (ميشيما يوكيو Mishima Yukio 1925 - 1970م). ومنذ تلك الفترة بدأت تزداد شهرته كروائي، وأصبح اسمه يندرج ضمن أدباء الجيل الجديد ما بعد الحرب مع. الأدباء( إشيهارا شينتارو Ishihara Shintaro 1932م)، ( والكاتب كايكو تاكيشي Kaiko Takeshi 1930 - 1989م) ، والأديب( إتو جون م 1933).
- وفي العام نفسه أصدر الأديب باكورة الرواية الطويلة بعنوان (اقطف براعم الأزهار وأطلق النار على الأطفالMemushiri Kouchi ). وبها بدأ يثبت أقدامه على الساحة الأدبية اليابانية للأدب المعاصر. تقع أحداث الرواية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية . فتحكي قصة مجموعة من الأطفال تم إخلاؤهم من إصلاحية إلى قرية جبلية صغيرة هجرها الفلاحون مع انتشار وباء الطاعون ويبدع الأطفال عالمهم بأنفسهم, حراً وثرياً للغاية, وتتبدل عداوتهم الأولية تجاه بعضهم بعضاً إلى إحساس بالمصير المشترك الذي يجمع بينهم، كما أنهم يقيمون علاقة إنسانية مع صبي كوري يعاني التمييز العنصري ضده, غير أن كل ذلك ينتهي عندما يعود القرويون مرة اخرى للقرية.
وأيضاً وفي العام نفسه أصدر الأديب مجموعة من القصص القصيرة بعنوان اقفز قبل أن تشاهد (Miru maeni tobe).
- وفي عام 1959م، وفي سن الرابعة والعشرين من عمره، قدم الأديب أطروحة الماجستير للتخرج، بعنوان (التخيل في روايات سارتر Sarutoru no Shosetsu ni okeru Imêji Nitsuite).
وفي العام نفسه أصدر الأديب روايته الطويلة عصرنا (Warera no Jidai) وتعرض بعد ظهورها لهجوم النقاد عليه بسبب الروح التشاؤمية القاتمة والعدمية للرواية في وقت كان يعتقد أنه العصر الجديد المشرق من التاريخ الياباني الحديث بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. والتي تحولت إلى فيلم سينمائي في اليابان في العام نفسه. ويصور فيها الأديب البطل والإحباط الذي يحاصره، ولا يستطيع أن يجد مخرجاً لإحباطه ويصوره على أنه عاجز جنسياً لأسباب سيكولوجية. فرغم أن امرأة تكبره تحبه فإنه يهرب من عالمها النسائي. ويستخدم الأديب في هذه الرواية صوراً هابطة ليصور الموت تلميحاً على أنه حيوان مستأنس. والهدف الرئيسي للكاتب في هذه الرواية هو تصوير شباب اليابان في فترة ما بعد الحرب باستخدام صور هابطة .
في عام 1960 م، والأديب في سن الخامسة والعشرين من عمره، بدأت تزداد نشاطاته الأدبية بالاشتراك في العديد من الندوات والمؤتمرات الأدبية في الساحة الأدبية اليابانية وشكل مع أدباء الجيل الجديد أو جيل ما بعد الحرب أمثال الأديب (إشيهارا شينتارو Ishihara Shintaro 1932م)، والأديب (إتو جون Eto Jun 1933م) رابطة شبان اليابان (Wakai Nihon no Kai) بهدف إحياء قوة النقد والإبداع عن طريق استعادة الإدراك والإحساس لدى المثقفين اليابانيين، ومعارضة الحكومة في معاهدة الأمن المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان كما عبرت عن قلقها الشديد للفوضى السياسية التي تلت ذلك. ولكن نشب صراع كبير بين أفراد الرابطة، وخصوصاً بين الأديب (أويه كنزابوروOoe Kenzaburo ). والأديب (إشيهارا شينتارو Ishihara Shintaro 1932م)، والأديب (إتو جون Eto Jun 1933م )، وتفككت الرابطة لاختلاف الآراء بين القوى اليابانية المحافظة والقوة التقدمية بشأن معاهدة الأمن المبرمة بين الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
وفي العام نفسه قام برحلة إلى جمهورية الصين الشعبية لأول مرة في حياته ممثلاً عن الكتاب اليابانيين الشبان مع الأديب المشهور (نوما هيروشي 1915 - 1991م)، وتقابل هناك مع الزعيم الصيني ماوتسي تونج. وأثنى على النظام الشيوعي إلى أن قامت الصين بتجاربها النووية الأولى التي انتقدها فى عمله الأدبي الطويل ( الشاب أو الفتى المزيف Seinen no Omei ) الذي تحول إلى فيلم سينمائي فيما بعد.
