«اللغة العربية كائن حي» .. عبقرية جرجي زيدان في دراسة اللغة والحفاظ على الهوية الثقافية
في اليوم العالمي للغة العربية، نحتفل بتفرد وجماليات لغتنا العريقة، ولا يمكن الحديث عن اللغة العربية وتاريخها دون ذكر الكاتب والمؤرخ الكبير جرجي زيدان، الذي قدّم إسهامات جليلة في دراسة اللغة وتاريخها.
تعد إصداراته الخاصة باللغة خير دليل على عبقرية هذا المفكر في تحليلها وفهمها، كان زيدان يدرك أهمية اللغة كوسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية والشعور بالانتماء، لذا كرس جزءًا كبيرًا من أعماله لدراسة تاريخ اللغة وتطورها، من أبرز إصداراته "اللغة العربية كائن حي" و"تاريخ آداب اللغة العربية".
اللغة العربية كائن حي
في كتاب "اللغة العربية كائن حي"، تناول جرجي زيدان تاريخ اللغة العربية وما طرأ عليها من تغييرات بالتجدد أو الدثور، بيَّن لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تؤدي الأحوال إلى هذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم.
يقسِّم زيدان المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، العصر الإسلامي، الألفاظ الإدارية والعلمية في الدولة العربية، الألفاظ العامة، الألفاظ المسيحية واليهودية، الألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
كان جرجي زيدان ملمًّا بالحقل اللغوي نظريًا وعمليًا، فمن الناحية النظرية، اهتم بالدراسات المتعلقة بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه.
أما من الناحية العملية، فقد أجاد عدة لغات منها العربية، العبرية، السريانية، اللاتينية، الإنجليزية، الفرنسية، والألمانية، كما كان لديه دراية بالإيطالية والإسبانية، مما يمكنه من فهم ما يقرأ، هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي دفعه إلى تقديم كتابه بشكل متقن وسلس.
تاريخ آداب اللغة العربية
اهتم جرجي زيدان بدراسة تاريخ آداب اللغة العربية، حيث وثق أخبارها في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، يعد هذا الكتاب موسوعة شاملة لتاريخ أفكار ومفكرين الأمة العربية، وترجم علمائها وأدبائها وشعرائها، موضحًا مكانة العرب بين الأمم وتأثير التحولات السياسية على أدبهم عبر العصور.
صوّر زيدان في كتابه أروع الذخائر الأدبية التي أفصحت عن عظمة تاريخ آداب اللغة العربية في مختلف أطوارها، وتميز في دراسته بالتهذيب والتنظيم، وعدم الاكتفاء بقراءة النصوص في محيطها الأدبي، بل يستقصي أخبارها في دروب بيئات المستشرقين، متأثرًا بكتاب «تاريخ الأدب» لبروكلمان. كما يدرس العلل والأسباب السياسية والاجتماعية التي أثَّرت في الآداب العربية عبر العصور، كما يُفرِد فصولًا للحياة العقلية وأثرها في الواقع العربي، ويرى أن الأدب لا يعيش بمعزل عن غيره من شعَب الحياة والفكر في الأمة؛ لأنه النسيج المؤلِّف لملامح طبيعتها الثقافية والفكرية.
قسم زيدان كتابه إلى أربعة أجزاء، جاء الجزء الأول منها ليتناول تاريخ آداب اللغة في العصر الجاهلي، صدر الإسلام، والعصر الأموي حتى سنة 132هـ، بدأ بمقدمات عن معنى آداب اللغة ومصادرها، واستعرض آداب العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام، مركزًا على تأثير الإسلام في الأدب وخاصة في الشعر والخطابة.
غطى الجزء الأول أيضًا العصر الأموي، موضحًا ميزاته وتأثير سياسات بني أمية في الأدب، وتناول العلوم الشرعية واللسانية، وتقسيم الشعراء إلى فئات مختلفة مثل شعراء السياسة والغزل والخلفاء والسكيرين، واختتم بفصول عن الخطابة والخطباء والإنشاء، بينما ركز الجزء الثاني على تاريخ آداب اللغة في العصر العباسي من سنة 132هـ إلى سقوط بغداد سنة 656هـ، وقسمه إلى أربعة عصور بحسب السياسة والأدب والاجتماع، أما الجزء الثالث، فقد شمل الأدب في العصر العباسي الرابع والعصرين المغولي والعثماني، وامتاز بكثرة الكتب وأهميتها للناشئة العربية، فيما تناول الجزء الرابع تاريخ آداب اللغة العربية في عصر النهضة الأدبية الأخيرة، ختامًا للكتاب الذي خدم الناشئة العربية والراغبين في دراسة تاريخ آداب اللغة في كل عصر ومصر.