في عام 1961م، والأديب في سن السادسة والعشرين، أصدر عملين أدبيين يعكسان حادث اغتيال السيد أسانوما Asanuma رئيس الحزب الاشتراكي، العمل الأدبي (سبعة عشر (Sebinteîn وتنعكس فيها أيضاً فكرة الموت المستأنس كما في رواية (عصرناWarera no Jidai ) التي كتبها عام 1959م، فهذا العمل يصور توق البطل إلى لحظة من أجل تحقيق الذات فيتوق للموت من أجل الإمبراطور.
والعمل الأدبي موت شاب سياسي (Seiji Shonen Shisu)، هذا العمل يصور اغتيال شاب يميني لرئيس الحزب الياباني الديمقراطي، وأثارت هذه الرواية تهديدات له ولناشره من الحزب اليميني الياباني الديمقراطي واشترك في العام نفسه في مؤتمر الكتاب الآسيويين والإفريقيين المنعقد في طوكيو بهدف إيجاد الخلق الأدبي للشعوب الآسيوية والإفريقية، والتعرف على الأدب والفن في مناطق البلاد الآسيوية والإفريقية، بالإضافة إلى تبادل الأعمال الأدبية مثل الروايات والأشعار، فان ذلك سيشجع الأدباء اليابانيين غير الراضين عن وضع الفنون الراهنة التي صنعتها الظروف الاجتماعية السائدة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية . وفي العام نفسه سافر إلى روسيا وغرب أوروبا حيث التقى الكاتب الفرنسي (جان بول سارتر Jean Paul Sartre 1905 - 1980م) في باريس، وكتب سلسلة من المقالات عن الشباب في الغرب.وفي عام 1962م، والأديب في سن السابعة والعشرين من عمره، نشر العمل الأدبي الطويل (الشاب أو الفتى الذي وصل متأخرا ً .(Okuretekita Seinen ويتناول في هذا العمل تجاربه القاسية بعد الحرب العالمية الثانية بعد انتقاله من القرية إلى المدينة ويصور فيها البطل حين كان صغيراً جداً أثناء الحرب، ولذا فلم يستطع أن يحارب كجندي وعندما تنتهي الحرب يبدو في حال من الرِِثاء عاجزاً عن فعل أي شيء. ففي هذه الرواية يلجأ الكاتب إلى صور القرية في المناطق الريفية ليصور الاغتراب الشديد الذي يستشعره رجل من الريف في المدينة مما يدفعه إلى السلوك الجنسي .
- وفي عام 1963م، والأديب في سن الثامنة والعشرين من عمره، ولد ابنه الأكبر هيكاري بنوع من التشوه الخلقي، أي فتق في المخ الذي نتج عنه ورم بأنسجة المخ. وفي العام نفسه نشر رواية (صرخات (Sakebigoe)، وفي العام التالي 1964م، والأديب في سن التاسعة والعشرين من عمره، قام بزيارة لمدينة هيروشيما للاطلاع على الدمار الذري الذي لحق بها، وانعكست هذه الزيارة على العمل الأدبي (ملاحظات على هيروشيما Hiroshima Noto ). وفي العام نفسه نشر الأديب عمله الأدبي القصير( اجوي وحشي السماء Sora no Kaibutsu Aguiî) وفي الرواية يتآمر الأب مع الطبيب على قتل ابنه الذي ولد بورم في المخ. ولكن بعد تشريح الجثة يتضح أنه ورم حميد ويعيش الأب بعد ذلك في حال من الشعور بالإثم يفضي به إلى الجنون فيتخيل ابنه يهبط إليه من السماء ويحادثه إلى أن يلقى مصرعه تحت سيارة وهو يحاول إنقاذه. والرواية تتسم بالخيال والتي جعلت من الأديب واحداً من أكثر كتاب ما بعد الحرب في اليابان أصالة وإثارة.
وفي العام نفسه نشر العمل الأدبي الطويل (تجربة شخصيةKojintekina Taiken ) ونال عنها جائزة (شينتشو Shincho) الأدبية الحادية عشرة. وهى أول رواية تترجم له إلى اللغة الإنجليزية. وتعتبر هذه الرواية أهم أعماله الأدبية تعكس تجربة الأديب الذاتية ومعاناته الشخصية بالنسبة لابنه المعاق ذهنياً فالرواية تحكي قصة شاب يُرزق بطفل مصاب عند ولادته بفتق في المخ مما يجعله يبدو وكأن له رأسين ويبدو عليه أنه إذا عاش فسيحيى حياة كالموت. ويتآمر هذا الشاب مع طبيب المستشفى على التخلص من الطفل. تجسد الرواية الرعب الذي يعيش فيه الأب الشاب في محاولته للتخلص من الابن, وفي النهاية يقرر أن يتحمل مسؤوليته كأب من أجل سعادة ابنه الذي حاول قتله, وجعل الأديب من ابنه شخصاً مستقلاً، وأصبح موسيقياً شهيراً في اليابان رغم إعاقته، بفضل مجهودات أبيه ورعايته. ويبدو أن تجربته القاسية مع ابنه أخمدت نيران المغامرة والتمرد التي كانت مشتعلة في أعماله التي سبقت ميلاد ابنه. وأيضاً أصدر من خلال دار نشر (بونجيشونشو شينشا (Bungeishunshu shinsha) عمله الأدبي الطويل (مغامرات الحياة اليوميةNichijoseikatsu noboken ).
- وفي عام 1965م، والأديب في سن الثلاثين من عمره، نشر العمل الأدبي (ملاحظات على هيروشيما Hiroshima Noto) وعالج فيها الكارثة التي حلت بهيروشيما، والجانب المأساوي للظروف البشرية في عالم لا يعرف الشفقة ولا الرحمة ويتخبط في الاضطهاد. وفي العام نفسه قام الأديب بنشر المجموعة الأولى من مقالاته تحت اسم عبور الحبل المهيب (Genshokuna Tsuna Watari) وفي العام نفسه شارك في مؤتمر كيسنجر الدولي بجامعة هارفارد بأمريكا. وفي عام 1967م، وفي سن الثانية والثلاثين، كتب الأديب العمل الأدبي الطويل) مباراة كرة القدم (في العام الأول من (عهد مانئن (Mannengannen no Futtoboru وترجم إلى الإنجليزية تحت مسمى آخر) الصرخة الصامتة (The Silent Cry) في عام 1974م. ونال عنها جائزة (تانيزاكي جون إيتشيروالأدبية Tanizaki Junichirosho الثلاثين المشهورة في الساحة الأدبية اليابانية، نسبة للأديب الروائي رائد مدرسة الأسلوب الحسي الجمالي الأدبي Tanbishugi في العصر الحديث الكاتب (تانيزاكي جون إيتشيرو Tanizaki Junichiro 1886 - 1965م). ويصور الكاتب في هذه الرواية الشباب الحديث بإشارات متعددة إلى ثورة الفلاحين التي وقعت في العام الأول من عهد مانين 1860م، فالراوي يعاني إحساساً بالاغتراب عن الواقع . وتبدأ الرواية به وهو جالس في قاع حفرة وهو مشهد يكشف عن قلقه بصدد الوجود نفسه. والسبب في هذا القلق هو ولادة طفل مشوه له. كذلك تطارده ذكرى صديقه النشط سياسياً الذي أصيب بالجنون وانتحر بصورة غريبة عقب إخفاق حملة مناهضة لمعاهدة الأمن المبرمة بين أمريكا واليابان. والأحداث التي تصفها الرواية تقع في قرية جبلية في ريف جزيرة شيكوكو حيث يعود البطل نيدوكورو ميتسوسابورو وأخوه الأصغر نيدوكورو تاكاشي إلى قريتهم. ويقوم تاكاشي بإثارة شباب الفلاحين بالأفكار السياسية ويدربهم ويشترك معهم في نهب سوبر ماركت القرية مقلداً ثورة الفلاحين في العصور الإقطاعية.
ومحاولة البطل اغتصاب فتاة من القرية. ويعتبر الأخ الأصغر تاكاشي قائد ثورة الفلاحين والتي تنتهي بالفشل في النهاية، ثم يوضع الأخ الأصغر فى السجن حتى وفاته. ففي الرواية يتداخل الماضي مع الحاضر ليشكلا نسيجاً معقداً تمتزج فيه الأفكار والأفعال العنيفة .في عام 1968م.
والأديب في سن الثالثة والثلاثين من عمره، نشر الأديب المجموعة الثانية من مقالاته تحت اسم (الهدف المتواصل Jizokusuru Shi).
وفي عام 1969م، والأديب في سن الرابعة والثلاثين من عمره، نشر العمل الأدبي (قولوا لنا كيف نتجاوزجنوننا (Warera no Kyoki o Ikinobirumichi o oshieyo) وتعكس هذه الرواية انشغال الكاتب بأخطار التسلح والتهديد النووي، كما أنها تعد محاولة لإلقاء الضوء على التشويه الداخلي للحياة المعاصرة وتتعامل مع نوعين من الجنون يهددننا، الجنون الكامن بداخلنا, والجنون المتفشي في العالم الخارجي.
- في عام 1970م، والأديب في سن الخامسة والثلاثين من عمره، نشر مجموعة مقالات ألقيت في محاضرات له تحت اسم( الخيال في العصر الذري Kakujidai no Sozo). وفيها أيضاً يعكس الأديب قضية التسلح والتهديد النووي للعالم. ونشر أيضاً في العام نفسه (إيواناميIwanamishoten) العمل الأدبي) ملاحظات على أوكيناوا (Okinawa Noto ويحكي فيها عن تجربته عندما سافر إلى (اوكيناوا Okinawa عام 1965م)، ويصور تجربة اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. وعن تجربته الذاتية. ويصور فيها أيضا الجهود والمساعي لعودة أوكيناوا واستعادتها من الاحتلال الأمريكي واحتجاج الجماعات اليسارية على وجود القواعد الأمريكية .وفي حوار مع أديب أمريكا الشمالية (Appudaiku) الذي زار اليابان في ذلك العمل الأدبي (ماذا نبحث من خلال الأدب (Bungaku niyotte nani o motomeruka) واشترك في العام نفسه في مؤتمر الكتاب الآسيويين والإفريقيين المنعقد في نيودلهي بالهند، بهدف التعرف على الأدب والفن في مناطق البلاد الآسيوية والإفريقية، بالإضافة إلى تبادل الأعمال الأدبية بين الأدباء الآسيويين والإفريقيين .وأثناء سفره علم نبأ انتحار الأديب الياباني (ميشيما يوكيو Mishima Yukio 1925 - 1970م). الذي انتحر بطريقة سيبُّوكو Seppuku أي شق البطن.
- وفي عام 1971م، والأديب في سن السادسة والثلاثين من عمره نشر الأديب العمل الأدبي (إنسان ما بعد القنبلة الذرية Genbaku ato no ningen) هذا العمل مكتوب على شكل دردشة في حوار مع (شيجتوفومي أو (Shigeto Fumito ) مدير مستشفى هيروشيما للناجين والأحياء من القنبلة الذرية .في عام 1972م، والأديب في سن السابعة والثلاثين من عمره، نشر الأديب المجموعه الثالثة من مقالاته تحت اسم (يوم انقراض الحيتان) Kujira no shimetsusuru hi.
وفي عام 1973م، والأديب في سن الثامنة والثلاثين من عمره، نشر الأديب مجموعة من المقالات الطويلة في عمل أدبي تحت اسم( ما بعد الحرب المعاصرة Dojidai toshite no sengo) من خلال دار نشر (كودانشا Kodansha)، يعالج من خلالها نظريته حول عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية .وهذا النوع من الأدب يعرف باسم (الأدب الإعلاني bungakuteki Manifuesuto ) وفي العام نفسه نشر عمله الأدبي الطويل (الطوفان غمر روحي Gyozui wa Waga tamashii ni Oyobi من جزءين . ونال عنها جائزة (نوما الأدبية السادسة والعشرينNomabungeisho ).
- والأديب في سن الثامنة والأربعين من عمره، كتب عمله الأدبي (استيقظوا أيها الشباب الحديث Atarashi hi yo Mezameyo ).
- وفي عام 1987م وكتب العمل الأدبي (رسائل إلى سنوات الحنين Natsukashii toshi e noTegami) وفي هذا العمل يعود إلى سنوات التقاليد والعادات الاجتماعية الراسخة في القرية اليابانية، ويعلق قائلاً: -
"لو قمنا بتقنية روحنا، فإننا بلا شك نستطيع العودة إلى زمن العجائب التي تعرفها الغابة، والتي يحملها كل شخص منا في حياته، ونشعر بها وتجمعنا معاً في شيء واحد يُسمى الحنين".
- وفي عام 1994م نشر الجزء الأول والثاني من العمل الأدبي الطويل ( الشجرة الخضراء التي تلتهب أو تحترق Moeagaru Midori no ki) وفي العام نفسه في يوم الثالث عشر من شهر أكتوبر نال الأديب الروائي (أويه كنزابورو (Ooe Kenzaburo) أرفع جائزة أدبية في العالم وهي جائزة نوبل في الآدب، وبهذا يعتبر الأديب الثاني في اليابان الذي نال جائزة نوبل بعد الأديب (كاواباتا ياسوناري Kawabata Yasunari 1899 - 1972م) الذي نالها عام 1968م .
المراحل الأدبية لحياة الأديب
أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo
وبعد استعراض التاريخ الأدبي للأديب الروائي أويه كنزابورو (Ooe Kenzaburo) يمكن أن نقسم حياته الأدبية إلى عدة مراحل، ونستكشف إلى أي مدى أثرت حياته الشخصية على أعماله الروائية الصادقة المعبرة عن تجربته الذاتية :
المرحلة الأولى
وهى مرحلة التأثر بالغرب والأدباء والفلاسفة الغربيين أمثال الروائي الروسي ( ثيودور دستويفسكي 1821 - 1881م) وهيجل ودانتي والكاتب الفرنسي) رابليه فرانسوا 1495 - 1553م) والروائي الفرنسي) بلزاك أورنودو 1799 - 1850م) والروائي الفرنسي) كامو البيرت 1913 - 1960م (والأديب) ييتس 1865 - 1939م). وبخاصة الفيلسوف الروائي الفرنسي جان بول سارتر. الذي لعبت أفكاره الوجودية دوراً حاسماً بالنسبة إليه. وتعلم الكثير من هنري ميلر ونورمان مايلر. وهى مرحلة ما بعد الحرب.
المرحلة الثانية من حياة الأديب
وهي مرحلة الستينيات. تعتبر السنوات الأولى من الستينيات هي الأكثر غزارة في حياة الكاتب. تخرج الأديب في جامعة طوكيو عام 1959م، وبدأ يبحث عن هوية اليابان الضائعة بعد الحرب والتي شغلت الكثير من الكتاب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فبدأت تتحول كتاباته الأدبية نحو القضايا السياسية والاجتماعية والمطالبة بتأكيد القيم الجوهرية الإنسانية وقضايا السلام واحترام حق الإنسان في الحياة، وخصوصاً قضايا ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت الشغل الشاغل لجيل ما بعد الهزيمة العسكرية التي كان لها انعكاسات هائلة على جميع مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية وبالأحرى الأدب الياباني، فأصبح الأديب منشغلاً بأخلاقيات ذلك الجيل، وما تركته الحرب الذرية من بصمات ضاربة على المسار الأخلاقي لجيل تلك الحقبة المعتمة من تاريخ اليابان، وخصوصاً ما شهدته تلك الفترة من انحرافات الشباب الياباني, والصراع بين القيم التقليدية والتغريب، وأيضاً هي فترة انشغال الكاتب بقضية التسلح والتهديد النووي وكما يتجلى ذلك في أعمال تلك الفترة.
وخلال هذه المرحلة الأدبية من حياة الأديب حدث حدثان مهمان كان لهما الأثر الواضح على حياته الشخصية والأدبية معاً، أولهما عام 1963م إنجاب طفل مشوه بورم في الجمجمة بخلفية رأسه، فهي من الأحداث المصيرية في حياة الأديب .وكان على الروائي أن يختار ما بين الموافقة على إجراء عملية جراحية لابنه لاستـئصال هذا الورم قد تؤدي إلى تلف حاد بالمخ أو أن يترك ابنه لمصيره المحتوم، ولما كان الخيار صعباً بالنسبة له فلم يحتمل الموقف، فهرب إلى مدينة هيروشيما وتقابل مع مدير مستشفى الناجين والأحياء من القنبلة الذرية والأطباء الذين كانوا يعملون في خدمتهم لتخفيف آلام المرضى, وكتب العمل الأدبي) إنسان ما بعد القنبلة الذرية (Genbaku ato no ningen فهو على شكل حوار مع شيجتوفومتي او Shigeto Fumito مدير مستشفى ومنذ هذه الزيارة لمستشفى هيروشيما تعلم الأديب طبيعة الحياة الإنسانية التي لا تفنى، وأنه يجب أن يعيش مع ابنه كما يفعل الأطباء مع ضحايا القنبلة الذرية. وعاد إلى طوكيو وطلب من الأطباء إجراء العملية الجراحية لابن . وبعد إجراء العملية عانى ابنه من تلف بالمخ، وأصبح لا يستطيع الحديث والتجاوب مع الأصوات، وعند بلوغ ابنه الخامسة أصبح يتمتع بحاسة سمع جيدة فيقول الأديب في هذا الشأن:
"يبدو لنا أنه يستمتع عندما ندير له أحد الأشرطة المسجلة الذي يحتوي على قرابة مائة وخمسين صوتاً مختلفاً من أصوات الطيور, ذلك هو كل ما استطعنا تقديمه لهذا الطفل كوالدين، أن نجعله ينصت إلى مسجل بأغاني طيور برية. ولكن عندما بلغ الطفل عامه السادس فاجأنا بأنه يستطيع أن يميز بين الأصوات المختلفة. ليس هذا فحسب، بل استطاع أن ينطق بأسماء كل هذه الطيور التي تعرف إليها عبر المسجل, ولقد شجعنا ذلك على التحدث إليه باستمرار, وبعد تلك الحادثة، داوم الولد على سماع الموسيقى, وكان قادراً على تمييز المقطوعات الموسيقية والتعرف إليها مثل أعمال موزارت وباخ الموسيقية".
وقد أثرت هذه الولادة كثيراً في الكاتب الذي اعتبر أن ما أصاب الابن بمنزلة أحد آثار التلوث النووي الذي أصاب أبناء جيله، وكان ذلك الحدث البشع في حياته سببا لتحوله إلى النضال العام ضد التسلح النووي. وأثَّر ذلك أيضاً على نتاجه الأدبي كله، فجعل ابنه المعاق بطلاً لعدد لا بأس به من الروايات الأدبية والقصائد الشعرية. لذا قرر الكاتب أن يُدخل هذا الابن ليس فقط في حياته اليومية بل أيضاً في عالمه الروائي الذي يخلو من السقوط في التكلف العاطفي. انعكس هذا الحدث في عمله الأدبي الطويل) تجربة شخصية (Kojintekina Taiken) ويبدو أن تجربته القاسية مع ابنه أخمدت نيران المغامرة والتمرد التي كانت مشتعلة في أعماله التي سبقت ميلاد ابنه, وحول ميلاد ابنه داخل الرواية قال- : "أصابتني الشجاعة وأنا أمني نفسي بأن يكون لي طفل، لكن هذه الأمنية لم تلبث أن أصبحت مأساة "فتحكي لنا هذه الرواية عن أحزان أب يتردد بين أن يتحمل مسؤولية الابن المعاق، وبين أن يقوم الأب بخنق الابن لكي يريحه من العذاب الذي ينتظره, ومنذ ذلك الوقت خصص الكاتب أعماله للحديث عن هذا الابن المعاق وتطوره وتفاعله مع الحياة .فيقول أيضاً في روايته : -
"الشيء الأكثر أهمية في هذا العالم هو ابني هيكاري، إنه يعيش الآن في مؤسسة لرعاية المرضى العقليين، إنه يعزف على البيانو، وهذا يدفعني دائماً إلى أن أتكلم عن الشيء نفسه. ماذا أفعل من أجل ابني، إنني عاجز عن فعل شيء له في الوقت الذي نستطيع فيه أن نغزو الفضاء، ولذا فقد كرست أدبي كي يجيب أحد عن مثل هذه التساؤلات".
وفي نهاية الأمر استطاع أويه كنزابور وأن يجعل من ابنه إنساناً مستقلاً، وبالفعل أصبح موسيقياً معروفا. وبعدها أعلن أويه كنزابورو أنه سيتوقف عن الكتابة عن ابنه المعاق الذي حقق الاستقلالية بنفسه. والحدث الثاني كان عام 1964م، والأديب في سن التاسعة والعشرين من عمره، هو زيارته لمدينة هيروشيما للاطلاع على الدمار الذري الذي لحق بها فوظف قلمه الأدبي في كتابة المقالات والكتب من أجل مناهضة التسلح النووي وتهديده مثل) ملاحظات على هيروشيما Hiroshima Noto 1965م) الذي نشره في سلسلة في) مجلة العالم (Sekai والعمل الأدبي (قولوا لنا كيف نتجاوز جنوننا Warera no Kyoki o Ikinobirumichi o oshieyo 1969م), والعمل الأدبي ملاحظات على اوكيناواOkinawa Noto 1970م، ومجموعة المقالات الخيال في العصر الذري (Kakujidai no Sozo 1970م).
وخلال هذه المرحلة الأدبية الغزيرة، كتب العديد من الأعمال الأدبية, ففي عام 1964م نشر الأديب عمله الأدبي القصير اجوي وحشي السماء (Sora no Kaibutsu Aguiî) والعمل الأدبي الطويل مباراة كرة القدم في العام الأول من عهد مانئن (Manengannen no Futtoboru الذي صدر عام 1967م من خلال دار نشر) كودانشا (kodansha وترجم إلى الإنجليزية تحت اسم) الصرخة الصامتة (The Silent Cry) في عام 1974م، وفي فرنسا ترجمت تحت اسم رهان قرن من الزمن أو رهان القرن ونال عنها جائزة تانيزاكي جونيتشيرو الأدبية (Tanizaki Junichirosho الثلاثين المشهورة في الساحة الأدبية اليابانية والعمل الأدبي) علمنا أن نتجاوز جنوننا) وتعد هذه الأعمال علامات مضيئة في سماء الرواية اليابانية المعاصرة.
المرحلة الثالثة من حياة الأديب
وهي فترة التسعينيات، وفيها نال الأديب أرفع جائزة أدبية في العالم وهي جائزة نوبل في الآداب عام 1994م، وفوزه بهذه الجائزة الأدبية الكبرى مفاجأة له، واستقبل النبأ بتواضع دون أن يخفي فرحاً عظيماً وتمنى أن يتقاسم هذه الجائزة مع أقرانه اليابانيين الكبار الذين رحلوا عن الحياة أمثال الأدباء (إيبوسيه ماسوجي Ibuse Masuji 1898 - 1993م) والروائي) أوكا شوهي (oka Shuhei 1909م - 1988م)، والأديب آبيه كوبوAbe Kobo 1924 - 1993م. ويقول الأديب أويه :-
"بفضل ما ورثناه عنهم، ولأن الصدفة أرادت أن أكون على قيد الحياة حتى الآن، لي الشرف أن أحمل هذه الجائزة".
وهو ثاني أديب ياباني ينال جائزة نوبل في الآداب بعد ربع قرن من الأديب كاواباتا ياسوناري Kawabata Yasunari الحائز على الجائزة في عام 1968م . وبهذا يصل الأدب الياباني إلى العالمية في النصف الثاني من القرن العشرين وقد قالت الأكاديمية السويدية باستوكهولم عند منحه الجائزة في بيانها:-
"إن تجربة الحرب وانهيار اليابان في العام 1945م أثَّرا على تطوره بشكل قوي" وتابعت أنها اختارت أويه كنزابورو الذي شكَّل بقوة وشاعرية عالماً خيالياً حيث تتكثف الحياة والأسطورة في صورة مؤثرة لوضع الإنسان في العالم المعاصر وأضافت:-
"إن استسلام اليابان بعد إلقاء القنابل الذرية في العام 1945م شكل للشاب أويه صدمة عنيفة, وترك هذا الذل في نفسه أثراً عميقاً وميَّز الكثير من أعماله، وأضافت الأكاديمية :-
"إن رواية رهان القرن 1967م أو (الصرخة الصامتة (The Silent Cry هي عمل أساسي لأويه . فهناك مسألة ثورة فاشلة لكن وفي العمق هناك علاقات البشر في عالم لا يمكن الدخول إليه حيث تتداخل المعارف والأحلام والطموح في ما بينها.
وأوضحت: "عرفت دراساته توجهاً غربياً، وتأثر بقوة بثقافة الغرب, ومن بين الكتاب الذين نعددهم نرى دانتي ورابليه وبالزاك وبخاصة سارتر الذي لعبت أفكاره الوجودية دوراً حاسماً بالنسبة إليه". وما جاء أيضاً في حيثيات قرار الأكاديمية السويدية يبين سبب اختياره لهذه الجائزة. فقد عُرف منذ بداية حياته الأدبية في الخمسينيات بالشخصية المناضلة المدافعة عن حقون الإنسان، والمعارضة للتسلح النووي، والمعالجة للقضايا التي تتعلق بالعلاقات الإنسانية .
وقال الأديب أويه كنزابورو في مقابلة صحافية غداة منحه جائزة نوبل من قبل الأكاديمية الملكية السويدية في استوكهولم: هذا الشرف هو شرف لكل الكتاب الآسيويين" مضيفاً: "آمل أن أستطيع بفضل هذه الجائزة أن أنشر الأدب الآسيوي في باقي العالم" وأوضح أن : -
"آسيا تنتج أدباً يجب أن يكون معروفاً جيداً في الخارج وبنوع خاص أدب الصين . وإني أقدر الدور الذي تلعبه الصين في العالم ولكني أدين بحزم القمع الذي يتعرض له الكتاب الشباب الصينيون منذ أحداث ساحة(تيان آن مين) فقبل ذلك كان هناك العديد من الكتاب الشباب الموهوبين في الصين.
بعد فوز الأديب اويه كنزابورو بالجائزة، كتب السيد فؤاد أحمد عن فوز الأديب اويه كنزابور بجائزة نوبل وكذلك بعض آراء الكتاب والنقاد اليابانيين بصدد هذا الفوز فيقول:-
قال الكاتب شيمادا ماساهيكو : إنني فرح جداً لأن هذه الجائزة ستجذب انتباه العالم إلى الأدب الياباني.. وتوجد عادة فجوة كبيرة في الاعتراف بمؤلف قبل وبعد نيله جائزة نوبل للآداب. وفي المستقبل قد يقتل المديح اويه, وسيكون من سوء الحظ أن يقع الأديب اويه كنزابورو الذي احترمه جداً في فخ التعليقات التي تمدحه, وعليه فإني أعتقد أنه إذا أخضع الأدب الذي أنتجه اويه حتى الآن إلى النقد على مستويات عدة، فسيكون ذلك إشارة إلى نضج الأدب الياباني.
٣ - سمات أدب أويه كنزابورو Ooe Kenzaburo
إن من أبرز سمات أدب الأديب أويه كنزابورو هو وجود العلاقة الوثيقة بين التجربة الشخصية والأدب الذي يكتبه، فتجربة الأديب الشخصية الحياتية بإنجاب طفل معاق انعكست على معظم أعمال الأديب الأدبية في معظم حياته الأدبية مثل العمل الأدبي الكبير) تجربة شخصية عام 1964م) .فيقول في هذا الشأن "الشيء الأكثر أهمية في هذا العالم هو ابني هيكاري المعاق".
والسمة الأخرى هي إبراز الحادث المأسوي الذي تعرضت له اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما في أدبه، مثل العمل الأدبي المعروف) قولوا لنا كيف نتجاوز جنوننا عام 1969م)، والإسهاب في الوصف الدقيق لضحايا القنبلة الذرية وذلك عن طريق الزيارة المدينة على الواقع وإجراء الحوار مع ضحايا القنبلة وأطباء الضحايا فأصبح أسلوب الأديب يتميز بالواقعية، فهذه السمة تنعكس في عمله الأدب (ملاحظات على هيروشيما عام 1965م)، والعمل الأدبي (إنسان ما بعد القنبلة الذرية عام 1971م).
وهناك سمة أخرى لأدب أويه كنزابورو وجديرة بالذكر والشغل الشاغل في الوقت الحاضر وهى اهتمامه بقضية التسلح والتهديد النووي للعالم كما في العمل (الخيال في العصر الذري عام 1970م). واهتمام الأديب في أدبه بأفريقيا على الرغم أنه لم يزرها، فأبطال رواياته مثل تجربة شخصية ومغامرات الحياة اليومية والصرخة الصامتة يحاولون الذهاب إلى إفريقيا. فيقول الأديب في هذا الشأن : "إفريقيا بالنسبة لي ملاذ رومانسي، خيالي، للاحتماء به من العالم الحقيقي، وبالنسبة لي فإن إفريقيا هى كالهند أو البلاد الآسيوية الأخرى".
وفي الوقت نفسه تتميز بعض أعمال الأديب بالخيال والإثارة كما في عمله الأدبي (اجوي وحشي السماء -1964م) عندما يتخيل الأديب ابنه المعاق يهبط إليه من السماء. وتتسم بعض أعمالة الأدبية بالروح التشاؤمية القاتمة والعدمية مثل أعماله الأدبية) إسراف الموتى -1957م) و) الغنيمة- 1958م (، و) اقطف براعم الظهور وأطلق النار على الأطفال- 1958م) وعمله الأدبي الطويل المعروف) عصرنا- 1959م) حيث إنه يصور الموت كالحيوان المستأنس للإنسان.
وعلاوة على ذلك يهتم أدب أويه كنزابورو بالقضايا السياسية المحلية مثل معارضته من خلال الأدب لمعاهدة الزمن المبرمة بين اليابان وأمريكا لدرجة أنه شكل رابطة أدبية مع مجموعة من الأدباء بشأن المعاهدة. وجهوده ومساعيه لعودة جزيرة أوكيناوا من الاحتلال الأمريكي. وذلك من خلال عمله) ملاحظات على اوكيناوا)، وأيضاً عندما صور في روايته (موت شاب سياسي) اغتيال شاب سياسي يميني لرئيس الحزب الياباني الديمقراطي. واهتمامه بالقضايا الدولية مثل معارضته للتسلح والتهديد النووي في العالم .
وأيضاً من سمات أسلوبه الأدبي استخدام الصور الحسية الحية كما في عمله الأدبي (الطريدة 1958م). والدقة في استخدام الكلمة في الرواية الأدبية وعدم حذف الضمائر، والبعد عن الغموض في الأسلوب الأدبي الذي اتسم به الأدباء المعاصرون الأوائل مثل كاواباتا ياسوناري. لذا نجد توافق أسلوب الأديب مع إيقاعات الأسلوب المعاصر في عالم الأدب، فقد استطاع أن يطور أسلوبه الأدبي بتأثره بالكتاب الغربيين . بالإضافة إلى ذلك استخدام الكلمات الأجنبية المستوردة وكتاباتها بحروف الكاتاكانا فيقول في هذا الصدد في أحد لقاءاته الأدبية: "فقد حاولت بدوري خلق أسلوب جديد للرواية، تحت تأثير استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية".
لذا أصبحت لديه القدرة الأدبية على تطوير الأسلوب الأدبي الياباني المعاصر، وانعكس ذلك بفوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1994م . فأسلوب الأديب أويه كنزابورو شاعري قوي مؤثر، أبدع به أدباً يصور عالماً خيالياً يجمع بين الأسطورة والواقع أثناء تشريحه للإنسان في العالم المعاصر. وهكذا ساهم أويه كنزابورو في حركة تطوير أدب اليابان ما بعد الحرب. ويمكننا أن نقول إن الأديب أويه كنزابورو استطاع أن يوظف قلمه الأدبي منذ بداية حياته الأدبية في الخمسينيات في كتابة المقالات والروايات التي تصور المأساة النووية التي تعرضت لها اليابان خلال الحرب العالمية الثانية .واعتبر أن ما أصاب ابنه الكبير بمنزلة أحد آثار هذا التلوث النووي الذي أصاب أبناء جيله، ويعانون منه حتى وقتنا الحاضر، وكان ذلك الحدث البشع في حياته سبباً لتحوله إلى النضال العام ضد التسلح النووي. وأثَّر ذلك أيضاً على نتاجه الأدبي كله، فجعل ابنه المعاق بطلاً لعدد لا بأس به من الروايات والقصائد. فهو معروف أيضاً بأفكاره المعادية للأنظمة العسكرية. ففي عام 1975م أعلن إضراباً عن الطعام احتجاجاً على اعتقال أحد الشعراء المنشقين في سول عاصمة كوريا الجنوبية. وأدان القمع الذي تعرض له الكتاب الشباب الصينيون منذ أحداث) ساحة تيان آن مين .( وأيضاً كرس نفسه وقلمه الأدبي للاهتمام بقضايا العالم الثالث ومشكلاته. والدفاع عن حقوق الإنسان. وأعماله الأدبية تمثل قمة الإبداع الأدبي الياباني ما بعد الحرب، فهي مرآة حقيقية عاكسة لمجتمع اليابان قبل إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما، ومجتمع اليابان بعد إسقاط القنبلة.
الخاتمة:
مع حصول الأديب "كاواباتا ياسوناري kawabata yasunari 1899 – 1972" عام 1968 جائزة نوبل العالمية للأدب، يعتبر أول أديب أسيوي، والأديب الثاني "كنزابورو اويه Ooe kenzaburo 1935-2023"، يعتبر ثاني أديب أسيوي الذي نالها عام 1994 ، وبهذا استطاع الأدب اليابانى أن يصل ويعبر إلي العالمية في الأدب.